التلويح شرح الجامع الصحيح

كتاب الجزية والموادعة

          ░░58▒▒ (كِتَابُ: الجِزْيَةِ وَالمُوَادَعَةِ مَعَ أَهْلِ الذِّمَّةِ والحربِ، وَمَا جَاءَ فِي أَخْذِ الجِزْيَةِ مِنَ اليَهُودِ والنَّصَارَى وَالمَجُوسِ وَالعَجَمِ)
          قال الماوَرْدي في كتابه «الأحكام السلطانية»: اسمها مشتق من الجزاء؛ إما جزاء على كفرهم؛ لأخذها منهم صَغَارًا، وإما جزاء على أمانِنا لهم، وأخذها منهم رفقًا.
          وفي الكتاب «المُغْرِب»: لأنها تُجزئ عن الذمي، وفي «المحكم»: الجزية خراج الأرض، والجمع جِزًى وجِزْيٌ. وقال أبو علي: الجِزى والجِزْي واحد كالمِعَى والمِعْي لواحد الأمعاء والجمع جِزاء، وجزية الذمي منه.
          وفي قول البخاري: المجوس والعجم نظرٌ، من حيث أن المجوس جنس يندرج تحته أنواع منها العجم، فلو اقتصر على الجنس لما افتقر إلى ذكر النوع، أو يُحمل على أنه ذكرَ العام ذكر الخاص، وهذا لا إيراد عليه فيه.
          قال البخاري: (وَقَالَ ابنُ عُيَيْنَةَ، عَنِ ابنِ أَبِي نَجِيحٍ: قُلْتُ لِمُجَاهِدٍ: مَا شَأْنُ أَهْلِ الشَّأْمِ عَلَيْهِمْ أَرْبَعَةُ دَنَانِيرَ، وَأَهْلُ اليَمَنِ عَلَيْهِمْ دِينَارٌ؟ قَالَ: جُعِلَ ذلِك مِنْ أجلِ اليَسَارِ)... / .
          هذا التعليق رواه ابن عيينة في تفسيره الذي سبق إسنادنا إليه.
          حَدَّثَنا علي بن عبد الله: حَدَّثَنا سفيان قال: سمعت عمرًا قال: «كنت جالسًا مع جابر بن زيدٍ وعمرو بن أوس فحدثهما بَجَالَةُ سنة سبعين _عام حج مصعب بن الزُبير بأهل البصرة_ عند درج زمزم، قَالَ: كُنْتُ كَاتِبًا لِجَزْءِ بْنِ مُعَاوِيَةَ _عَمِّ الأحْنَفِ_ فَأَتَانَا كِتَابُ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ قَبْلَ مَوْتِهِ بِسَنَةٍ، فَرِّقُوا بَيْنَ كُلِّ ذي مَحْرَمٍ مِنَ المَجُوسِ، وَلَمْ يَكُنْ عُمَرُ أَخَذَ الجِزْيَةَ مِنَ المَجُوسِ حَتَّى شَهِدَ عَبْدُالرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلعم أَخَذَهَا مِنْ مَجُوسِ هَجَرَ».
          هذا الحديث رُوي بألفاظٍ غَير ما ذكره منها ما هو على شرطه، وهو أحسن سياقًا مما ذكره وأتمُّ وأوضح، وهو ما أخبرنا به يُونس بن عبد القوي قراءة عليه عن ابن المُغَيَّر، عن الحافظ أبي الفضل البغدادي: أخبرنا الشيخان أبو سعيد إسماعيل بن أبي سعيد بن مَلَّة وأبو الرجاء الحداد قراءةً عليهما، قالا: أخبرنا أبو طاهر محمد بن أحمد بن عبد الرحيم الكاتب، قال: أخبرنا الحافظ أبو محمد عبد الله بن محمد بن جعفر بن حيَّان بجميع كتاب «شروط أهل الذمة»: أخبرنا أبو يعلى: حَدَّثَنا أبو الربيع الزهراني: حَدَّثَنا أبو معاوية الضَرير: حَدَّثَنا حجاج عن عمرو بن دينار عن بَجَالَة قال: «كُنْتُ كَاتِبًا لِجَزْءِ بْنِ مُعَاوِيَةَ فَجَاءَنَا كِتَابُ عُمَرَ: اُنْظُرْ أَنْ تَأخُذَ الجِزْيَةَ مِنَ المَجُوْسِ؛ فَإِنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ أَخْبَرَنِي أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلعم أَخَذَ مِنَ المَجُوْسِ الجِزْيَةَ».
