التلويح شرح الجامع الصحيح

باب من قاد دابة غيره في الحرب

          ░52▒ بَابُ مَنْ قَادَ دَابَّةَ غَيْرِهِ فِي الحَرْبِ
          ذكر فيه حديث أبي إسحاق: قَالَ رَجُلٌ لِلْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ: أَفَرَرْتُمْ عَنْ رَسُولِ اللهِ صلعم يَوْمَ حُنَيْنٍ؟ قَالَ: لَكِنَّ رَسُولَ اللهِ صلعم لَمْ يَفِرَّ، إِنَّ هَوَازِنَ كَانُوا قَوْمًا رُمَاةً، وَإِنَّا لَمَّا لَقِينَاهُمْ حَمَلْنَا عَلَيْهِمْ، فَانْهَزَمُوا فَأَقْبَلَ المُسْلِمُونَ عَلَى الغَنَائِمِ، وَاسْتَقْبَلُونَا بِالسِّهَامِ، فَأَمَّا رَسُولُ اللهِ صلعم / فَلَمْ يَفِرَّ، فَلَقَدْ رَأَيْتُهُ وَإِنَّهُ عَلَى بَغْلَتِهِ البَيْضَاءِ، وَإِنَّ أَبَا سُفْيَانَ آخِذٌ بِلِجَامِهَا، وَالنَّبِيُّ صلعم يَقُولُ: «أَنَا النَّبِيُّ لَا كَذِبْ، أَنَا ابْنُ عَبْدِ المُطَّلِبْ» [خ¦2864].
          وفي موضع آخر: «فنزل واستنصر» [خ¦2930].
          وفي موضع آخر: قال إسرائيل وزهير: نزل صلعم عن بغلته [خ¦4317].
          وفي رواية: قال للبراء رجل من قيس [خ¦4317].
          و(حُنَيْن) قال الواقدي: وادٍ بينه وبين مكة ثلاث ليال قرب الطائف.
          وقال البكري: بضعة عشر ميلًا، والأغلب فيه التذكير؛ لأنه اسم ماء، وربما أنَّثته العرب جعلته اسمًا للبقعة، وهو وراء عرفات، سمي بحنين بن قانية بن مهلائيل.
          وقال الزمخشري: هو إلى جَنْبِ ذِي المَجَازِ، ويأتي إن شاء الله تعالى ذكر خروجه صلعم إليها في الغزوات.
          وقوله: (لَكِنَّ رَسُولَ اللهِ صلعم لَمْ يَفِرَّ) هذا هو المعلوم من حاله وحال الأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه؛ لإقدامهم وشجاعتهم وتيقنهم بوعد الله جلَّ وعزَّ، ورغبتهم في الشهادة وفي لقاء الله تعالى، ولم يثبت عن واحد منهم _والعياذ بالله_ أنه فر، ومن قال ذلك في نبينا صلعم قُتِلَ ولم يستتب؛ لأنه صار بمنزلة من قال: إنه صلعم كان أسودَ أو أعجميًّا؛ لإنكاره ما علم من وصفه قطعًا وذلك كُفْرٌ.
          قال القرطبي: وحُكِيَ عن بعض أصحابنا الإجماعُ على قتل من أضاف إليه صلعم نقصًا أو عيبًا، وقيل: يستتاب فإن تاب وإلا قتل.
          قال ابن بطال: لأنه كافر إن لم يتأول ويُعذر بتأويله.
          قال النووي: والذين فروا يومئذ إنما فتحه عليهم من كان في قلبه مرض من مسلمة الفتح المؤلَّفة ومشركيها، الذين لم يكونوا أسلموا، والذين خرجوا لأجل الغنيمة، وإنما كانت هزيمتهم فجأة.
          وركوبه صلعم يومئذ البغلة هو النهاية في الشجاعة والثبات، لاسيما في نزوله عنها، ومما يدل على شجاعته، تقدمه يركض على البغلة إلى جمع المشركين حين فر الناس، وليس معه غير اثني عشر نفرًا، وكان العباس وأبو سفيان بن الحارث آخِذَينِ بلجام البغلة يكفانها عن الإسراع به في العدو.
