عمدة القاري في شرح صحيح البخاري

حديث: ما أصبح لآل محمد إلا صاع
  
              

          2508- (ص) حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ: حَدَّثَنَا هِشَامٌ: حَدَّثَنَا قَتَادَةُ عَنْ أَنَسٍ ☺ قَالَ: وَلَقَدْ رَهَنَ رَسُوْلُ الله صلعم دِرْعَهُ بِشَعِيرٍ، وَمَشَيْتُ إِلَى النَّبِيِّ صلعم بِخُبْزِ شَعِيرٍ وَإِهَالَةٍ سَنِخَةٍ، وَلَقَدْ سَمِعْتُهُ يَقُولُ: «مَا أَصْبَحَ لآلِ مُحَمَّد إِلَّا صَاعٌ، وَلَا أَمْسَى» وَإِنَّهُمْ لَتِسْعَةُ أَبْيَاتٍ.
          (ش) مطابقته للترجمة في قوله: (وَلَقَدْ رَهَنَ رَسُولُ اللهِ صلعم دِرْعَهُ بِشَعِيرٍ).
          ومضى الحديث في أوائل (كتاب البيوع) في (باب شراء النَّبِيِّ صلعم بالنسيئة)، فَإِنَّهُ أخرجه هناك عن مسلم عن هشام عن قتادة عن أنسٍ، [وعن مُحَمَّد بن عبد الله بن حَوْشَب عن أسباط عن هشامٍ الدَّسْتَوَائِيَّ عن قتادة عن أنسٍ] ومضى الكلام فيه مستوفًى.
          قوله: (وَلَقَدْ رَهَنَهُ) معطوف على شيءٍ محذوفٍ، بيَّنه ما رواه أحمد مِن طريق أَبَان الْعَطَّار عن قتادة عن أنسٍ: (أنَّ يهوديًا دعا رسول الله صلعم فأجابه، ولقد رهن...) إلى آخره، وهذا اليهوديُّ هو أبو الشَّحم، واسمه كنيته، وهو مِن بني ظَفَر _بفتح الظاء المُعْجَمة والفاء_ وهو بطن مِنَ الأوس، وكان حليفًا لهم، وكان قدر الشعير ثلاثين صاعًا، كما سيأتي في «البُخَاريِّ» / مِن حديثِ عائشة في (الجهاد)، وكذلك رواه أحمد وابن ماجه والطبرانيُّ، وفي رواية التِّرْمِذيِّ والنَّسائيِّ: «بعشرين صاعًا»، ووقع لابن حِبَّان مِن طريق شيبان عن قتادة عَن أنسٍ: أنَّ قيمة الطعام كانت دينارًا، وزاد أحمد مِن طريق شيبان: (فَمَا وَجَدَ مَا يَفْتَكُّهَا به حَتَّى مَاتَ).
          قوله: (دِرْعَهُ) بكسر الدال، يذكَّر ويؤنَّث.
          قوله: (بِشَعِيرٍ) الباء فيه للمقابلة؛ أي: رهن درعه في مقابلة شعيرٍ.
          قوله: (وَمَشَيْتُ) أي: قال أنس: مشيت إلى النَّبِيِّ صلعم .
          قوله: (بِخُبْزِ شَعِيرٍ) بالإضافة والباء فيه تتعلَّق بـ(مَشَيْتُ).
          قوله: (وَإِهَالَةٍ) بكسر الهمزة وتخفيف الهاء: ما أذيب مِنَ الشحم والألية، وقيل: هو كلُّ دسمٍ جامد، وقيل: ما يؤتدم به مِن الأدهان.
          قوله: (سَنِخَةٍ) بفتح السين المُهْمَلة وكسر النون وفتح الخاء المُعْجَمة؛ أي: متغيِّرة الريح، ويقال: زنخة أيضًا بالزاي، موضع السين.
          قوله: (وَلَقَدْ سَمِعْتُهُ) أي: قال أنس، ☺ : (لقد سمعتُ النَّبِيَّ صلعم يقول...) وقد مرَّ ما قال الكَرْمَانِيُّ فيه وما رُدَّ عليه وما أجبتُ عنه في الباب المذكور.
          قوله: (مَا أَصْبَحَ لآلِ مُحَمَّدٍ إِلَّا صَاعٌ وَلَا أَمْسَى) كذا بهذه العبارة وقع لجميع الرواة، وكذا ذكره الحُمَيْديُّ في «الجمع»، ووقع لأَبيْ نُعَيْم في «المستخرج» مِن طريق الكجيٍّ عن مسلم بن إبراهيم شيخ البُخَاريِّ المذكور في سند الحديث بلفظ: (مَا أَصْبَحَ لآلِ مُحَمَّد وَلَا أَمْسَى إِلَّا صَاعٌ) وهذا أحسن، وفيه تنازع الفعلان في ارتفاع (صاع) وفي رواية البُخَاريِّ.
          قوله: (أَصْبَحَ) فعلٌ، وفاعله (صَاعٌ) ويقدَّر صاع آخر في قوله: (وَلَا أَمْسَى) أي: ولا أمسى صاع، ووقع في رواية أحمد عَن أبي عامرٍ والإسماعيليِّ مِن طريقه، وللترمذيِّ مِن طريق ابن أبي عَدِيٍّ ومعاذ بن هشام، وللنَّسائيِّ مِن طريق هشام بلفظ: (ما أمسى في آل مُحَمَّد صاع تمر ولا صاع حَبٍّ)، والمراد بـ(الآل) أهل بيته صلعم ، وقد بيَّنه بقوله: (وَإِنَّهُمْ) أي: وإنَّ آله (لَتِسْعةُ أَبْيَاتٍ)، وأراد به بطريق الكناية تسع نسوة، وكذا وقع في رواية هؤلاء المذكورين، ولم يقل النَّبِيُّ صلعم هذه المقالة بطريق التضجُّر، حاشا وكلَّا، وإِنَّما هو بيان الواقع.
          وَفِيْهِ مِنَ الفَوَائِدِ:
          جواز معاملة الكفَّار فيما لم يتحقَّق تحريم عين المتعامل فيه، وعدم الاعتبار بفساد معتقدهم ومعاملاتهم فيما بينهم.
          وفيه: جواز بيعِ السلاح ورهنه وإجارته وغير ذلك مِن الكافر ما لم يكن حربيًّا.
          وفيه: ثبوت أملاك أهل الذِّمَّة في أيديهم.
          وفيه: جواز الشراء بالثمن المؤجَّل.
          وفيه: جواز اتِّخاذ الدروع وغيرها مِن آلات الحرب، وأنَّه غير قادح في التوكُّل.
          وفيه: أنَّ قِنية آلة الحرب لا تدلُّ على تحبيسها.
          وفيه: أنَّ أكثر قوت ذلك العصر الشعير، قاله الداوديُّ.
          وفيه: ما كان فيه النَّبِيُّ صلعم مِنَ التواضع والزهد في الدنيا والتقلُّل منها مع قدرته عليها، والكرم الذي أفضى به إلى عدم الادخار حَتَّى احتاج إلى رهن درعه، والصبر على ضيق العيش والقناعة باليسير.
          وفيه: فضيلة أزواجه صلعم لصبرهنَّ معه على ذلك.
          وفيه: فوائد أخرى ذكرناها هناك.