عمدة القاري في شرح صحيح البخاري

باب من سجد لسجود القارئ
  
              

          ░8▒ (ص) بابُ مَنْ سَجَدَ لِسُجُودِ الْقَارِئِ.
          (ش) أي: هذا بابٌ في بيان حكمِ مَن سجدَ للتلاوة؛ لأجل سُجُودِ الْقَارِئِ، وحكمُه أنَّهُ ينبغي أن يسجدَ لسجود القارئ، حَتَّى قال ابن بَطَّالٍ: أجمعوا على أنَّ القارئ إذا سجد لزِمَ المستمعَ أن يسجدَ، كذا أطلَقَ، ولكنْ فيه خلافٌ قد ذكرناهُ فيما مضى، اختلفوا في السامعِ الذي ليس بمُستَمِعٍ؛ وهو الذي لم يقْصِدِ الاستماعَ ولم يجلس له، فقال الشَّافِعِيُّ في «مختصر البويطيِّ»: لا أؤكِّده، وإن سجد فحَسَنٌ، وعند الحَنَفيَّة: يجب على القارئ والسامعِ والمستمعِ، وقد ذكرنا دلائلَهم عن قريبٍ، وقال بعضهم: في الترجمة إشارةٌ إلى أنَّ القارئ إذا لم يسجد لم يسجدِ السامعُ.
          قُلْت: ليس كذلك؛ لأنَّ تعلُّق السجدةِ بالسامع _سواء كان مِن حيث الوجوب أو من حيث السُّنَّة_ لا يتعلَّق بسجدة القارئ، بل بسماعه يجب عليه أو يُسنُّ، على الخلاف، وسواء في ذلك سجودُ القارئ وعدمُه.
          (ص) وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ ☺ لِتَمِيمِ بْنِ حَذْلَمٍ _وَهْوَ غُلَامٌ، فَقَرَأَ عَلَيْهِ سَجْدَةً، فَقَالَ_: اسْجُدْ فَإِنَّكَ إِمَامُنَا فِيهَا.
          (ش) (تَمِيمٌ) بفتح التاء المُثَنَّاة مِن فوق، و(حَذْلَمٌ) بفتح الحاء المُهْمَلة وسكون الذال المُعْجَمة وفتح اللام، أبو سَلَمَةَ الضَّبِّيُّ، وهو تابعيٌّ، روى عنه ابنه أبو الخير، وفي «تذهيب التهذيب»: تميمُ بنُ حَذْلَمٍ الضَّبِّيُّ أبو سَلَمَةَ، أدرك أبا بكر وعُمَرَ، وصَحِبَ ابنَ مسعود، وروى عنه إبراهيم النَّخَعِيُّ وسِماك بن سَلَمة الضبِّيُّ والعلاء بن بدرٍ وآخرون، وروى له البُخَاريُّ في (كتاب الأدب).
          وهذا التَّعليق وصله سعيد بن منصور مِن رواية مُغيرة عن إبراهيمَ قال: قال تميمُ بنُ حَذْلَمٍ: قرأتُ القرآن على عبد الله وأنا غلام، فمررتُ بسجدة، فقال عبد الله: أنت إمامُنَا فيها، وروى ابن أبي شَيْبَةَ في «مصنَّفه» نحوَه: حَدَّثَنَا ابنُ فُضَيل عن الأَعْمَش، عن أبي إسحاق، عن سُلَيم بن حنظلة قال: قرأتُ على عبد الله بن مسعودٍ «سورة بني إسرائيل»، فلمَّا بلغتُ السجدةَ قال عبد الله: اقرأها فإنَّك إمامُنَا فيها، وقال البَيْهَقيُّ: حَدَّثَنَا عليُّ بن مُحَمَّد ابن بِشْران: أخبرنا أبو جعفر الرزَّاز: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بنُ عُبَيد الله: حَدَّثَنَا إسحاقُ الأزرقُ: أخبرنا سفيان عن أبي إسحاقَ، عن سُلَيم بن حنظلةَ قال: قرأتُ السجدةَ عند ابن مسعودٍ، فنظر إليَّ فقال: أنت إمامُنَا؛ فاسجد نسجد معك، وفي «سنن سعيد بن منصور» مِن حديث إسماعيلَ بنِ عَيَّاش عن إسحاقَ بنِ عبدِ الله بنِ أبي فَرْوَةَ، عن أبي هُرَيْرَة: قرأ رجلٌ عند النَّبِيِّ صلعم سجدةً، فلم يسجد، فقال له النَّبِيُّ صلعم : «أنت قرأتها، ولو سجدتَ سجدنا معك»، وروى البَيْهَقيُّ مِن حديث عطاء بنِ يسارٍ قال: بلغني أَنَّ رجلًا قرأَ عند رسول الله صلعم آيةً مِنَ القرآن فيها سجدة، فسجد الرجلُ وسجد النَّبِيُّ صلعم معه، ثُمَّ قرأ آخرُ آيةً فيها سجدة عند النَّبِيِّ صلعم ، [فانتظر الرجلُ أن يسجدَ النَّبِيُّ صلعم ]، فلم يسجد فيها، فقال الرجل: يا رسول الله؛ قرأتُ السجدةَ فلم تسجد؟ فقال النبيُّ صلعم : «أنت إمامُنَا، فلو سجدتَ؛ سجدنا معك».
          قوله: (وَهْوَ غُلَامٌ) جملةٌ حاليَّةٌ.
          قوله: (فَقَالَ) أي: ابن مسعود.
          قوله: (فِيهَا) أي: في السجدة، ومعنى قوله: (إِمَامُنَا) أي: متبوعُنا؛ لتعلُّقِ السجدةِ بنا مِن جهتك، اسجد أنتَ لنسجد نحن أيضًا، وليس معناه: إن لم تسجدْ لا نسجد؛ وذلك أنَّ السجدةَ لمَّا تتعلَّق بالتالي تتعلَّق بالسامع، فإن لم يسجدِ التالي لا يسقط عن السامع، هذا مذهبُ أصحابِنَا، وقالت المالكيَّة: يسجد المستمعُ دونَ السامعِ، وقالت الحنابلةُ: لا يسجدُ المستمعُ إلَّا إذا سجد القارئ، وقال البَيْهَقيُّ في «الخلافيَّات»: إذا / لم يسجدِ التالي؛ فلا يسجد السامعُ في أصحِّ الوجهين، فإن كان القارئ لها في الصلاة؛ يسجد إن كان منفردًا أو إمامًا، ويسجد السامعُ له إن كان مأمومًا معه وسجد إمامُه، فإن لم يسجدْ إمامُه؛ لم يسجدْ بلا خلافٍ، فإن سجد؛ بطلت صلاتُه عندهم، وعند أبي حنيفة: يسجد بعد فراغه مِنَ الصلاةِ بناء على أصله، فإن سجدها في الصلاة؛ لا تبطل، ولم تجزئْهُ عنِ الوجوب، وعليه إعادتُها خارجَ الصلاة، وقال صاحب «الهداية»: وفي «النوادر»: أنَّهُ تفسد صلاتُه بالسجود فيها في هذه الحالة، قال: وقيل: هو قول مُحَمَّدِ بنِ الحَسَنِ، وقالت المالكيَّة: يسجد المنفرد لقراءة نفسه في النافلة، وكذا إذا كان إمامًا فيها، دون الفريضة.