الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

معلق الليث: أنه ذكر رجلًا من بني إسرائيل سأل بعض بني إسرائيل

          2291- (وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ) أي: البخاريُّ، سقطَ لأبوَي ذرٍّ / والوقتِ (وَقَالَ اللَّيْثُ) أي: ابنُ سعدٍ، قال في ((الفتح)): وقعَ هنا في نسخةِ الصَّغانيِّ: <حدثَنا عبدُ الله بنُ صالحٍ: حدَّثَني الليثُ> وتقدَّمَ في بابِ التجارة في البحرِ أنَّ أبوَي ذرٍّ والوقتِ وصَلاه، ووصله أبو ذرٍّ هنا، ولم ينفرِدْ به عبدُ الله بنُ صالحٍ، بل أخرجَه أحمدُ عن يونسَ بن محمَّدٍ، عن اللَّيثِ، ووصله البخاريُّ في ((الأدب المفرد)) وابنُ حبَّانَ في ((صحيحه)) من هذا الوجه، انتهى ملخَّصاً.
          (حَدَّثَنِي) بالإفراد (جَعْفَرُ بْنُ رَبِيعَةَ) بفتح الراء؛ هو: ابنُ شُرَحبيلَ بن حسنةَ القرشيُّ المصريُّ (عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ هُرْمُزَ) بضم الهاء والميم وسكون الراء والمنعِ من الصرفِ، هو المشهورُ بالأعرجِ.
          (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) ☺ (عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلعم أَنَّهُ) أي: رسولَ الله، أو الشأنَ (ذَكَرَ) بفتحات (رَجُلاً مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ سَأَلَ) بفتحات، والجملة: حالٌ، أو صفةٌ، أو مستأنَفةٌ.
          (بَعْضَ بَنِي إِسْرَائِيلَ) قال في ((الفتح)): لم أقفْ على اسمِ هذا البعضِ، لكن رأيتُ في ((مسند الصحابة الذين نزلوا بمصرَ)) لمحمدِ بن الرَّبيعِ الجيزيِّ بإسنادٍ له فيه مجهولٌ، عن عبدِ الله بن عمرِو بن العاصي يرفَعُه: ((أنَّ رجلاً جاءَ إلى النجاشيِّ، فقال له: أسلِفْني ألفَ دينارٍ إلى أجلٍ، فقال: مَن الحَميلُ بك؟ قال: اللهُ، فأعطاه الألفَ، فضربَ بها الرجلُ _أي: فسافَرَ بها في تجارةٍ_، فلمَّا بلَغَ الأجلَ، أرادَ الخروجَ إليه، فحبَسَته الريحُ، فعمِلَ تابوتاً...)) فذكرَ الحديثَ نحو حديثِ أبي هريرةَ، قال: واستفَدْنا منه أنَّ الذي أقرَضَ هو النجاشيُّ، فيجوزُ أن تكونَ نسبتُه إلى بني إسرائيلَ بطريقِ الاتِّباعِ لهم، لا أنه من نسلِهم، انتهى.
          لكن اعترضَه العينيُّ بأنه انتهى في السُّقوطِ إلى الغايةِ؛ لما بين الحبَشةِ وبني إسرائيلَ من البَونِ البعيدِ، وقولُه: نُسبَ إليهم بالاتِّباع يأباه مَن له نظرٌ تامٌّ، انتهى.
          وأجاب في ((الانتقاض)) بأنَّ المرادَ بالاتِّباع: الاتِّباعُ في الدِّين، فيستوي بعيدُ الأرضِ وقريبُها، وبعيدُ النسبِ وقريبُه، وكان جمعٌ من أهلِ اليمنِ دخَلوا في دينِ بني إسرائيلَ؛ وهي: اليهوديَّةُ، ثم دخَلَ من يقابِلُ أهلَ اليمنِ من الحبَشةِ في دينِ بني إسرائيلَ أيضاً؛ وهي: النَّصْرانيةُ، وكان النجاشيُّ ممَّن دانَ بذلك الدِّينِ قبلَ تبيُّنِه، ولذا بادَرَ إلى الإجابةِ له لمَّا بلَغَه، حتى قالَ لمَّا سمعَ: {إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ...} [النساء:171] الآيةَ: لا يزيدُ عيسى على هذا، انتهى.
          وحينئذٍ فلا بُعدَ بين الحبشةِ وبني إسرائيلَ، فتأمَّل الجوابَ عن الاعتراضِ الآخَرِ، فتأمَّل.