          قال أبو يعلى: وحَدَّثَنَا أبو خَيْثَمةَ: حَدَّثَنا ابن عُيينة عن عمرو سمع بَجَالة يقول: «كُنْتُ كَاتِبًا لِجَزْءِ فَجَاءَنَا كِتَابُ عُمَرَ: أَنِ اقْتُلُوا كُلَّ سَاحِرٍ وَسَاحِرَةٍ، وَفَرِّقُوا / بَيْنَ كُلِّ [ذي] مُحْرمٍ مِنَ المَجُوسِ، وَانْهَهُمْ عَنِ الزَّمْزَمَةِ، قال: فَقَتَلْنَا ثَلَاثَ سَوَاحِرَ، وَجَعَلْنَا نُفَرِّقُ بَيْنَ المَرْأَةِ وَحَرِيمِهَا فِي كِتَابِ اللهِ جَلَّ وَعَزَّ، وَصَنَعَ طَعَامًا كَثِيرًا فَدَعَا المَجُوسَ وَعَرَضَ السَّيْفَ عَلَى فَخِذِهِ، فَأَلْقَوْا وِقْرَ بَغْلٍ أَوْ بَغْلَيْنِ مِنْ وَرِقٍ، وَأَكَلُوا بِغَيْرِ زَمْزَمَةٍ». انتهى.
          ذَكَرَ الحميديُّ أنَّ البَرْقَانيَّ خرَّجَ هذا اللفظَ في صحيحِهِ.
          قالَ أبو الشيخ: وحدثنا محمدُ بنُ أبَّان: حدَّثنا محمدُ بنُ مسكين: حدَّثنا يحيى بنُ حَسَّان: حدَّثنا هُشَيْم، الحديث، وحدثنا عيسى بن محمد: حدَّثنا هلال بن العلاء: حدَّثنا خضر بن محمد بن شجاع: حدَّثنا هُشَيْم: حدَّثنا داود بنُ أبي هندٍ، عن قشَيْر بن عَمْرو، عن بَجَالَة، عن عبد الرحمن بن عوف: «أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلعم أَخَذَ الجِزْيَةَ مِنْ مَجُوسِ هَجَرَ».
          قالَ ابنُ عباسٍ: «أَمَّا أنَا فَتَبِعْتُ صَاحِبَهُمْ حِيْنَ دَخَلَ عَلَى رَسُوْلِ اللهِ صلعم، فَلَمَّا خَرَجَ قُلْتُ لَهُ: مَا قَضَى فِيكُم النَّبِيُّ صلعم؟ قَالَ: شَرٌّ، قُلْتُ: مَهْ؟ قَالَ: القَتْلُ، أَوِ الإِسْلَامُ. قَالَ: فَأَخَذَ النَّاسُ بِقَوْلِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وتركوا قولي».
          وفي حديث أبي رجاء جاء لحماد بن سلمة عن الأعمش، عن زيدِ بن وَهْبٍ، [أن عمر سأل عن المجوس فـ] قال عبدُ الرحمنِ بنُ عوفٍ: أَشْهَدُ بِاللهِ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلعم لَسَمِعْتُهُ يَقُوْلُ: «إِنَّمَا المَجُوسُ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ، فَاحْمِلُوهُمْ عَلَى مَا تَحْمِلُوا أَهْلَ الكِتَابِ».
          قال أبو الشيخ: وحدثنا محمدُ بنُ إبراهيمَ بنُ أبي شيبة: حدَّثنا أبو أيوب الشَّاذَكُونِيّ: حدَّثنا أبو بكر بن عَيَّاش: حدَّثني أبو سعدٍ عن عيسى بنِ عاصمٍ، عن فَرْوَةَ بن نوفل، عن علي، قال: «المَجُوْسُ أهْلُ كِتَابٍ، وَقَدْ أَخَذَ النَّبِيُّ صلعم الجِزْيَةَ مِنْ مَجُوسِ أَهْلِ هَجَرَ».
