التلويح شرح الجامع الصحيح

باب من علق سيفه بالشجر في السفر عند القائلة

          ░84▒ وذكر البخاري في:بَابِ مَن عَلَّقَ سَيفَهُ بِالشَّجَرِ فِي السَّفَرِ عِندَ القَائِلَةِ
          حديث جَابِرٍ في غزوٍ لهم قِبَلَ نجدٍ قال: (فَلَمَّا قَفَلَ رَسُولُ اللهِ صلعم أَدْرَكَتْهُمُ / القَائِلَةُ فِي وَادٍ كَثِيرِ العِضَاهِ فَنَزَلَ [رسول الله صلعم]، وَتَفَرَّقَ النَّاسُ، فَنَزَلَ صلعم تَحْتَ سَمُرَةٍ وعَلَّقَ بِهَا سَيْفَهُ. وَنِمْنَا نَوْمَةً، فَإِذَا رَسُولُ اللهِ صلعم يَدْعُونَا، وَإِذَا عِنْدَهُ أَعْرَابِيٌّ، فَقَالَ: «إِنَّ هَذَا اخْتَرَطَ سَيْفِي وَأَنَا نَائِمٌ، فَاسْتَيْقَظْتُ وَهُوَ فِي يَدِهِ صَلْتًا، فَقَالَ: مَنْ يَمْنَعُكَ مِنِّي؟ فَقُلْتُ: اللهُ» ثَلَاثًا، فَشَامَ السَّيفَ، وَجَلَسَ وَلَم يُعَاقِبْهُ [خ¦2910]).
          وفي لفظ: كان قتادة يذكر أنَّ قومًا من العرب أرادوا أن يقتلوا النَّبيَّ صلعم فأرسلوا هذا الأعرابي، ويتلو: {اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ } الآية[المائدة:11].
          قَالَ البُخَارِيُّ: قَالَ مُسَدَّدٌ، عَنْ أَبِي عَوَانَةَ، عَنْ أَبِي بِشْرٍ: اسْمُ الرَّجُلِ غَوْرَثُ بْنُ الحَارِثِ [خ¦4136].
          وعند ابن أبي شيبة: حدثنا أسود بن عامر: حدَّثنا حماد بن سلمة، عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة قال: كنَّا إذا نزلنا طلبنا للنَّبيِّ صلعم أعظم شجرة وأظلها، قال: فنزلنا تحت سمرة، فجاء رجل وأخذ سيفه وقال: يا محمد من يعصمك مني؟ قال: «الله»، فأنزل الله جلَّ وعزَّ: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ}[المائدة:67].
          فيه دلالة أنَّ أحدًا لم يحرسه، بخلاف ما كان عليه في أوَّل أمره، فإنَّه كان يُحرس حتى نزل: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ}[المائدة:67].
          وروينا عن الواحدي من حديث الحِمَّاني، عن النَّضر، عن عكرمة، عن ابن عبَّاس: كان النَّبيُّ يُحرس، وكان عمه أبو طالب يرسل معه كل يوم رجالًا من بني هاشم يحرسونه، فلمَّا نزل عليه: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ}[المائدة:67] قال: «يَا عَمَّاه، إِنَّ اللهَ عَصَمَنِي مِن الجِنِّ وَالإِنسِ».
          قال: وقالت عائشة: سهر النَّبيُّ ذات ليلة فقال: «أَلَا رَجُلٌ صَالِحٌ يَحرُسُنِي؟» فجاء سعد وحذيفة، فنام النَّبيُّ حتى سمعتُ غطيطه، فنزل هذِه الآية، كأنَّه أخرج رأسه من قبة أدم وقال: «انصَرِفُوا فَقَد عَصَمَنِي اللهُ جلَّ وعزَّ».
          وعند البيهقي: فسقط السَّيف من يد الأعرابي، فأخذه رسول الله صلعم من يده وقال: «مَن يَمنَعُكَ مِنِّي؟» قال: كن خير آخذٍ. قال: «فتُسْلِمُ؟» قال: لا، ولكن أعاهدك على أن لا أقاتلك، ولا أكون مع قومٍ يقاتلونك، فخلَّى سبيله، فأتى أصحابَه فقال: جئتكم من عند خير النَّاس.
          وعند الإسماعيلي: قِبَل أُحدٍ.
          ذكر ابن إسحاق أن ذلك كان في غزوته صلعم إلى غطفان لِثِنتي عشرة مضت من صفر، وقيل: في ربيع الأوَّل، وقيل: كان ذلك [في] ذات الرِّقاع، وهي غزوةُ ذي أمر، وسمَّاها الواقدي / غزوة إيمان سنة اثنتين، وأنَّ النبيَّ صلعم نزع ثوبيه ونشرهما على شجرةٍ ليجفَّا من مطر كان أصابه، واضطجع تحتها، فقال الكفَّار لدُعثور _وكان سيدهم وكان شجاعًا_: قد انفرد محمد فعليك به، فأقبل ومعه صارم حتى قام على رأسه، فقال: من يمنعك مني؟ فقال صلعم: «الله»، فدفع جبريل في صدره، فوقع السَّيف من يده، فأخذه النَّبي صلعم وقال: «مَن يَمنَعُكَ أَنتَ اليَومَ مِنِّي؟» قال: لا أحد. فقال: «قُم فَاذهَب لِشَأنِكَ»، فلمَّا ولَّى قال: أنت خيرٌ منِّي. فقال صلعم: «أَنَا أَحَقُّ بِذَلِكَ مِنكَ»، ثمَ أسلم بعدُ.