          وقوله: (أَنْ يُسْلِفَهُ أَلْفَ دِينَارٍ) في موضعِ المفعولِ الثاني لـ: ((سألَ)) (فَقَالَ) أي: المسؤولُ (ائْتِنِي بِالشُّهَدَاءِ) بالمدِّ، جمعُ: شاهدٍ أو شهيدٍ بمعناه (أُشْهِدُهُمْ) بضم الهمزة ورفع الدال أو جزمِها (قَالَ) وفي بعض الأصول: <فقال> بالفاء؛ أي: السائلُ (كَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً) أي: على ذلك، بل وعلى غيرِه.
          (قَالَ: فَأْتِنِي بِالْكَفِيلِ) بالفاء من: ((فأتِني))، وسقطت من بعضِ الأصولِ كالسابقِ (قَالَ: كَفَى بِاللَّهِ كَفِيلاً) أي: كافلاً، وفيه المطابقةُ (قَالَ: صَدَقْتَ) وفي روايةِ أبي سلمة: ((فقال له: سبحانَ الله، نعم)) (فَدَفَعَهَا) أي: الألْفَ (إِلَيْهِ) وفي رواية أبي سلمةَ: ((فعدَّ له ستَّمائة دينارٍ)).
          قال في ((الفتح)): والأولُ أرجحُ؛ لموافقتِه لحديثِ عبدِ الله بن عمرٍو، ويمكنُ الجمعُ بينهما باختلافِ العددِ والوزنِ، فيكونُ الوزنُ مثَلاً ألفاً، / والعددُ ستَّمائةٍ، أو بالعكس، انتهى.
          ويجابُ أيضاً بأنَّ العدَدَ لا مفهومَ له على الأصحِّ.
          (إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى) أي: معيَّنٍ، وهو متعلِّقٌ بـ((دفعَها)) كسابقِه، ويحتمِلُ جعلَه حالاً من ضميرِ المفعول (فَخَرَجَ) أي: فسافرَ الذي استلَفَ (فِي الْبَحْرِ، فَقَضَى حَاجَتَهُ) ولأبي سلَمةَ: ((فركِبَ الرجلُ البحرَ بالمالِ يتَّجِرُ فيه، فقدَّرَ اللهُ أنْ حلَّ الأجَلُ وارتجَّ البحرُ بينهما))، انتهى.
          (ثُمَّ الْتَمَسَ) أي: المستلِفُ (مَرْكَباً) بفتح الميم والكاف؛ أي: سفينةً (يَرْكَبُهَا) بتأنيث الضمير، وفي بعضِ الأصول: <يركبُه> بالتذكير، وكلٌّ صحيحٌ (يَقْدَمُ) بفتح الدال (عَلَيْهِ) أي: على مَن أسلَفَه، والجملةُ مستأنَفةٌ، أو حالٌ، أو صفةٌ لـ((يركبُها))، فافهم.
          (لِلأَجَلِ) متعلِّقٌ بـ((يقدُمُ)) أي: عند حلولِ الأجلِ (الذِي أَجَّلَهُ، فَلَمْ يَجِدْ مَرْكَباً) زاد في روايةِ أبي سلَمةَ: ((وغدا ربُّ المالِ إلى الساحلِ يسألُ عنه، ويقولُ: اللَّهمَّ اخلُفْني، وإنَّما أعطَيتُ لك)) (فَأَخَذَ) أي: المستسلِفُ (خَشَبَةً، فَنَقَرَهَا) بفتح النون والقاف، وفي بعضِ الأصُول: بالموحَّدة؛ أي: فحفَرَها، وفي روايةِ أبي سلمةَ: ((فنجَرَ خشَبةً)).
          (فَأَدْخَلَ فِيهَا) أي: في الخشبةِ، وللكُشميهنيِّ: <فيه> أي: في الموضِعِ المنقورِ منها (أَلْفَ دِينَارٍ) وفي حديثِ عبدِ الله بن عمرٍو: ((فعمِلَ تابوتاً، وجعَلَ فيه الألْفَ)) (وَصَحِيفَةً) أي: ورقةً كتَبَ فيها القصَّةَ (مِنْهُ إِلَى صَاحِبِهِ) أي: إلى الذي استلفَ منه، ولأبي الوقت: <وصحيفةً فيه> ولأبي سلَمةَ: ((وكتَبَ إليه صحيفةً: من فُلانٍ إلى فلانٍ؛ إني دفعتُ مالَكَ إلى الوكيلِ الذي توكَّلَ بي)).