          وذكر أبو عمرَ من حديثِ الزُّهريِّ عن سعيدٍ: «أَنَّ النَّبِيَّ صلعم أَخَذَ الجِزْيَةَ مِنْ مَجُوسِ هَجَرَ، وأَنَّ عُمَرَ أَخَذَهَا مِنْ مَجُوْسِ / السَّوَادِ، وَأَنَّ عُثمان أَخَذَهَا منَ البَرْبَرْ». وقال: كذا رواه ابنُ وَهْبٍ، عن يونُسَ عن ابنِ شهاب، وأما مالكٌ ومَعْمَرٌ فجعلاه عن ابن شهاب، لم يذكرا سعيدًا، رواه ابن مَعْمَرٍ عن مالكٍ عن الزهريِّ عن السَّائبِ بنِ يزيدٍ.
          وفي «الموطَّأ» عن جعفرِ بنِ محمدٍ عن أبيهِ، أنَّ عمرَ ذكرَ المجوسَ، فقال عبدُ الرحمنِ. الحديث.
          ورواهُ أبو علي الحنفي عن مالكٍ، فقال: عن أبيهِ عن جدهِ، وهو منقطعٌ أيضًا؛ لأنَّ عليَّ بنَ حسينٍ لم يلقَ عُمَرَ، ولا عبدَ الرحمنِ، انتهى.
          ذكر عَبْدُ بنُ حُمَيْدٍ في «تفسيرِهِ» بسندٍ صحيحٍ عن الحسنِ الأشيبِ: حدَّثنا يعقوبُ بنُ عبدِ الله: حدَّثنا جعفرُ بنُ أبي المغيرةَ، عن عبدِ الرحمنِ بن أَبْزَى، قال: قال علي: «كَانَ المَجُوْسُ أَهْلَ كِتَابٍ، وَكَانُوا مُتَمَسِّكِيْنَ بِهِ» الحديث.
          وفيه ردٌ لقولِ أبي عمر، روى عن علي: «أنَّهُمْ كَانُوا أَهْلَ كِتَابٍ»، وفيهِ ضعفٌ؛ لأنَّه يدورُ على أبي سعدٍ البقَّالِ سعيدِ بنِ المَرْزُبَان، وأما زيادة من زاد في آخره: «غَيْرَ نَاكِحِي نِسَائِهِمْ وَلَا آكِلِي ذَبَائِحِهِمْ» فزيادةٌ منكرةٌ، ذكرَهُ أبو الفرجِ البغدادي.
          (جَزْء) بنُ مُعاويةَ بنِ حُصَين بنِ عُبَادة بنِ النَزَّالِ بنِ مُرَّةَ بنِ عُبَيْدٍ بنِ مقَاعِسٍ، واسمُهُ الحَارثُ بنُ عمروٍ بنِ كعبٍ بنِ سعدٍ بنِ زيدِ مَنَاةَ بنِ تميمٍ، عمُّ الأحنفِ بنِ قيس، قال أبو عمر: لا تصحُّ له صحبةٌ، وكان عاملًا لعمرَ بن الخطاب على الأهواز.
          وقيلَ فيهِ: جَزِي بزاي مكسورة بعدها ياء وجيم مفتوحة، وقال الدَّارَقُطْني: أصحاب الحديث يكسرون جيمه، وقال الخطيب: بسكون الزاي.
          و(بَجَالَة) هو ابنُ عَبْدَة، بفتحِ الباءِ الموحدةِ، وفي «ثقاتِ ابنِ حبان»: يُقَالُ: ابنُ عبدٍ، وفي «تاريخ البخاري»: بَجَالَةُ بنُ عبدٍ أو عبدُ بنُ بَجَالَةَ.
          وأما (المجوسُ) فذكرَ أبو عمر في كتابِه «القصد والأمم» أنهم من ولدِ لاوِذ بنِ سامٍ بنِ نوحٍ صلَّى الله عليهما وسلم.
