شرح الجامع الصحيح لابن بطال

الشرح

          قالَ أبو عبدِ اللهِ بنُ أبي صُفْرَةَ: الحوالة لا تكون إلَّا بعد حلول أجل الدَّين لقوله(1) صلعم: ((مَطْلُ الغَنِيِّ ظِلْمٌ)) لأنَّ المطل لا يكون إلَّا بعد حلول(2) الأجل.
          وقوله: (إِذَا(3) أُتْبِعَ أَحَدُكُمْ عَلَى مَلِيٍّ فَلْيَتْبَعْ) معناه الحوالة، يقول: إذا أحيل أحدكم على مليٍّ فليستحلَّ.
          قالَ الخَطَّابِيُّ: وأكثر المحدِّثين يقولون: إذا اتَّبع بتثقيل التَّاء، والصَّواب أُتْبِعَ بالتَّخفيف.
          وقالَ ابنُ المُنْذِرِ: هذا الخبر يدلُّ على معانٍ منها: أنَّ مِنَ الظُّلم دفع الغني صاحبَ المال عن ماله بالمواعيد، ومَنْ لا يقدر على القضاء غير داخل في هذا المعنى لأنَّ الله جلَّ ذكره قد أنظره بقوله: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ}[البقرة:280].
          وفيه ما دلَّ على تحصين الأموال، وذلك أمره باتَّباع المليِّ دون المعسر(4) لأنَّه حضَّ بقوله: (وَمَنْ أُتْبِعَ عَلَى مَلِيٍّ فَلْيَتْبَعْ) فدلَّ أنَّ مَنْ أتبع على غير مليٍّ فلا يتبع، قال غيره: وهذا معناه عند العلماء: إرشادٌ وندبٌ وليس بواجبٍ، ويجوز عندهم لصاحب الدَّين إذا رضي بذمَّة غريمه، وطابت نفسه على الصَّبر عليه أن(5) يستحيل عليه، وإذا علم منه غنًى جاز له ألَّا يستحيل عليه إذا كان سيِّئ القضاء، وأوجب أهل الظَّاهر أن يستحيل على المليِّ فرضًا(6)، والحوالة عند الفقهاء رخصةٌ مِنْ بيع الدَّين بالدَّين لأنَّها معروفٌ كما كانت العريَّة مستثناةً مِنَ المزابنة لأنَّها معروفٌ(7) وكما جاز(8) قرض الدَّراهم بالدَّراهم إلى أجلٍ لأنَّها معروفٌ(9).
          واختلف الفقهاء في الرَّجل يحتال بالمال على مليٍّ مِنَ النَّاس، ثمَّ يفلس المحال عليه أو يموت، فقالت طائفةٌ: يرجع على المحيل بماله. هذا قول شُرَيحٍ والشَّعْبِيِّ والنَّخَعِيِّ، وبه قال أبو يُوسُفَ ومُحَمَّدٍ، وقال أبو حنيفةَ: يرجع عليه إذا مات المحال عليه مفلسًا، وقال الحَكَمُ: لا يرجع مادام حيًّا حتَّى يموت ولا(10) يترك شيئًا، فإنَّ الرَّجل يُوسر مرَّةً ويُعسر مرَّةً. وقالت طائفةٌ: لا يرجع على المحيل بالمال أفلس المحال عليه أو مات، وسواءٌ غرَّه بالفلس أو طوَّل عليه أو أنكره(11) لأنَّه في معنى مَنْ قبض العوض، هذا قول اللَّيْثِ والشَّافعيِّ وأحمدَ وأبي عُبَيْدٍ وأبي ثَوْرٍ(12)، وقال مالكٌ: لا يرجع على الَّذي أحاله إلَّا أن يغرَّه مِنْ فَلَسٍ عَلِمَه، واحتجَّ الشَّافعيُّ فقال: قول الرَّجل: أحلته وأبرأني، أي حوَّلت حقَّه عني / وأثبته على غيري، فلا يرجع فيه، ودلَّ قوله ◙: (مَنْ أُتْبِعَ عَلَى مَلِيٍّ فَلْيَتْبَعْ) على تحوُّل المال عن المحيل إلى المحال عليه، ولو لم يكن كذلك ما ضرَّه لو أُحيل على معدمٍ، والحجَّة لمالكٍ أنَّ الحوالة تحوُّلٌ مِنْ دَيْنٍ إلى دَيْنٍ، وبيع دَيْنٍ بدَيْنٍ، باع صاحب الحقِّ دَيْنَه الَّذي له على زيدٍ بالدَّيْنِ الَّذي لعَمْرٍو عليه في(13) ذمَّته، فليس له أن يرجع متى مات أو أفلس(14)، لأنَّ حقَّه قد وجب على المحال عليه، وفي ذمَّته دون ذمَّة المحيل، وكأنَّه باع سلعةً له(15) بسلعةٍ، وهذا يُوجب براءة كلِّ واحدٍ منهما مِنْ صاحبه، وذلك مخالفٌ للحمالة، لأنَّ الحمالة وثيقةٌ مِنْ حقِّه، وليس بيع شيءٍ، فأمَّا إذا غرَّه المحيل بفلسٍ فإنَّه يرجع على مَنْ غرَّه، لأنَّ ذلك عيبٌ لم يرضَ به صاحب الحقِّ، كما يرجع المشتري على البائع بأرش العيب إذا دلَّس به، أو يردُّ السِّلعة إن كانت قائمةً(16)، ألا ترى قوله ◙: (وَإِذَا أُتْبِعَ أَحَدُكُمْ عَلَى مَلِيٍّ فَلْيَتْبَعْ) فحكم أنَّ الاتِّباع بشرط الملاء، فدلَّ أنَّه إذا أُحيل على غير مليٍّ أنَّه لا يتبع، وإذا لم يتبعه وجبت له المطالبة بدَيْنه، ويُقَالُ للكوفيِّين: إنَّ الحوالة بيع دراهمٍ في ذمَّة المحيل بدراهمٍ في ذمَّة المحال عليه، وبيع الدَّراهم بالدَّراهم صرفٌ، والصَّرف يبطل بترك القبض، فعُلِمَ أنَّ الحوالة في معنى القبض والاستيفاء، ولولا ذلك لم تصحَّ الحوالة.
          فإن قالوا: إنَّ إفلاس الغريم يجري مجرى العيب، فيجب أن يكون له الردُّ بالعيب والرُّجوع، إلى الحقِّ قيل: هو عيبٌ حَدَثَ بعد البيع، فسقطت المطالبة به، والعيب الَّذي يجب به الرُّجوع إلى الحقِّ(17) هو العيب المتقدِّم قبل(18) سقوط المطالبة، والفرق بين الحوالة والحمالة(19) عند مالكٍ، أنَّ الحمالة والكفالة لفظان معناهما الضَّمان، وهما وثيقةٌ لصاحب الدَّين بمنزلة الرَّهن هو وثيقةٌ للمرتهن، وليس هو بانتقالٍ مِنْ(20) دينٍ إلى دينٍ، ولا مِنْ ذمَّةٍ إلى ذمَّةٍ، فمتى تلف الحميل رجع إلى المتحمل عنه، كما إذا تلف الرَّهن فللمرتهن أخذ حقِّه مِنَ الرَّاهن.


