شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب: إن أحال دين الميت على رجل جاز

          ░3▒ بَابٌ إِنْ أَحَالَ دَيْنَ المَيِّتِ عَلَى رَجُلٍ جَازَ
          إِذَا أَحَالَ عَلَى مَلِيٍّ فَلَيْسَ لَهُ رَدٌّ(1)
          فيهِ سَلَمَةُ بنُ الأَكْوَعِ: (كُنَّا عِنْدَ النَّبيِّ صلعم إِذْ أُتِيَ بِجَنَازَةٍ، فَقَالُوا: صَلِّ عَلَيْهَا، فَقَالَ: هَلْ عَلَيْهِ دَيْنٌ؟ قَالُوا: لَا، قَالَ: فَهَلْ تَرَكَ شَيْئًا؟ قَالُوا: لَا، فَصَلَّى عَلَيْهِ، ثُمَّ أُتِيَ بِجَنَازَةٍ أُخْرَى، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، صَلِّ عَلَيْهَا، قَالَ: هَلْ عَلَيْهِ دَيْنٌ؟ قِيلَ: نَعَمْ، قَالَ: فَهَلْ تَرَكَ شَيْئًا؟ قَالُوا: ثَلاَثَةَ دَنَانِيرَ، فَصَلَّى عَلَيْهَا، ثُمَّ أُتِيَ بِالثَّالِثِ، قَالُوا(2): صَلِّ عَلَيْهَا، قَالَ: هَلْ تَرَكَ شَيْئًا؟ قَالُوا: لَا، قَالَ: فَهَلْ عَلَيْهِ دَيْنٌ؟ قَالُوا: ثَلاَثَةُ دَنَانِيرٍ، قَالَ: صَلُّوا عَلَى صَاحِبِكُمْ، قَالَ أَبُو قَتَادَةَ: صَلِّ عَلَيْهِ يَا رَسُولَ اللهِ وَعَلَيَّ دَيْنُهُ، فَصَلَّى عَلَيْهِ النَّبيُّ(3) صلعم). [خ¦2289]
          وإنَّما ترجم إن أحال دَيْن الميِّتِ على رَجُلٍ، ثمَّ أدخل حديث الضَّمان، لأنَّ الحمالة والحوالة(4) عند بعض العلماء معناهما متقاربٌ، وهو قول ابنِ أبي ليلى وإليه ذهب أبو ثَوْرٍ، فلهذا جاز أن يعبَّر عن الضَّمان بأحال، لأنَّه كلُّه نقل ذمَّةٍ إلى ذمَّةٍ أخرى(5)، ونقل ما على رَجُلٍ مِنْ دَيْنٍ إلى آخر، والحمالة في حديث أبي قَتَادَةَ براءةٌ لذمَّةِ الميِّت، فصار كالحوالة سواءٌ.
          وقد اختلفوا في الرَّجل يضمن دينًا معلومًا عن ميِّتٍ بعد موته، ولم يترك الميِّت(6) وفاءً، فقالت طائفةٌ: الضَّمان له لازمٌ تَرَكَ الميِّتُ شيئًا أم لا، هذا قول ابنِ أبي ليلى، وبه قال مالكٌ والشَّافعيُّ.
          وقال أبو حنيفةَ: لا ضمان على الكفيل لأنَّ الدَّين قد تَوِيَ، فإن ترك شيئًا ضمن الكفيل بقدر ما ترك، فإن(7) ترك وفاءً فهو ضامنٌ لجميع ما تكفَّل به.
          قال ابنُ المُنْذِرِ: فخالف أبو حنيفةَ هذا الحديث، وفي امتناع رسولِ اللهِ صلعم أن يصلِّي عليه قبل ضمان أبي قَتَادَةَ، وصلاته عليه بعد ضمانه(8) البيان البيِّن عن صحَّة ضمان أبي قَتَادَةَ، وأنَّ مَنْ ضمن عن ميِّتٍ دينًا فهو له لازمٌ تَرَكَ الميِّتُ شيئًا أو لم يتركه(9) لأنَّهم قالوا له: ما ترك وفاءً.
          وفي حديث أبي قَتَادَةَ حجَّةٌ على أبي حنيفةَ في قوله: إنَّه لا تصحُّ الكفالة بغير قبول الطَّالب، وخالفه أبو يُوسُفَ وقال: الكفالة جائزةٌ كان له مخاطبٌ أو لم يكن. /
          وقال ابنُ القَاسِمِ: لا أحفظ عن مالكٍ فيه شيئًا، وأراه لازمًا، وأجازه الشَّافعيُّ إذا عرف مقدار ما تكفَّل به.
          وقال(10) الطَّحَاوِيُّ: قد(11) أجاز النَّبيُّ صلعم ضمان أبي قَتَادَةَ عن الميِّت مِنْ غير قبول المضمون له، فدلَّ على صحَّة قول أبي يُوسُفَ.
          واختلفوا إذا تكفَّل عن رجلٍ بمالٍ، هل للطَّالب(12) أن يأخذ مِنْ(13) أيِّهما(14) شاء منهما، فقال الثَّوْرِيُّ والكوفيُّون والأوزاعيُّ والشَّافعيُّ وأحمدُ وإِسْحَاقُ: يأخذ أيَّهما شاء مِنَ المطلوب أو مِنَ الكفيل حتَّى يستوفي حقَّه. وهذا كان قول مالكٍ ثمَّ رجع عنه وقال(15): لا يأخذ الكفيل إلَّا أن يفلس الغريم أو يغيب.