          اختلف في البغلة التي كانت تحته يومئذ؛ ففي مسلم: «كانت بيضاء، أهداها له فروة / بن نُفَاثة»، وفي لفظ: «كانت شهباء».
          وعند ابن سعد: «كان راكبًا دُلْدُلَ التي أهداها له المقوقس»، فيحتمل أن يكون ركبهما يومئذ، نزل من واحدة وركب الأخرى كما تقدم، والله أعلم.
          قوله: (أَنَا النَّبِيُّ لَا كَذِبْ) زعم ابن التين أن أهل العلم كان يرويه: «لا كذبَ» بنصب الباء ليخرجه عن أن يكون هو رويًا.
          وفيه: إثبات لنبوته صلعم، كأنه قال: أنا ليس بكاذب فيما أقول، فيجوز عليَّ الانهزام.
          وانتسابه إلى جده لرؤيا كان عبد المطلب رآها دالة على نبوته، مشهورة عند العرب وعبرها له سيف بن ذي يزن، فيما ذكره ابن ظفر في «إنباء نجباء الأبناء».
          وقيل: لأن شهرة جده كانت أكثر من شهرة أبيه، لأنه توفي شابًا في حياة أبيه.
          أو لأنه كان صلعم ينتسب كثيرًا إلى عبد المطلب؛ لأن العادة إذا كان في نسب الإنسان جدٌّ أو جدُّ أبٍ له شهرة، أو اسمه فيه غرابة ينسب إليه، وطرح مَنْ بينهما مِنَ الآباء، ولهذا إن ضمام بن ثعلبة لما وفد عليه قال: أيكم ابن عبد المطلب؟.
          وعند ابن إسحاق: «أيها الناس أنا محمد، أنا رسول الله».
          وفيه: جواز الانتماء في الحرب، وإنما كره من ذلك ما كان على وجه الافتخار في غير الحرب؛ لأنه رخص في الخيلاء في الحرب مع نهيه عنها في غيرها، وفي الترمذي عن ابن عمر: «لقد رأيتنا يوم حنين وإن الفئتين موليتين، وما مع رسول الله صلعم إلا مئة رجل»، وقال: حسن صحيح غريب من حديث عبيد الله بن عمر، لا نعرفه إلا من هذا الوجه، انتهى.
          لكن هذا كما ذكره ابن إسحاق حين تلاحق به الناس.
          وعند الزبير: ممن ثبت يومئذ عتبة ومعتب ابنا أبي لهب.
          وعند ابن إسحاق: وجعفر بن أبي سفيان بن الحارث بن عبد المطلب، وأبو بكر، وعمر، وعلي، والفضل بن عباس، وأسامة، وقثم بن العباس، وأيمن بن أم أيمن _وقتل يومئذ_، وربيعة بن الحارث بن عبد المطلب، وعقيل بن أبي طالب فيما ذكره ابن الأثير، وأم سُلَيم أم أنس بن مالك.
          قال العباس:
نصرنا رسول الله في الحرب تسعة                     وقد فر من قد فر منهم وأقشعوا
وعاشرنا لاقى الحمام بنفسه                     لما مسه في الله لا يتوجع
          ويروى: سبعة وثامننا.
          وفي «الجهاد» لابن أبي عاصم بسند جيد عن العباس: «شهدت / النبي صلعم يوم حنين وما معه إلا أنا وأبو سفيان».
          فإن قيل: الفرار من الزحف كبيرة، فكيف بمن انهزم هنا؟
          قال الطبري: الجواب أنَّ الفرار المتوعد عليه هو أن ينوي أن لا يعود إذا وجد قوة، وأما من تحيَّز إلى فئة أو كان فراره لكثرة عدد العدو، أو نوى العود إذا أمكنه فليس داخلًا في الوعيد، ولقد قال جلَّ وعزَّ في حق هؤلاء: {ثُمَّ أَنْزَلَ الله سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ }[الفتح:26].