          وقال عليُّ بنُ كيسان: هم من ولدِ فارسِ بنِ عامورِ بن يافث، قال أبو عمر: وقالَ ذلك غيرُهُ، وهو أصحُّ ما قيل / فيهم، وهم ينكرونَ ذلك ويدفعونَهُ، ويزعمون أنَّهم لا يعرفون نوحًا صلعم ولا ولدَهُ ولا الطوفانَ، وينسقون ملوكَهُمْ من جيُومَرْت الأوَلِ، وهو عندُهُم آدمُ صلوات الله عليهم وسلامه، وقد نسبَهُم قومٌ من علماءِ الإسلامِ والأثرِ إلى أنهم من ولدِ سامٍ، وكان دينَهُمُ الصابئةُ ثم تمَجَّسُوا وبنَوا بيوتَ النيرانِ.
          وعند المسعوديِّ: فارسٌ أخو نَبيطٍ ولدِ ياسورِ بنِ سامٍ بنِ نوحٍ صلعم، ومنهُمْ مَنْ زعَمَ أنَّهُمْ مِنْ ولدِ إرم بنِ إرفخشذ بنِ سامٍ صلعم، وأنَّهُ وَلَدَ بضعةَ عشرَ رجلًا، فكانَ كلهم فارسًا شجاعًا، فَسَمُّوا الفُرْسَ بالفروسيةِ، وقالَ آخرونَ: أنهم مِنْ ولدِ بَوَّانَ _صاحبِ شعبِ بوَّان أحدُ نُزه الدنيا_ بنِ إيْرَان بنِ الاسودْ بنِ سامٍ صلعم.
          وعندَ الرّشاطيِّ: فارسُ الكُبْرَى بنِ كيومرْت _ويقال: جَيُومَرْتِ، وجامر معرب، وتفسير كيومرت: الحي الناطق الميت_ بنِ أمِيم بنِ لاوذ بنِ سامٍ، فمَنْ نسبَ الفرسَ الأولى إلى سامٍ فهذا نسبُهَا، ومن نسبَهَا جُمْلَةً إلى يافثٍ قال: هم ولَدُ جيومرت بنِ يافث.
          وذكرَ صاعدٌ في كتابِهِ «طبقات الأمم» أنَّ كيومرت هذا يزعُمُ الفرسُ أنَّهُ آدمُ صلعم، قالَ: وذكرَ بعضُ علماءِ الأخبارِ أنَّ الفرسَ في أولِ أمرِها كانت موحدةً على دينِ نوحٍ صلعم إلى أن أتى بوذاسف المشرقي إلى طيمورَت ثالثِ ملوكِ الفرسِ بمذهبِ الصابئةِ فقبلَهُ منه، وقصرَ الفرسَ على التشرعِ بهِ فاعتقدوه نحوَ ألفِ سنةٍ وثماني مئةِ سنةٍ إلى أن تمجَّسُوا / جميعًا.
          وسببُهُ: أنَّ زرادَشت الفارسيَّ ظهرَ في زمنِ بستاسب ملكِ الفرسِ، فدعا الناسَ إلى المجوسيةِ وتعظيمِ النارِ وسائرِ الأنوارِ، والقولِ بتركيبِ العالمِ من النورِ والظلمةِ، واعتقادِ القدماءِ الخمسةِ التي هي عندهم: الباري _جل وعلا عما يقولون علوًّا كبيرًا_، وإبليسُ _لعنه الله ولعنهم_ والهيُوليُّ، والزمانُ، والمكانُ، وغيرِ ذلك من البدعِ، فقبلَ ذلكَ بستاسب، وقاتلَ الفرسَ عليهِ حتى انقادوا جميعًا إليهِ، ورفضُوا دينَ الصابئةِ، واعتقدوا زرادشت نبيًا مرسلًا، وذلك قبلَ ذهابِ مُلْكِهِم على يدِ أميرِ المؤمنين عمرَ بنِ الخطابِ ☺ بقريبٍ من ألفٍ وثلاثِ مئة سنة.
