عمدة القاري في شرح صحيح البخاري

باب من رأى أن الله ╡ لم يوجب السجود
  
              

          ░10▒ (ص) بابُ مَنْ رَأَى أَنَّ اللهَ تَعَالَى لَمْ يُوجِبِ السُّجُودَ.
          (ش) أي: هذا بابٌ في بيانِ حكمِ مَنْ رَأَى أَنَّ اللهَ ╡ لَمْ يُوجِبِ السُّجُودَ، وكأنَّ مَن رأى ذلك يَحْمِل الأمرَ في قوله: {اسْجُدُوا}[الفرقان:60] وقوله: {وَاسْجُدْ}[العلق:19] على الندب، أو على أنَّ المرادَ به سجودُ الصلاة، أو في الصلاة المكتوبة على الوجوب، [وفي سجدةِ التلاوةِ على الندب.
          قُلْت: الأمرُ إذا جُرِّد عنِ القرائن يدلُّ على الوجوب]
، والأمرُ في الموضعين للوجوب؛ لتجرُّدِه عنِ القرينةِ الصَّارِفَةِ عنِ الوجوب، وحَمْلُه على سجودِ الصلاة يحتاجُ إلى دليلٍ، واستعمالُه في الصلاة المكتوبة على الوجوب، وفي سجدة التلاوة على الندب استعمالٌ لمفْهُومَيْن مختلِفَين في حالةٍ واحدةٍ، وهو ممتنعٌ.
          (ص) وَقِيلَ لِعِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ: الرَّجُلُ يَسْمَعُ السَّجْدَةَ، وَلَمْ يَجْلِسْ لَهَا، قَالَ: أَرَأَيْتَ لَوْ قَعَدَ لَهَا، كَأَنَّهُ لَا يُوجِبُهُ عَلَيْهِ.
          (ش) هذا وما بعدَه _مِن أثرِ سلمانَ وكلامِ الزُّهْريِّ وفعلِ السائبِ بنِ يزيدَ_ داخلةٌ في الترجمة؛ ولهذا عطفه بالواو، وأثرُ عِمْرَانَ الذي علَّقه وصله ابن أبي شَيْبَةَ في «مصنَّفه» بمعناه، قال: حَدَّثَنَا عبد الأعلى عن الجُرَيْريِّ، عن أبي العلاء، عن مُطَرِّف [قال: وسألتُه عنِ الرجل يتمادى في السجدة؛ أسمِعَها أو لم يسْمَعْها؟ قال: وسمعها فماذا؟ ثُمَّ قال مُطَرِّف]: سألت عِمْرَانَ بنَ حُصَيْنٍ عنِ الرجلِ لا يدري أسَمْعَ السجدةَ أم لا؟ قال: وسمعها فماذا؟
          قوله: (وَلَمْ يَجْلِسْ لَهَا) أي: لقراءة السجدة، (قَالَ) أي: عِمْرَان: (أَرَأَيْتَ) أي: أخبرني.
          قوله: (لَوْ قَعَدَ لَهَا) أي: للسجدة، وجوابُ (لو) محذوفٌ؛ يعني: لا يجب عليه شيءٌ.
          قوله: (كَأَنَّهُ لَا يُوجِبُهُ عَلَيْهِ) مِن كلام البُخَاريِّ؛ أي: كأنَّ عِمْرَانَ لا يُوجِب السجودَ على الذي قعد لها للاستماع، فإذا لم يجبْ على المستمع؛ فعدمه على السامع بالطريقِ الأولى.
          قُلْت: يعارضُ هذا أثرَ ابنِ عمر ☻ أنَّهُ قال: (السجدةُ على مَن سمعها)، رواه ابن أبي شَيْبَةَ، وكلمة (على) للإيجاب مطلق عن قيدِ القَصْدِ، فتجبُ على كلِّ سامعٍ، سواء كان قاصدًا للسماع أو لم يكن.