          (ثُمَّ زَجَّجَ) بتشديد الجيم الأولى وفتحها (مَوْضِعَهَا) قال عياضٌ: أي: سمَّرَها بمساميرَ كالزُّجِّ، أو حشا شقوقَ لُصاقِها بشيءٍ ورفَعَه بالزُّجِّ؛ وهو: النَّصلُ.
          وقال الخَطَّابيُّ: سوَّى موضعَ النقرِ وأصلحَه، أخذاً من تزجيجِ الحواجبِ؛ وهو: أخذُ زوائدِ الشعرِ، وقال السفاقسيُّ: أصلحَ موضعَ النَّقرِ وسوَّاه، ومثلُه في الكرماني وزاد: ولعلَّه من تزجيجِ الحواجبِ؛ وهو: التقاطُ زوائدِ الشَّعرِ الخارجِ عن الخدَّين، وإن أُخذَ من الزُّجِّ؛ وهو: سنانُ الرُّمحِ، فيكون النَّقرُ وقَعَ في الطَّرفِ من الخشبةِ، فسدَّ عليه رجاءَ أن يُمسكَه ويحفظَه في باطنِه، انتهى.
          (ثُمَّ أَتَى بِهَا) أي: بالخشَبةِ (إِلَى الْبَحْرِ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنَّكَ تَعْلَمُ أَنِّي كُنْتُ تَسَلَّفْتُ) وسقطَ: <كنتُ> لأبي ذرٍّ، وفي بعضِ الأصول: <استسلَفتُ>.
          وقوله: (فُلاَناً أَلْفَ دِينَارٍ) كذا وقعَ في الأصول، والمعروفُ: تعديتُه بحرفِ الجرِّ كما وقع للإسماعيليِّ: <استسلَفتُ من فلانٍ>، قاله في ((الفتح)).
          واعترضَه العينيُّ بأنَّ تنظيره باستلفتُ غير موجَّهٍ؛ لأنَّ ((تسلَّفتُ)) من بابِ التفعُّلِ، و((استسلفتُ)) من بابِ الاستفعال، وتفعَّلَ يأتي للتعدِّي بلا حرفِ جرٍّ؛ كتوسَّدتُ الترابَ، واستلفتُ معناه: طلبتُ منه السَّلفَ، فلا بدَّ فيه من حرفِ الجرِّ.
          وأجاب في ((الانتقاض)) بأنَّ المرادَ بالتشبيهِ: إثباتُ حرفِ الجرِّ.
          (فَسَأَلَنِي كَفِيلاً، فَقُلْتُ: كَفَى بِاللَّهِ كَفِيلاً، فَرَضِيَ بِكَ، وَسَأَلَنِي شَهِيداً، فَقُلْتُ: كَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً، فَرَضِيَ بِكَ) قال في ((الفتح)): وللكُشميهنيِّ: <فرضِيَ بذلك> أي: في الموضعَين، باسمِ الإشارةِ، وقال فيه أيضاً: ولغيرِ الكُشميهنيِّ: <فرضِيَ به>، وفي روايةِ الإسماعيليِّ: ((فرضِيَ بك))، انتهى.
          قال القسطلانيُّ: والذي في الفرعِ وغيره من الأصولِ المعتمَدةِ التي وقفتُ عليها: / ((بك)) لغيرِ الكُشميهنيِّ، و: <بذلك> له، على أنَّه في المتنِ الذي ساقه العينيُّ: ((بك)) بالكافِ في الموضعَين، انتهى.
          وأقول: الذي رأيتُه في العيني كالحافظِ، فليُراجَعْ.
          (وَأَنِّي جَهَدْتُ) وفي بعضِ الأصولِ: <قد جهِدتُ> بكسر الهاء وفتحها كما في أصولٍ، لكن اقتصرَ الشرَّاحُ على ((الفتح))، ولعلَّه لأنَّه الرِّوايةُ، بل لأنَّه هو اللغةُ؛ أي: اجتهَدتُ (أَنْ أَجِدَ مَرْكَباً) بفتح الكاف والميم؛ أي: سفينةً (أَبْعَثُ) أي: أرسِلُ فيه (الذِي لَهُ) أي: من الدَّين في ذِمَّتي (فَلَمْ أَقْدِرْ) أي: على مَركَبٍ كذلك، ولعلَّه أَولى من تقديرِ القسطلانيِّ: أي: على تحصيلِها، فافهم.