          وفي «بغية السَّامَّة شرح لحن العامَّة» لإبراهيم بن المفرح الأنصاري: الفارسيُّ منسوبٌ إلى فارسٍ، وهي أرضٌ وقد بنَتْهَا البسوس، وهي أمةٌ كانت بعد النّبط، وزعمَ بعضُ العلماءِ أنهم مِنْ ولدِ يوسفَ بنِ يعقوبَ بنِ إبراهيمَ صلعم، قال جرير: يفخر على قَحْطَان:
ويَجْمَعُنَا وَالغُرَّ أبناءَ فارسٍ                     أبٌ لا نُبَالِي بَعْدَهُ مَنْ تأخرا
أبُوْنَا خَلِيْلُ اللهِ وَاللهُ رَبُّنَا                     رَضِيْنَا بِمَا أَعْطَى الإِلَهُ وَقَدَّرَا
          وذكرَ عبدُ الملكِ بنُ عبدونَ الحضريُّ في كتابِهِ «كمامة الزهر وصدفة الدُّرِّ» أنَّهم مِنْ ولدِ فارسٍ بنِ ناسورٍ بنِ سام، وأنه وُلِدَ له بضعةَ عشرَ رجلًا كلُّهُم كانَ فارسًا شجاعًا فسَمُّوا الفرسَ بذلك، وفي ذلك يقول حَطَّانُ بنُ المُعَلَّى الفارسي:
وَبِنَا سُمِّيَ الفَوَارِسُ فُرْسَانًا                     وَمِنَّا مَنَاجِبُ الفتيان
          قال: وزعمَ قومٌ أنهم مِنْ ولَدِ لوط من ابنتيه رشى وريبوشى، وزعمَ بعضُهُم أنَّهم مِنْ وَلَدِ إيْرَان ابنِ أفيريدور، قالَ: ولا خلافَ بينَ الفرسِ / أنَّهُم مِنْ وَلَدِ كيومرت، وهذا هوَ المشهورُ، وإليهِ ترجعُ بنسبَتِها، كما ترجعُ المروانيَّةُ إِلى مروان، والعباسِيَّة إلى العباس.
          وعندَ ابنِ حزمٍ: المجوسُ لا يعرفونَ موسى ولا عيسى ولا أحدًا من أنبياءِ بني إسرائيل، ولا محمدًا صلعم، ولا يُقِرُّونَ لأحدٍ منهم بنبوةٍ.
          وقد اختَلَفَ الناسُ فيمَنْ يُؤخَذُ منهُ الجزيةُ، فروى ابنُ القاسمِ عنْ مالكٍ أنَّ الجزيةَ تؤخَذُ منهم ومِنْ أهلِ الكتابِ وعبدةِ الأوثانِ وكلِّ المشركينَ غيرِ المرتدين، وحكى الطحاويُّ عن أبي حنيفةَ وأصحابِهِ أنَّ الجزيةَ تُقبَلُ مِنْ أهلِ الكتابِ ومِنْ سائرِ كفارِ العجمِ حاشا مشركي العرب فإنَّهُ لا يُقبَلُ منهم إلا الإسلامُ أو السيفُ.
          وقالَ الشافعيُ: لا تُقبَلُ الجزيةُ إلا من أهلِ الكتابِ عربًا كانوا أو عَجَمًا، والمجوسُ كانَ لهم كتابٌ فرُفِعَ.
          قَالَ ابنُ بَطَّالٍ منكرًا لهذا القول: لو كانوا كذلك لكان لنا أن نأكلَ ذبائحَهُم وننكِحَ نساءَهُم، وهذا لا يقولُهُ أحدٌ. انتهى كلامه.
          وفيه نظرٌ لِما ذكرَ أبو عمر بن عبد البر من أنَّ سعيدَ بنَ المسيبِ كانَ لم يرَ بذبحِ المجوسيِّ لشاةِ المسلمِ إذا أمرَهُ المسلمُ بذبحِهَا بأسًا، وذكرَ أبو محمدُ بنُ قدامة أنَّ أبا ثورٍ كان يرى حِلَّ نسائِهِم وذبائِحِهِم.
          وفي «المصنَّفِ» عن الثقفي: حدَّثنا مثنى، عن عمرو بن شعيب، عن ابنِ المسيب، قالَ: لا بأسَ أن يتسرَّى الرجلُ بالجاريةِ المجوسيةِ، وحدثنا عبيدُ اللهِ عن مثنى، قال: كان عطاءٌ وطاووسُ وعمرو ابن دينار لا يرون بأسًا أن يتسرى الرجلُ المجوسيةِ.
