شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب إماطة الأذى عن الصبي في العقيقة

          ░2▒ باب: إِمَاطَةِ الأَذَى عَنِ الصَّبِيِّ فِي العَقِيقَةِ
          فيه: حديثُ سَلْمَانَ(1) بْنِ عَامِرٍ، قَالَ صلعم: (مَعَ الْغُلامِ عَقِيقَةٌ، فَأَهْرِيقُوا عَنْهُ دَمًا، وَأَمِيطُوا عَنْهُ الأذَى). [خ¦5471] [خ¦5472]
          وفيه: حَبِيبُ بْنُ الشَّهِيدِ، قَالَ: أَمَرَنِي ابْنُ سِيرِينَ أَنْ أَسْأَلَ الْحَسَنَ مِمَّنْ سَمِعَ حَدِيثَ الْعَقِيقَةِ، فَسَأَلْتُهُ، فَقَالَ: مِنْ سَمُرَةَ.
          قال المؤلِّف: حديث سمرة: رواه قَتادة، عن الحسن، عن سمرة، عن النَّبيِّ صلعم قال: ((كلُّ غلامٍ مرتهنٌ بعقيقته، يُذبَح عنه يوم السَّابع، ويُسمَّى)) وقد ذكرته في الباب قبل هذا، [خ¦5470] وإماطة الأذى عن الصِّبيِّ هو حلق الشَّعر الذي على رأسه.
          وقال الأصمعيُّ وغيره: العقيقة أصلها الشَّعر الذي يكون على رأس الصَبيِّ، وإنَّما سمِّيت الشَّاة التي تذبح: عقيقةً، لأنَّه يحلق رأس الصَّبيِّ عند ذبحها.
          قال الطَّبريُّ: فسمَّت العرب الذَّبيحة التي يذبحونها عند حلق ذلك الشَّعر باسم ذلك الشَّعر، كما سمَّوا النَّجو: عذرةً، وإنَّما العذرة فناء الدَّار؛ لأنَّهم كانوا يلقون ذلك بأفنيتهم، وكما قالوا الغائط للحدث، والغائط المطمئنُّ من الأرض؛ لأنَّهم كانوا يفعلون ذلك فيما اطمأنَّ من الأرض، وذلك كثيرٌ في كلام العرب، أن ينقلوا اسم الشَّيء إلى ما صاحبه إذا كثرت مصاحبته له.
          وقوله: (أَمِيطُوا) يعني: أزيلوا وأنقوا.
          قال المُهَلَّب: ومعنى أمره صلعم بإماطة الأذى عنه، وإراقة الدَّم يوم سابعه نسيكةً لله تعالى ليبارك فيه، تفاؤلًا بطهرة الله له بذلك، وليس ذلك على الحتم لما تقدَّم من تسميته صلعم لابن أبي طلحة وابن الزُّبير وتحنيكه لهما قبل الأسبوع.
          وروى مالكٌ في «الموطَّأ» أنَّ فاطمة بنت رسول الله صلعم وزنت شعر حسن وحسينٍ فتصدَّقت بزنته فضَّةً.
          وقوله صلعم: (أَمِيطُوا عَنهُ الأَذَى) ردٌّ لقول الحسن البصريِ وقَتادة أنَّ الصَّبيَّ يطلى رأسه بدم العقيقة؛ لأنَّ الدَّم من أكبر الأذى، فغير جائزٍ أن / ينجس رأس الصَّبيِّ بدمٍ. وقال الحسن: يعقُّ عنه يوم سابعه، ثمَّ يُسمَّى، وهو قول مالكٍ وأحمد وإسحاق.
          قال مالكٌ: فإن جاوز السَّابع لم يعقَّ عنه، ولا يعقُّ عن كبيرٍ، وروى عنه ابن وهبٍ أنَّه إن لم يعقَّ عنه يوم السَّابع عقَّ عنه في السَّابع الثَّاني، وهو قول عطاءٍ. وعن عائشة: إن لم يعقَّ عنه في السَّابع الثَّاني عقَّ عنه في السَّابع الثَّالث، وهو قول ابن وهبٍ وإسحاق.
          وقوله صلعم: (مَعَ الغُلَامِ عَقِيقَتُهُ) حجَّةٌ لقول مالكٍ أنَّه لا يعقُّ عن الكبير، وعلى هذا أئمَّة الفتوى بالأمصار، واختلفوا في وجوب العقيقة، فأوجبها الحسن البصريِّ وأهل الظَّاهر وتأوَّلوا قوله صلعم: (مَعَ الغُلَامِ عَقِيقَتُهُ) على الوجوب.