          (ص) وَقَالَ سَلْمَانُ ☺ : مَا لِهَذَا غَدَوْنَا.
          (ش) (سَلْمَانُ) هذا هو الفارسيُّ، هو قطعةٌ مِن أثره، علَّقه البُخَاريُّ، ووصله ابن أبي شَيْبَةَ عن ابن فُضَيلٍ عن عطاءِ بنِ السائبِ، عن أبي عبد الرَّحْمَن قال: دخل سلمانُ الفارسيُّ المسجدَ وفيه قوم يقرؤون، فقرؤوا سجدةً فسجدوا، فقال له صاحبُه: يا أبا عبد الله؛ لو أتينا هؤلاء، قال: ما لهذا غَدَوْنَا، وأخرجه البَيْهَقيُّ أيضًا، وأخرجه عبدُ الرزَّاق مِن طريق أبي عبد الرَّحْمَن السلميِّ قال: مرَّ سلمانُ على قومٍ قعودٍ، فقرؤوا السجدةَ فسجدوا، فقيل له، فقال: ليس لهذا غدونا.
          قوله: (مَا لِهَذَا غَدَوْنَا) أي: ما غدونا لأجل السماعِ، فكأنَّه أراد بيان أنَّا لم نسجد؛ لأنَّا ما كنَّا قاصدين السماع.
          (ص) وَقَالَ عُثْمَانُ: إِنَّما السَّجْدَةُ عَلَى مَنِ اسْتَمَعَهَا.
          (ش) هذا التعليقُ وصله عبد الرزَّاق عن مَعْمَرٍ، عن الزُّهْريِّ، عن ابن المُسَيَِّبِ: أنَّ عثمانَ [مرَّ بقاصٍّ، فقرأ سجدةً ليسجد معه عثمان، فقال عثمان: إِنَّما السجودُ على مَنِ استمعَ، ثُمَّ مضى ولم يسجد، وروى ابنُ أبي شَيْبَةَ: حَدَّثَنَا وكيعٌ عن ابن أبي عروبة، عن قتادةَ، عن ابن المُسَيَِّبِ، عن عثمان] قال: إِنَّما السجدةُ على مَن جلسَ لها.
          قوله: (عَلَى مَنِ اسْتَمَعَهَا) يعني: لا على السامع.
          قال الكَرْمَانِيُّ: والفرقُ بينهما: أنَّ المستمعَ مَن كان قاصدًا للسماع مُصغِيًا إليه، والسامعَ مَنِ اتَّفقَ سماعُه مِن غير القصدِ إليه.
          قُلْت: هذه الآثارُ الثلاثةُ لا تدلُّ على نفيِ وجوب السجدة على التالي، والترجمةُ تدلُّ على العموم، فلا مطابقة بينهما مِن هذا الوجه، وروايةُ ابن أبي شَيْبَةَ تدلُّ على وجوبِ السجدةِ عند عثمانَ على الجالس لها، سواء قَصَدَ السماعَ أو لم يَقْصِدْ.
          (ص) وَقَالَ الزُّهْريُّ: لَا تَسْجُدْ إِلَّا أَنْ تَكُونَ طَاهِرًا، فَإِذَا سَجَدْتَ وَأَنْتَ فِي حَضَرٍ؛ فَاسْتَقْبِلِ الْقِبْلَةَ، وَإِنْ كُنْتَ رَاكِبًا؛ فَلَا عَلَيْكَ حَيْثُ كَانَ وَجْهُكَ.
          (ش) (الزُّهْريُّ) هو مُحَمَّد بن مسلم ابن شهابٍ، وصل هذا عبدُ الله بنُ وَهْبٍ عن / يونسَ عنه بتمامه.
          قوله: (لَا تَسْجُدْ إِلَّا أَنْ تَكُونَ طَاهِرًا) يدلُّ على أنَّ الطهارةَ شرطٌ لأداء سجدةِ التلاوة، فيه خلاف ابن عمر والشعبيِّ، وقد ذكرناه.