          قال أبو عمر: وقولُهُ: (سُنُّوْا بِهِمْ سُنَّةَ أَهْلِ الكِتَاب) خرجَ مخرجَ العمومِ، وهو يريدُ الخصوصَ؛ لأنَّهُ إنما أراد في الجزيةِ لا في غيرِها.
          وفي قولِهِ هذا دليلٌ أنهم ليسُوا أهلَ كتابٍ، وعلى ذلك / جمهورُ الفقهاءِ، ويقول من يقول إنهم أهل كتاب في قوله: (سُنُّوْا بِهِمْ سُنَّةَ أَهْلِ الكِتَاب) الذين يُعْلَمُ كتابهم على ظهورٍ واستقامةٍ، وأما المجوسُ فَعُلِمَ كتابُهُم على الخصوصِ، وفي حديث أبي عُبيدةَ المذكورِ عندَ البخاريِّ في هذا البابِ دليلٌ على أخذِ الجزيةِ من المشركين.
          وقولُهُ فيه: (أَمِّلُوْا) الأملُ الرجاءُ، يُقالُ: أمَّلْتُهُ فهو مأمولٌ.
          وقولُهُ: (فَتَنَافَسُوهَا) يريدُ المشاحَّةَ والتنازعَ.
          وفيه التحذيرُ من فتنةِ الدنيا، فإنَّ مَنْ طلبَ منها فوقَ حاجتِهِ لم يجدْهُ، ومن قنعَ حصلَ له ما يطلبُ.
          قال ابنُ الجوزي: وما الدُّنيا إلا كما قيلَ:
إنَّ السلامةَ من سلمى وجارَتِهَا                     أَنْ لا تَمُرَّ على حالٍ بوادِيها
          قَالَ ابنُ بَطَّالٍ: معنى قولِهِ: (أَبْشِرُوا وَأَمِّلُوا) أي: أمِّلُوا أكثرَ ما تظنون من العطاء؛ لأنَّهم لم يعرفوا مقدارَ ما قَدِمَ به أبو عبيدةَ، فبشِّرْهُمْ بأكبرَ مما يظنُّون.
          وفيهِ إخبارُهُ عن المغيباتِ في قوله صلعم: «أَخْشَى عَلَيْكُمْ أَنْ تُبْسَطَ عَلَيْكُمُ الدُّنْيَا» يعني بالفتوحاتِ وشبهِهَا.
          وقالَ ابنُ المنيَّر: إن أرادَ البخاريُّ بالموادعةِ عقدَ الذمةِ لهم بأخذِ الجزيةِ والإعفاءِ بعدَ ذلكَ من القتلِ فهذا هو حكمُ الجزيةِ، والموادعةُ غيرُ ذلك، وإن أرادَ تركَ قتالِهِم مع إمكانِهِ قبلَ الظفرِ بهم، وهو معنى الموادعةِ، فما في أحاديثِ البابِ ما يطابقُهَا إلا ما ذكرَهُ من تأخرِ النعمانِ بن مقرنٍ عن مقابلةِ العدوِّ وانتظارِه زوالَ الشمسِ وهبوبَ الريحِ فهي موادعةٌ في هذا الزمان مع الإمكانِ للمصلحةِ والله تعالى أعلم.
          وقد اختلفَ العلماءُ في مقدارِ الجزيةِ:
          فعندَ أبي حنيفة يُؤخَذُ من الغنيِّ / ثمانيةٌ وأربعون درهمًا، ومن المتوسطِ أربعةٌ وعشرون، ومن الفقيرِ اثنا عشر درهمًا، وهو قولُ أحمدٍ أخذًا بما رواه إسرائيلُ عن أبي إسحاقَ عن حارثةَ بنِ مُضربٍ، عن عمرَ: «أنه بعثَ عثمانَ بنَ حنيفٍ فوضعَ الجزيةَ على أهلِ السوادِ كذلك».
          وعن الشافعيِّ: الواجبُ دينارٌ في حقِّ كلِّ أحدٍ أخذًا بحديثِ معاذٍ من عندِ أبي داود: «أنَّ رسولَ اللهِ صلعم أمرَهُ أن يأخذَ من كلِّ حالمٍ دينارًا».