          تنبيه: جملةُ: ((وإنِّي...)) إلخ، حاليةٌ، أو مستأنَفةٌ، أو معطوفةٌ على: ((إنك تعلمُ)) فـ((إنَّ)) مكسورةٌ، ويحتملُ أنها معطوفةٌ على: ((أنِّي كنتُ)) السابقةِ، فهي مفتوحةٌ.
          (وَإِنِّي أَسْتَوْدِعُكَهَا) أي: الخشَبةَ المذكورةَ باعتبارِ ما فيها، أو الوديعةَ، أو الألْفَ، مضارعٌ لغَيرِ أبوَي ذرٍّ والوقتِ، ولهما: <استَودَعتُكَها> ماضٍ بزيادة مثناة فوقية بعد العين، والسينُ فيها للطلبِ، والأقربُ أنها للتأكيد.
          (فَرَمَى) أي: الرجلُ الذي استلَفَ (بِهَا) أي: بالخشَبةِ (فِي الْبَحْرِ حَتَّى وَلَجَتْ) بفتح اللام خفيفة؛ أي: دخلَتِ الخشَبةُ (فِيهِ) أي: في البحرِ (ثُمَّ انْصَرَفَ) أي: الرجلُ الذي استلَفَ (وَهْوَ فِي ذَلِكَ يَلْتَمِسُ) أي: والحالُ أنَّ الرجلَ المستسلِفَ يطلُبُ (مَرْكَباً، يَخْرُجُ) أي: فيه (إِلَى بَلَدِهِ) أي: إلى بلدِ الرَّجلِ الذي أسلَفَه؛ ليؤدِّيَ الألْفَ التي عليه؛ لقولِه الآتي قريباً: ((ثم قدِمَ الذي...)) إلخ.
          (فَخَرَجَ الرَّجُلُ الَّذِي كَانَ أَسْلَفَهُ) وجملةُ: (يَنْظُرُ) حالٌ (لَعَلَّ مَرْكَباً قَدْ جَاءَ بِمَالِهِ) أي: الذي أسلَفَه (فَإِذَا بِالْخَشَبَةِ الَّتِي فِيهَا الْمَالُ) أي: التي جعَلَ فيها الألْفَ دينارٍ (فَأَخَذَهَا) أي: الرجلُ (لأَهْلِهِ حَطَباً) قال العينيُّ: نُصبَ على أنه مفعولٌ لمحذوفٍ؛ أي: يجعلُها حطَباً (فَلَمَّا نَشَرَهَا) بالنون والراء؛ أي: قطَعَها بالمنشارِ، وللنَّسائيِّ: ((فلمَّا كسَرَها)) (وَجَدَ الْمَالَ) أي: الألْفَ دينارٍ (وَالصَّحِيفَةَ) أي: الورقةَ التي كتَبَها الرجلُ له بالمال، وفي روايةِ أبي سلمةَ: ((وغدا ربُّ المالِ يسألُ عن صاحبِه كما كان يسألُ، فيجِدُ الخشَبةُ فيحمِلُها إلى أهلِه، فقال: أَوقِدوا هذه، فكسَروها، فانتثرَتِ الدنانيرُ منها والصحيفةُ، فقرأها وعرَفَ)).
          (ثُمَّ قَدِمَ الَّذِي) أي: الرجلُ الذي (كَانَ أَسْلَفَهُ) أي: مَن عليه الدَّينُ (فَأَتَى بِالأَلْفِ دِينَارٍ) أي: ليدفعَها للذي استلَفَها منه، و((الألفِ دينارٍ)) جائزٌ عند الكوفيين، وخرَّجَه ابنُ مالكٍ على أحدِ ثلاثةِ أوجُهٍ:
          أحدُها: ((دينارٍ)) بدَلٌ من: ((الألفِ)) بتقديرِ: ألف دينارٍ، فحذفَ المضافَ وأبقى المضافَ إليه على حالِه، قال الدَّمامينيُّ: المضافُ هنا مجرورٌ أيضاً، فلمَ لم يقُلْ: إن المضافَ إليه أُقيمَ مَقامَ المضافِ.
          ثانيها: أن يُقال: أصلُه: بالألفِ الدينار _بأل_، لكن كُتبَتْ دالاً لصيرورتِها بالإدغام دالاً لفظاً، واعترضَه في ((المصابيح)) بأنَّ الرِّوايةَ بتنوينِ: ((دينارٍ))، ولو ثبَتَ عدمُ تنوينِه روايةً لتعيَّنَ هذا الوجهُ.
