الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب قول الله تعالى: {والذين عاقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم}

          ░2▒ (بابُ قَوْلِ اللَّهِ تعالى) وفي بعض النُّسخ: <╡> بدَلَ: ((تعالى)) ({وَالَّذِينَ عَاقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ}) الموصولُ: مبتدأٌ، وجملةُ: {عَاقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ} صلتُه، وجملةُ: {فَآتُوْهُم نَصِيْبَهُمْ} خبرُه، ولتضمُّنِ المبتدأِ معنى الشرطِ دخلَتِ الفاءُ في خبرِه، ويجوزُ أن يكونَ {الَّذِينَ} في محلِّ نصبٍ بمحذوفٍ يفسِّرُه: {فَآتُوْهُمْ} على حدِّ: زيداً أضرِبُه، وأن يكونَ معطوفاً على {الوَالِدَانِ} أو: {الأَقْرَبُوْنَ} / في صدرِ الآيةِ من قولِه تعالى: {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ} وعليه: فجملةُ: {فَآتُوْهُم نَصِيْبَهُمْ} مسبَّبةٌ عن الجملةِ المتقدِّمة، مؤكِّدةٌ لها، والضميرُ للموالي، جمعُ: مَولًى، بمعنى: وَرَثةٍ، وقيل: عصَبةٍ.
          وقال الزَّجَّاج: المَولى: كلُّ مَن يَليك، وكلُّ مَن والاك في محبَّةٍ، فمعنى الآيةِ: ولكلِّ ميِّتٍ، أو: لكلِّ تَرِكةٍ، أو: لكلِّ قومٍ جعَلْنا وُرَّاثاً، أو: عصَبةً، أو: مَن يُواليهم، وعلى الأخير: فيكونُ: {وَالَّذِيْنَ عَاقَدَتْ أَيْمَانُكُم} للتأكيدِ، أو من عطفِ الأخصِّ على الأعمِّ، فإنَّ {الَّذِينَ عَاقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ} المرادُ بهم: مَوالي المُوالاةِ، فقد كان الرجلُ يعاقِدُ الرجلَ فيقولُ مثلاً: دمي دمُك، وثأري ثأرُك، وحربي حربُك، وسِلْمي سِلمُك، ترِثُني وأرِثُك، وتطلبُ بي وأطلُبُ بك، وتعقلُ عني وأعقلُ عنك.
          وزعمَ الدَّاوديُّ _كما في ((ابن الملقِّن))_ أنهم كانوا في الجاهليَّةِ إذا تعاقَدوا، فإنْ كان له ورَثةٌ سِواه، فله السُّدسُ، وإلا ورِثَه، لكن يأتي في المتنِ قريباً أنهم كانوا لا يورِّثونَ ذوي الأرحامِ، وكان هذا الحكمُ ثابتاً في أولِ الإسلام، ثم نُسخَ عند الجمهورِ بقولِه تعالى: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ} [الأنفال:75].
          وقال أبو حنيفةَ: لو أسلَمَ رجلٌ على يدِ رجلٍ، وتعاقدا على أن يتعاقَلا ويتوارَثا، جازَ وورِثَه.
          قال البيضاويُّ: وقرأ الكوفيُّون: ▬عقَّدَت↨ بمعنى: عقَّدَتْ عهودَهم أيمانُكم، قال: فحَذفَ العهودَ، وأُقيمَ الضميرُ المضافُ إليه مَقامَه، ثم حَذفَ الضميرَ كما حذَفَه في القراءةِ الأولى، وقيل: المرادُ بـ{الَّذِيْنَ عَاقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ}: الأزواجُ، على أنَّ العقدَ عقدُ النِّكاح، انتهى.
          وقال ابنُ الملقِّن: نزلَ آخرُ الآيةِ في حِلْفِ الجاهليةِ، توارَثوا به، ثم نُسِخَ بقوله: {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ} [النساء:33] وقيل: نزلَتْ في أهلِ العقدِ بالحِلْفِ، يرثون نصيبَهم من النصرِ والنصيحةِ دون الإرثِ، قال: ومنه حديثُ: ((لا حِلفَ في الإسلامِ)) و((ما كان من حِلْفٍ في الجاهليَّةِ، فلم يزِدْه الإسلامُ إلا شدَّةً)) وقيل: نزلَتْ في ابنِ التبنِّي، أُمِروا أن يوصوا له عند الموت، وقيل: نزلَتْ فيمَن أُوصيَ له بشيءٍ، ثم هلكوا، أُمِروا أن يدفعوا نصيبَهم إلى ورثَتِهم، انتهى.
          وعن ابنِ المسيَّب: نزلَتْ هذه الآيةُ في الوصيَّةِ وردِّ الميراثِ إلى الموالي من ذوي الرَّحمِ والعَصَبةِ، وأبى أن يجعَلَ للمدعيين ميراثاً ممن ادَّعاهُم وتبنَّاهم، ولكن جعَلَ لهم نصيباً في الوصيةِ، ويأتي في الباب لذلك زيادةٌ.