          وقالت طائفةٌ: الكفالة والحوالة والضَّمان سواءٌ، ولا يجوز أن يكون شيءٌ واحدٌ على اثنين، على كلِّ واحدٍ منهما. هذا قول أبي ثَوْرٍ، وقال ابنُ أبي ليلى: إذا ضمن الرَّجل عن صاحبه مالًا تحوَّل على الكفيل، وبرئ صاحب الأصل إلَّا أن يشترط المكفول له عليهما أن يأخذ أيَّهما شاء، واحتجَّ ببراءة الميِّت مِنَ الدَّين بضمان أبي قَتَادَةَ، ولذلك صلَّى النَّبيُّ صلعم عليه(16).
          وقال(17) الأَبْهَرِيُّ: حجَّة(18) مالكٍ أن(19) يأخذ الَّذي عليه الحقُّ، فإن وفى بالدَّين وإلَّا أخذ ما نقصه مِنْ مال(20) الحميل فلأنَّ الَّذي عليه الحقُّ قد أخذ عوض ما يُؤخذ منه، ولم يأخذ الحميل عوض ما يُؤخذ منه، وإنَّما دخل على وجه المكرمة والثَّواب، فكان التَّبدئة بالَّذي عليه الحقُّ أَولى إلَّا أن يكون الَّذي عليه الحقُّ غائبًا أو معدمًا، فإنَّه يُؤخذ مِنَ الحميل لأنَّه معذورٌ في أخذه في هذه الحال. وهذا قولٌ حَسَنٌ، والقياس أنَّ للرَّجل مطالبة أيُّ الرَّجلين شاء، وحجَّة هذا القول ما رواه شَرِيْكٌ عن عبدِ اللهِ بنِ مُحَمَّدِ بنِ عَقِيْلٍ عن جابرٍ(21) أنَّ رجلًا مات وعليه دَيْنٌ فلم يُصلِّ عليه النَّبيُّ صلعم حتَّى قال أبو اليُسْرِ أو غيره: هو عليَّ، فصلَّى عليه، فجاءه مِنَ الغد يتقاضاه، فقال: إنَّما كان ذلك أمس، ثمَّ أتاه مِنْ بعد الغدِ فأعطاه، فقال ◙: ((الآنَ بَرُدَتْ عَلَيْهِ جِلْدَتُهُ)).
          قال الطَّحَاوِيُّ: فدلَّ هذا على أنَّ المطلوب لا يبرأ بكفالة الكفيل عنه، وأنَّ للطَّالب أن يأخذ به بعد الكفالة أيَّهما شاء. [قال الأَبْهَرِيُّ: ولمَّا كان الضَّامن يلزمه إذا ضمن كما يلزم المديان أداء ما عليه، كان صاحب الحقِّ مخيَّرًا أن يأخذه(22) ممَّنْ شاء منهما.
          وقالَ المُهَلَّبُ: ترك النَّبيُّ صلعم الصَّلاة على المديان، إنَّما هو(23) للأحياء لئلَّا يستأكلوا أموال النَّاس فتذهب، وكان هذا(24) في أوَّل الإسلام قبل أن يُفتح عليه(25) المال، فلما فُتح عليه الفيء جعل منه نصيبًا لقضاء دين المسلم، وهذه عقوبةٌ في أمر(26) الدَّين أصلها المال، فلمَّا جاز أن يُعاقب في طريق دينه على سبب المال، جاز أن يُعاقب في المال على سبب الدَّين، كما توعَّد النَّبيُّ صلعم مَنْ لم يخرج إلى المسجد أن(27) يُحَرِّق بيته، وسيأتي الحديث الَّذي نسخه في آخر باب مَنْ تكفَّل عن ميِّتٍ دينًا، والتَّنبيه عليه إن شاء الله [خ¦2295] [خ¦2296].]
(28)


[1] قوله: ((إِذَا أَحَالَ على مَلِيٍّ فَلَيْسَ لَهُ رَدٌّ)) ليس في (ز)، وغير واضحة في (ص).
[2] في المطبوع: ((بالثَّالثة فقالوا))، وغير واضحة في (ص).
[3] قوله: ((النَّبيُّ)) ليس في المطبوع، وغير واضحة في (ص).
[4] في المطبوع: ((لأنَّ الحوالة والحمالة))، وغير واضحة في (ص).
[5] في المطبوع: ((ذمَّة رجل إلى ذمَّة آخر))، وغير واضحة في (ص).
[6] قوله: ((الميِّت)) ليس في المطبوع، وغير واضحة في (ص).
[7] في (ز): ((وإن)).
[8] في المطبوع: ((ضمان))، وغير واضحة في (ص).
[9] في المطبوع: ((يترك))، وغير واضحة في (ص).
[10] في (ز): ((قال)).
[11] في (ز): ((وقد)).
[12] في (ز): ((للمطالب)).
[13] قوله: ((من)) ليس في (ز).
[14] قوله: ((أيِّهما)) ليس في (ص).
[15] في (ز): ((فقال)).
[16] في (ز): ((صلَّى عليه النَّبيُّ صلعم)).
[17] في (ز): ((قال)).
[18] في (ز): ((وحجَّة)).
[19] في (ز): ((أنَّه)).
[20] قوله: ((مال)) ليس في (ص).
[21] قوله: ((عن جابر)) ليس في (ص).
[22] في المطبوع: ((يأخذ)).
[23] زاد في المطبوع: ((أدب)).
[24] في المطبوع: ((وهذا كان)).
[25] في المطبوع: ((يفتح الله عليه)).
[26] في المطبوع: ((أمور)).
[27] قوله: ((أن)) ليس في (ز).
[28] ما بين معقوفتين مطموس في (ص).