[1] في (ز): ((لقول النَّبيِّ)).
[2] قوله: ((حلول)) ليس في (ص).
[3] في (ز): ((وإذا)).
[4] في (ز): ((المعدم)).
[5] في المطبوع: ((أن لا))، وغير واضحة في (ص).
[6] قوله: ((وأوجب أهل الظَّاهر أن يستحيل على المليِّ فرضًا)) ليس في (ص).
[7] قوله: ((كما كانت العرية مستثناة من المزابنة لأنَّها معروف)) ليس في (ز).
[8] في (ص) صورتها: ((جاء)).
[9] في (ز): ((لأنَّ ذلك معروف)).
[10] في (ز): ((فلا)).
[11] في (ز): ((أنكر)).
[12] في (.): ((وأبي عبيدة وأبيٌّ)).
[13] في (ز): ((وفي)).
[14] في (ص): ((فلس)).
[15] قوله: ((له)) ليس في (ز).
[16] في (ز): ((باقية)).
[17] قوله: ((قيل: هو عيب حدث بعد البيع، فسقطت المطالبة به، والعيب الَّذي يجب به الرُّجوع إلى الحقِّ)) ليس في (ز).
[18] في (ز): ((وقبل)).
[19] في (ز): ((بين الحمالة والحوالة)).
[20] قوله: ((من)) ليس في (ز).