          وعن مالكٍ: أكثرُهَا أربعةُ دنانير على أهلِ الذهبِ، وعلى أهلِ الوَرِقِ أربعون درهمًا، ولا حدَّ لأقلِّها أخذًا بما رواه نافعٌ عن أسلمَ: «أنَّ عمرَ بنَ الخطابِ ضربَ الجزيةَ على أهلِ الذهبِ والوَرِقِ» كذلك رويناه في «شروطِ أهلِ الذمةِ» لأبي الشيخ الأصبهاني بسندٍ جيدٍ.
          وعن أحمدٍ: يُرجَعُ في ذلك إلى اجتهادِ الإمامِ، وفي روايةٍ أقلُّها مقدَّرٌ بدينارٍ، وأكثرُها غيرُ مقدَّرٍ، فتجوزُ الزيادةُ ولا يجوزُ النقصانُ؛ لأنَّ عمرَ ☺ زادَ على ما فرضَ رسولُ اللهِ صلعم ولم يُنقِصْ منه، وروي أنه زادَ فجعلَهَا خمسين، وهو اختيارُ أبي بكرٍ من أصحابِ أحمد.
          وعندَ أبي حنيفةَ يجبُ بأولِ الحولِ، وعندَ الشافعيِّ وأحمدَ بآخرِهِ، ولا يؤخذُ من صبيٍ ولا امرأةٍ ولا مجنونٍ ولا فقيٍر غيرِ معتملٍ، وعن الشافعيِّ يجبُ عليه، ولا يُؤخَذُ مِن شيخٍ فانٍ ولا زَمِنٍ ولا أعمى، وفي قولٍ عندَ الشافعيِّ عليهِمُ الجزيةُ ولا على سيدِ عبدٍ عن عبدِهِ إذا كان السيدُ مسلمًا، ولا جزيةَ على أهلِ الصوامعِ من الرهبانِ، وفي قولٍ عندَ الشافعيِّ يجبُ عليهم، وروي أيضًا عن عمرَ ابنِ عبدِ العزيز أنَّه فرضَ على رُهبان الديارات / على كلِّ واحدٍ دينارين.
          وفي قولِهِ: (فَرِّقُوا بَيْنَ كلِّ ذِيْ مَحْرَمٍ منَ المَجُوْسِ) احتمالاتٌ:
          قالَ المهلَّبُ: أحدُها أنَّ اللهَ جلَّ وعزَّ لم يأمرْ بأخذِ الجزيةِ إلا مِن أهلِ الكتابِ، وأهلُ الكتابِ لا ينكحُونَ ذواتِ المحارمِ، فإذا استعملَ عليهم قولُهُ صلعم: «سُنُّوْا بِهِمْ سُنَّةَ أَهْلِ الكِتَابِ» احتُمِلَ أن لا يَقبَلَ مِنْهُمُ الجزيةَ إلا أن يَسُنَّ بهم سُنَّةَ أهلِ الكتابِ في مناكحِتهم أيضًا.
          الثاني: أن يكونَ عمرُ غلبَ على المجوسِ عنوةً، ثمَّ أبقى لهم في أموالِهِم عبيدًا يعملون فيها، والأرضُ للمسلمين، ثم رأى أن يُفرِّقَ بين ذواتِ المحارمِ من عبيدِهِ الذين اسْتَبْقَاهُمْ على حكمِهِ واجتهادِهِ، وإن كانَ منعقدًا في أصلِ استحيائِهِم واسْتِبْقَائِهِم، ويكونُ اجتهادُه في تفريقه بين ذواتِ المحارمِ، مستنبطًا من قوله: «سُنُّوْا بِهِمْ سُنَّةَ أَهْلِ الكِتَابِ» أي: ما كَانَ أهلُ الكتابِ يحملونَ عليهِ في مناكحِتهم فاحملُوا المجوسَ عليهِ.
          وقَالَ الخَطَّابِيُّ: أرادَ عمرُ أنهم يُمنعُون من إظهارِ هذا للمسلمين وإنشائه في مشاهدِهِم، وهذا كما شُرِطَ على النصارى ألا يُظهِرُوا صُلبانَهُم.