          قال بعضهم: قيل: قوله: «لَا تَسْجُدْ إلَّا أنْ تكونَ طاهرًا» ليس بدالٍّ على عدمِ الوجوب؛ لأنَّ المدَّعيَ يقول: علَّق على شرطٍ؛ وهو وجودُ الطهارة، فحيث وُجِدَ الشرطُ لزم.
          قُلْت: هذا كلامٌ واهٍ، كيف ينقله مَن له وجهُ إدراك؟! لأنَّ أحدًا هل قال: يلزم مِن وجود الشرط وجودُ المشروط؟ والشرطُ خارجٌ عنِ الماهيَّة والوجوب، وعدمُ الوجوبِ يتعلَّق بالماهيَّة، لا بالشرطِ، وغايتُه أنَّهُ إذا ثبتَ وجوبُه يشترطُ له الطهارةُ للأداء.
          وقوله: والجواب: أنَّ موضعَ الترجمة مِن هذا الأثر قولُه: «فَإِنْ كُنْتَ رَاكِبًا؛ فَلَا عَلَيْكَ حَيْثُ كَانَ وَجْهُكَ»؛ لأنَّ هذا دليلُ النَّفل؛ إذ الفرضُ لا يُؤدَّى على الدَّابَّة في الأمن.
          قُلْت: كيف يطابقُ هذا الجوابُ لقولِ هذا القائل المذكور، وبينهما بعدٌ عظيمٌ يظهر بالتأمُّل على أنَّ الحنفيَّ لا يقول بفرضيَّته حَتَّى يقال: الفرضُ لا يُؤدَّى على الدَّابَّة.
          قوله: (وإِنْ كُنْتَ رَاكِبًا) قال الكَرْمَانِيُّ: أي: في السفر، بقرينة كونه قسيمًا لقوله: «فِي حَضَرٍ»، والركوبُ كنايةٌ عنِ السفر؛ لأنَّ السَّفرَ مستلزمٌ له.
          قُلْت: لا نسلِّم تقييد الرَّاكب بالسفر؛ لأنَّه أعمُّ مِن أن يكونَ راكبًا في الحضر أو السفر، وقوله: (والركوبُ كنايةٌ) فيه عدولٌ عن الحقيقة مِن غير ضرورةٍ، وقوله: (لأنَّ السفرَ مستلزمٌ له) أي: للرُّكوب، غيرُ صحيحٍ؛ لأنَّه يكون بالمشي أيضًا.
          قوله: (لَا عَلَيْكَ) أي: لا بأس عليك ألَّا تستقبلَ القبلةَ عندَ السجودِ.
          (ص) وَكَانَ السَّائِبُ بْنُ يَزِيدَ لَا يَسْجُدُ لِسُجُودِ الْقَاصِّ.
          (ش) (السَّائِبُ بْنُ يَزِيدَ) مِنَ الزيادة، ابن أختِ النَّمرِ الكندِيِّ، ويقال: اللَّيثيُّ، ويقال: الأزديُّ، ويقال: الهذليُّ، أبو يزيدَ، الصحابيُّ المشهور، مات سنة إحدى وتسعين، وقد مرَّ ذكره في (باب استعمال فضل وضوء النَّاس).
          و(الْقَاصِّ) بالقاف وتشديد الصاد المُهْمَلة: الذي يقصُّ الناسَ الأخبارَ والمواعظَ، قال الكَرْمَانِيُّ: ولعلَّ سبَبَه أنَّهُ ليس قاصدًا لقراءة القرآن.
          قُلْت: لعلَّ سبَبَه ألَّا يكونَ في قصدِه السماعُ، أو كان سَمِعَهُ ولم يكنْ يستمع له، أو كان لم يجلسْ له؛ فلا يسجد.