          وقال مالكٌ والشَّافعيُّ وأحمد وأبو ثورٍ وإسحاق: العقيقة سنَّةٌ يجب العمل بها ولا ينبغي تركها لمن قدر عليها.
          وقال الكوفيُّون: ليست بسنَّةٍ. وقولهم خلاف ما عليه العلماء من التَّرغيب فيها والحضُّ عليها، ألا ترى قول مالكٍ أنَّها من الأمر الذي لم يزل عليه أمر النَّاس عندنا.
          وقال محمَّد(2) بن الحسن: العقيقة تطوُّعٌ ونسخها الأضحى. ولا أصل لقوله، إذ لا سلف له ولا أثر به.
          وروى أيُّوب، عن عِكْرِمَة، عن ابن عبَّاسٍ: ((أنَّ الرَّسول صلعم عقَّ عن الحسن والحسين بكبشين، كبشٍ عن كلِّ واحدٍ منهما)).
          وروى حمَّاد بن سلمة، عن عبدالله بن خُثَيم، عن يوسف بن ماهك، عن حفصة بنت عبد الرَّحمن، عن عائشة قالت: ((أمرنا رسول الله صلعم أن نعقَّ عن الغلام بشاتين وعن الجارية بشاةٍ)) وبه قال مكحولٌ.
          فإن قيل: فأيُّهم الصَّحيح من هذه الآثار؟
          قال الطَّبريُّ: كلاهما صحيحٌ والعمل بأيِّ ذلك شاء العامل فعل؛ لأنَّه صلعم لمَّا صحَّ عنه أنَّه عقَّ عن الحسن والحسين شاةً شاةً عن كلِّ واحدٍ منهما، ولم يأتنا خبرٌ أنَّ ذلك خاصٌّ لهما، علم أنَّ أمره بالعقِّ عن الغلام بشاتين إنَّما هو أمر ندبٍ لا أمر إيجابٍ، وأنَّ لأمَته الخيار في أيِ ذلك شاؤوا.
          وقد رأى قومٌ أنَّ العقيقة سنَّةٌ في الذُكور، غير سنَّةٍ في الإناث.
          روي ذلك عن أبي وائلٍ والحسن. وإلَّا لما عقَّ صلعم عن الحسن والحسين، فالسُّنَّة في كلِّ مولودٍ من الذُّكران مثل السُّنَّة فيهما. وأمَا الإناث فلم يصحَ عندنا عنه صلعم أنَّه أمر بالعقيقة عنهنَّ ولا أنَّه فعل ذلك، إلَّا أنَّ الذي مضى عليه السَّلف بالمدينة وانتشر في بلدان المسلمين أن يعقَّ عن الغلام والجارية.
          قال يحيى بن سعيدٍ: أدركت النَّاس وما يدعون العقيقة عن الغلام والجارية.
          قال الطَّبريُّ: والدَليل على أنَّها غير واجبةٍ، ترك النَّبيِ صلعم بيان من يجب ذلك عليه في المولود، هل هو الأب أو المولود أو إمام المسلمين؟ ولو كان ذلك فرضًا لبيَّن صلعم من يلزمه ذلك، فمن عقَّ عن المولود من والديه أو غيرهما كان بذلك محسنًا؛ ألا ترى أنَّ الرَّسول صلعم عقَّ عن الحسن والحسين دون أبيهما؟ ولو وجب ذلك على والد المولود لما أجزأ عن عليٍّ عقُّ النَّبيِّ صلعم عن ابنيه، كما أنَّ عليًّا لو لزمه هديٌ من جزاء صيدٍ أو نذرٍ لم يجزه إهداء مُهدٍ عنه إلَّا بأمره.
          وفي عقِّه صلعم عنهما من غير مسألة عليٍّ إيَّاه ذلك الدَّليل الواضح على أنَّها لم تجب على عليٍّ، وإذا لم تجب عليه فهو أبعد من وجوبها على فاطمة، ولا نعلم أحدًا من الأئمَّة أوجبها إلَّا الحسن البصريَّ، وقد أبطل وجوبها بقوله إنَّ الأضحى يجزئ عنها؛ لأنَّ الأضحى نسكٌ غير العقيقة، ولو أجزأت منها صار الأضحى يجزئ من فدية حلق الرَّأس للمحرم، ومن هديٍ واجب عليه.
          وفي إجماع الجميع أنَّ الأضحى لا يجزئ عن ذلك الدَّليل الواضح أنَّها لا تجزئ من العقيقة، وهى سنَّةٌ.


[1] في (ص): ((سليمان)) والمثبت من المطبوع.
[2] في (ص): ((أحمد)) والمثبت من المطبوع.