          وفي لفظ: وأنا أشهد أن لا إله إلا الله، وأنَّك رسول الله، ثمَّ أتى قومه فدعاهم إلى الإسلام.
          وسمَّاه الخطيب: غورث، وعند الخطَّابي: غُويرث بالتَّصغير، وذكر عياض أنَّه مضبوط عند بعض رواة البخاري بعين مهملة، قال: وصوابه بالمعجمة، وقال الجيَّاني: هو فوعل، من الغرث، وهو الجوع.
          وعند الخطَّابي: لما همَّ بقتل النَّبيِّ صلعم أخذته الزُّلخة، يعني: وجعًا في صلبه، فبدر السَّيف من يده.
          وذكرها الحاكم في غزوة خيبر من حديث إبراهيم بن إسماعيل ومجمع، عن الزُّهري عن سنان بن أبي سنان عن جابر، ولعلَّ هذا أشبه؛ لأنَّ بعض النَّاس ذكر أنَّ قوله: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} كان بعد بنائه _بلغة الناس_ بصفية، أو ليلة البناء.
          قوله: (وَالسَّيفُ مُصلَتٌ فِي يَدِهِ) قال القرطبي: يروى برفع (مُصلَتٌ) ونصبه، فمن رفعه جعل خبر المبتدأ الذي هو (السَّيف في يَدِهِ) متعلِّقٌ به، ومن نصب جعل الخبر في المجرور ونصب (صَلتًا) على الحال؛ أي: مصلتًا. والمشهور فتح لام صلت، وذكر القتبي أنَّها تكسر في لغة.
          وقال ابن عُدَيس: ضربه بالسيف صَلتًا وصُلتًا بالفتح والضم؛ أي: مجرَّدًا. يقال: سيف صلت، ومنصلت، وإصليت: متجرِّد ماض.
          وقوله: (شَامَه): أي: أغمده، قال المبرِّد: هو من الأضداد، سلَّه وأغمده.
          وفيه جواز نوم المسافر إذا أَمِن.
          وقوله: (مَن يَمنَعُكَ مِنِّي) استفهام مشرَّب بالنَّفي، كأنَّه قال: لا مانع لك منِّي، فلم يُبال صلعم بقوله، ولا تحرَّج عليه ثقة بالله / ، وتوكُّلًا عليه، فلمَّا شاهد الرَّجلُ تلك القوة التي فارق بها عادة النَّاس في مثل تلك الحالة تحقَّق صدقَه، وعلمَ أنَّه لا يصل إليه بضرر، وهذا من أعظم الخوارق للعادة؛ فإنَّه عدوٌّ متمكِّن بيده سيف مشهور، وموت حاضر، ولا تغيَّرَ له صلعم حالٌّ، ولا حصل له رَوْعٌ، ولا جزع، وهذا من أعظم الكرامات، مع اقتران التحدي يكون من أوضح المعجزات.
          وفي تبويب البخاري هذا الباب في المغازي إشعار بأنَّ المجاهد له حالتان؛ حالة أمن وحالة خوف، والآمن ينام ويضع سلاحه، والخائف يكون مستوفزًا.
          وقوله لسعد بن أبي وقاص: «ارْمِ فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي» [خ¦2905].
          وقال عليٌّ: «مَا سَمِعْتُهُ يُفَدِّي رَجُلًا بَعْدَ سَعْدٍ».
          يخدش فيه ما عند الشيخين عن الزُّبير أنَّ رسول الله صلعم قال له: «فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي»، ولكن يُحمل على أنَّ عليَّا لم يسمعه، أو أنه نسي بعد ما سمع، فلا تعارض.
          قال النووي: وقد جمعهما لغيرهما أيضًا، وهو ظاهر في جواز هذا القول، وبه قال جماهير العلماء، وكرهه عمر بن الخطاب، والحسن البصري، وكرهه بعضهم في التَّفدية بالمسلم من أبويه، والصَّحيح الجواز مطلقًا؛ لأنَّه ليس فيه حقيقة فداء، إنَّما هو كلام ولطف وإعلام بمحبته له، وقد وردت الأحاديث الصَّحيحة بالتفدية مطلقًا.
          وأمَّا ما روى أبو سلمة عن المبارك، عن الحسن: دخل الزُّبير على سيدنا رسول الله صلعم وهو شاكٍ فقال: كيف تجدك جعلني الله فداك؟ فقال له صلعم: «مَا تَرَكتَ أَعرَابِيَّتَكَ بَعْدُ؟»، ورواه المنكدر عن أبيه قال: دخل الزبير، فذكره، فغير صحيح لإرسال الأوَّل، وضعفِ الثَّاني.
          وعلى تقدير صحَّته: ليس فيه النَّهي عن ذلك، والمعروف من قول القائل _إذا قال: فلان لم يترك أعرابيته_ أنَّه نسبه إلى الجفاء لا إلى فعل ما لا يجوز.
          وقول البخاري: (مَنْ لَمْ يَرَ كَسْرَ السِّلَاحِ عِنْدَ المَوْتِ) وذكر حديث عمرو بن الحارث المذكور قبل «مَا تَرَكَ رَسُولُ اللهِ صلعم إِلَّا سِلَاحَهُ، وَبَغْلَةً بَيْضَاءَ» [خ¦2912].
          يريد بذلك خلاف ما كان رؤساء أهل / الجاهليَّة عليه، إذا مات أحدهم عهد بكسر سلاحه، وحَرق متاعه، وعَقْر دوابِّه. قال السُّهيلي: فخالف سيِّدنا رسول الله صلعم فعلهم، وترك بغلته، وسلاحه، وأرضه، غير معهود منها بشيء إلا التَّصدُّق بها.