          وعن مالكٍ: أرى أن يُنفَقَ من بيتِ المالِ على كلِّ مَن احتاجَ مِن أهلِ الذمةِ إن لم يكن لهم حِرْفَةٌ ولا قوةٌ، وعلى يتاماهم حتى يبلغوا، قال مالكٌ: بلغني أنَّ عمرَ بنَ الخطابِ كانَ ينفقُ على رجلٍ من أهلِ الذمةِ حين كبرَ وضعفَ عن العمل والخراج.
          البابُ الذي فيهِ إذا وادعَ الإمامُ ملكَ القريةِ هل يكون ذلك لبقيتهم؟
          حديثُهُ أنَّ ملكَ أَيْلَةَ أهدى بغلةً بيضاءَ [خ¦3161] تقدمَ في الخرصِ من كتاب الزكاة، واسمُهُ يُوحَنَّا بنُ رُؤْبَة / صالَحَهُ على الجزيةِ، وعلى أهلِ جَرْباء وأذْرُجٍ بلدين بالشام.
          والذي يُذكَرُ هنا أن العلماءَ أجمعوا على أنَّ الإمامَ إذا صالَحَ ملكَ القريةِ أنَّه يدخلُ في ذلكَ الصلحِ بقيتُهُم؛ لأنَّه إنَّما صالحَ عن نفسِهِ ورعيتِهِ ممن يشتملُ عليهِ بلدُهُ.
          واختلفوا إذا أَمَّنَ طائفةً منهم هل يدخلُ في ذلك الأمانِ العاقدُ للأمانِ أم لا؟
          فروى الفزاريُّ عن حُميدٍ الطويل، قال: حدثني أبو حبيبٍ يحيى، وكان مولى أبي موسى، عن خالدِ ابنِ يزيد قالَ: حاصرَ أبو موسى حصنًا بتُسْتَرَ أو بالسوسِ، فقالَ صاحبُهُ: أتؤمِّنُ مئةً من أصحابي وأفتحُ لكَ الحُصْنَ، قال: نعم، فقالَ أبو موسى: أرجو أنْ يُمَكِّنَ اللهُ منه وينسى نفسَهُ، فعدَّ مئةً ونسيَ نفسَهُ، فقتلَهُ أبو موسى.
          وعن النخعيِّ لما ارتدَّ الأشعثُ في زمنِ أبي بكرٍ بحصنٍ هو ومَن معَهُ في قصرٍ ثم طلبَ الأمانَ لسبعين رجلًا فأُعطيَ فلما نزلَ عدَّ السبعين ولم يعدَّ نفسَه فيهم، فقالَ له أبو بكر: إنه لا أمانَ لكَ إنَّا قاتلوكَ فأسلم.
          وفي «تاريخ دمشقَ» لما أخذَ الأمانَ للسبعينِ من أهلِ النُّجير عدُّوْهُم، فلما بقيَ هو قامَ رجلٌ إليه فقال: إنَّا معك قالَ: إنَّ الشرط على سبعين، ولكن كن أنت فيهم، وأنا أتخلَّفُ أسيرُ معهم.
          وقال أصبغ وسحنون: يدخلُ العلج الآخذُ للأمانِ وإن لم يعدَّ نفسَه فيهم؛ لأنَّا نعلمُ أنه لم يأخذِ الأمانَ لغيرِهِ إلا وقد صحَّ للأمانِ لنفسهِ.
          قالَ ابنُ المنير: ليسَ في حديثِ ملكِ أيلةَ كيفية طلبه الموادعةَ هل كانَ لنفسِهِ أو لهم أو للمجموعِ، لكنه نسبَ الهدنةَ إليهِ خاصةً، والموادعةَ للجميعِ فأُخِذَ من ذلك أنَّ مهادنةَ الملكِ لا يدخلُ فيها الرعيةُ إلا بنصٍ على التخصيصِ / .
          وعن أبي الخطابِ الحنبليِّ: ما أهداهُ المشركون لأميرِ الجيشِ أو لبعضِ قُوَّادِه فهو غنيمةٌ إن كان ذلكَ في حال الغزوِ، وإن كان من دارِ الحربِ إلى دارِ الإسلامِ فهي لمن أُهديَت له، سواء كان الإمامُ أو غيرُهُ، لأن سيدنا رسول الله صلعم قَبِلَها فكانت له دون غيره، وهو قول الشافعي ومحمد بن الحسن، وقال أبو حنيفة هي للمُهْدَى له على كل حال.