التلويح شرح الجامع الصحيح

باب الحرير في الحرب

          ░91▒ وذكر في:بَابِ الحَرِيرِ فِي الحَربِ
          حديث أنس أَنَّ النَّبِيَّ صلعم رَخَّصَ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، وَالزُّبَيْرِ فِي قَمِيصٍ مِنْ حَرِيرٍ، مِنْ حِكَّةٍ كَانَتْ بِهِمَا، وَشَكَيَا إِلَيهِ، فَرَأَيتُهُ عَلَيهِمَا فِي غَزَاةٍ [خ¦2919].
          وفي لفظٍ: «رُخِّصَ».
          وهو حديث مخرَّج في الكتب الستَّة، وعند مسلم في السَّفر.
          قال النَّووي: هو صريح الدَّلالة لمذهب الشَّافعي وموافقته أنَّه يجوز لبس الحرير للرَّجل إذا كانت به حكَّة لما فيه من الضَّرورة، وكذلك القمل وما في معناهما. انتهى.
          الحرير ليس باردًا بإجماع من الأطبَّاء، قال الرَّئيس أبو علي يصف الملابس: والبرد في المصقول والكتَّان، والحرُّ في الحرير والأقطان.
          قال: وقال مالك: لا يجوز، وكذا يجوز لبسه عند الضَّرورة كمن فاجأته الحرب ولم يجد غيره، وكمن خاف من حرٍّ أو برد، والصَّحيح عند أصحابنا أنَّه يجوز لبسه للحكة ونحوها في السَّفر والحضر جميعًا، وقال بعض أصحابنا: يختصُّ بالسَّفر، وهو ضعيف.
          قال القرطبي: يدلُّ الحديث على جواز لبسه للضَّرورة، وبه قال بعض أصحاب مالك، وأمَّا مالك فمنعه في الوجهين، والحديث واضح الحجَّة عليه، إلا أن يدَّعيَ الخصوصية لهما ولا يصح، ولعلَّ الحديث لم يبلغه.
          وقال ابن العربي: اختلف العلماء في لباسه على عشرة أقوال:
          الأوَّل: محرَّم بكلِّ حال.
          الثَّاني: يحرم إلا في الحرب.
          الثَّالث: يحرم إلا في السَّفر.
          الرَّابع: يحرم إلَّا في المرض.
          الخامس: يحرم إلا في الغزو.
          السَّادس: يحرم إلا في العَلم.
          السَّابع: يحرم على الرِّجال والنِّساء.
          الثَّامن: يحرم لبسه من فوق دون لبس من أسفل وهو الفُرش، قال أبو حنيفة وابن الماجشون، عللاه؛ لأنَّ الفُرش ليس بلُبس. وهذا خلاف العربيَّة في الصَّحيح.
          قال / أنس: فقمتُ إلى حصير لنا قد اسودَّ من طول ما لُبِس [خ¦380]، وفي صحيح البخاري: النَّهي عن الجلوس على الحرير.
          التَّاسع: مباح بكلِّ حال.
          العاشر: محرَّم وإن خلط مع غيره كالخز.
          أمَّا كونه محرَّماً مطلقًا فلقول النَّبي صلعم: «مَن لَبِسَ الحَرِيرَ فِي الدُّنيَا لَم يَلبَسهُ فِي الآخِرَةِ» [خ¦5832].
          وكرهه عمر بن الخطَّاب في الحرب، وروي ذلك عن ابن محيريز، وعكرمة، وابن سيرين، وقالوا: كراهيته في الحرب أشدُّ لما يرجون من الشَّهادة، قاله ابن بطَّال، وهو قول مالك وأبي حنيفة.
          ومن أباحه في الحرب فلأنَّ المنع منه لأجل الخيلاء وهو جائز في الحرب، فزال الوجه الذي لأجله منع، روى معمر عن ثابت قال: رأيت أنسًا لبس الديباج في فزعة فزعها النَّاس.
          قال ابن بطَّال: وكان على أبي موسى في الحرب الدِّيباج والحرير. وقال عطاء: هو في الحرب سلاح. وأجازه عروة والحسن، وهو قول الشَّافعي وأبي يوسف.
          ومن حديث حجَّاج، عن أبي عثمان: حدَّثني عطاء، عن أسماء أنَّها أخرجت إليهم جبَّة مُزرَّرة بالدِّيباج وقالت: كان النبي صلعم يلبسها في الحرب.
          ومن قال في السَّفر فلحديث الباب، وأمَّا من حرَّمه إلا العَلَم فلِما ثبت في استثناءه في حديث عمر وغيره.
          وقوله: (بِأُصبُعٍ إِلَى أَربَعٍ) وليس ذلك بشكٍّ من الرَّاوي، وإنَّما هو تفصيل للإباحة، كما يقال: خذ واحدًا أو اثنين أو ثلاثة، يعني ما شئت من ذلك، وقد أباح ذلك العَلَم في ثلاثة أصابع في أشهر قوليه لأنَّه لم يرِو الأربع.
          وأمَّا من قال: هو محرَّم على الرِّجال والنِّساء فلما روى مسلم أنَّ ابن الزُّبير قال: لا تُلْبسوا نسائكم الحرير، فإنِّي سمعت رسول الله صلعم يقول: «مَن لَبِسَ الحَرِيرَ فِي الدُّنيَا لَم يَلبَسهُ فِي الآخِرَةِ».
          وكأنَّ ابن الزُّبير فهم منه العموم ولم ير الخصوص، وهو ما في الصَّحيح [خ¦2614] قوله لعلي _فأرسل إليه حلة سيراء فلبسها_: «إِنِّي لَم أَبعَثها إِلَيكَ لِتَلبَسَهَا، وإنَّمَا بَعَثتُهَا لِتُشَقِقَهَا خُمرًا بَينَ الفَوَاطِم».
          وما في «صحيح التِّرمذي»: «هذَانِ _يعني الذَّهب والحرير_ حَرَامٌ عَلَى ذُكُورِ أُمَّتِي حِلٌّ لِإِنَاثِهَا».
          وأمَّا من قال هو مباح بكلِّ حال فتعلَّق بأنَّ الحرير كان مباحًا؛ إذ لبسه سيِّدنا رسولُ الله صلعم، ثمَّ كان حرامًا حتى ذكر تحريمه ونصَّ عليه، ثمَّ كان مباحًا حين رخَّص فيه لأهل / الحكَّة والقمل، والمحرَّم من المطاعم والملابس لا يباح لمثل هذه الحاجة اليسيرة، ألا ترى أنَّه لا يجوز التَّداوي بالبول للحاجة.
          قال القاضي أبو بكر: وهذا منزع من لم يتبصر القول، لما قَالَ الرَّاوي الصَّاحب العالم: رخَّص النبي صلعم في الحرير لعلَّة كذا كان ذلك نصًا على بقاء التَّحريم في الذي رواه واختصاص الرُّخصة به.
          ثمَ الرُّخصة في الشَّريعة على وجوه؛ منها للضَّرورة، ومنها للحاجة، ومنها للمشقَّة اليسيرة الدَّاخلة على المسلم كالقصر والفطر، وكان ابن الزُّبير يلبس الخزَّ فدلَّ على إباحته، ولبسه أيضًا عثمان، والنكتة المعنوية في ذلك أنَّ الحرير حرام، والصُّوف والكتَّان حلال، فإذا مزجا يحصل منهما نوع لا يسمى حريرًا، فلا الاسم يتناوله، ولا السَّرف والخيلاء يدخله، فخرج عن الممنوع اسمًا ومعنىً، فجاز على الأصل، وكره على الشبهة.