          ثالثُها: زيادةُ: ((ال)) في: ((الألْفِ))، فلم تمنَعْ من الإضافةِ، نقلَه عن الفارسيِّ، انتهى.
          (فَقَالَ) بالفاء، ولأبي الوقت: <وقال> أي: المستلِفُ للذي أسلَفَه (وَاللَّهِ مَا زِلْتُ جَاهِداً) أي: مجتهِداً في طلبِ مركَبٍ؛ أي: سفينةٍ (لآتِيَكَ بِمَالِكَ، فَمَا وَجَدْتُ مَرْكَباً قَبْلَ الَّذِي أَتَيْتُكَ فِيهِ، قَالَ) أي: الذي أسلَفَ (هَلْ كُنْتَ بَعَثْتَ إِلَيَّ) بتشديد التحتية (بِشَيْءٍ) بموحدة أوله، / وللحمويِّ والمستمليِّ: <شَيئاً> (قَالَ: أُخْبِرُكَ) مضارعٌ (أَنِّي لَمْ أَجِدْ مَرْكَباً قَبْلَ الَّذِي جِئْتُ فِيهِ) وللحمويِّ والمستمليِّ: <جئتُ به>.
          (قَالَ) أي: الذي أسلَفَ (فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ أَدَّى عَنْكَ الَّذِي) أي: الألْفَ الذي، وللحمويِّ والمستمليِّ: <التي> أي: الألْفَ التي (بَعَثْتَ) أي: بعثتَه، أو بعثتَها (فِي الْخَشَبَةِ) ولأبوَي ذرٍّ والوقتِ عن الكُشميهنيِّ: <والخشَبةَ> بنصبِها مفعولاً معه، وفي رواية أبي سلمةَ: ((ثم قدِمَ بعد ذلك، فأتاه ربُّ المال، فقال: يا فلانُ مالي، قد طالتِ النَّظِرةُ، فقال: أمَّا مالُك؛ فقد دفعتُه إلى وكيلي، وأمَّا أنتَ؛ فهذا مالُك)).
          وفي حديثِ عبدِ الله بن عمرٍو أنه قال له: ((هذه ألفُكَ، فقال النَّجاشيُّ: لا أقبَلُها منكَ حتى تُخبِرَني ما صنعتَ، فأخبرَه، فقال: قد أدَّى اللهُ عنك)).
          (فَانْصَرِفْ) بالفاء، أمرٌ؛ أي: فاذهَبْ (بِالأَلْفِ دِينَارٍ) تقدَّمَ آنِفاً توجيهُ ذلك، وفي بعضِ الأصول: <بالألفِ الدِّينارِ>، وفي بعضِها: <بألفِ دينارٍ>، وهي ظاهرةٌ.
          (رَاشِداً) حال، قال في ((الفتح)): في حديث عبد الله بن عمرو: ((قد أدَّى الله عنك، وقد بلغَتْنا الألفُ في التابوت، فأمسِكْ عليك ألْفَكَ))، زاد أبو سلمةَ في آخرِه: ((قال أبو هريرةَ: ولقد رأيتُنا عند رسولِ الله صلعم يكثُرُ مِراؤنا ولغَطُنا أيُّهما آمَنُ)) انتهى.
          وأراد بالتابوتِ الخشبةَ؛ لتجتمِعَ الرِّوايتان.
          ومطابقةُ الحديث للتَّرجمةِ في قوله: ((فأتِني بكفيلٍ)) إذ لو لم تكُنِ الكفالةُ جائزةً لم يطلُبْ منه الكفيلَ، وهذا بناءً على أنَّ شرْعَ مَن قبلَنا شرعٌ لنا إذا لم يرِدْ في شرعِنا ما يخالِفُه، وهو مذهبُ الجمهورِ، خلافاً للراجحِ عند الشافعيَّة.
          وقال في ((الفتح)): ووجهُ الدَّلالةِ منه على الكَفالةِ: تحدُّثُ النبيِّ صلعم بذلك، وتقريرُه له، وإنَّما ذكَرَ ذلك ليُتأسَّى به فيه، وإلا لم يكُنْ لذكرِه فائدةٌ، انتهى فتأمَّل.
          وقال أيضاً: وفي الحديثِ: جوازُ الأجلِ في القَرضِ، ووجوبُ الوفاءِ به، وقيل: لا يجبُ، بل هو من بابِ المعروفِ، انتهى.
          وقال شيخُ الإسلام: وفي الحديثِ: جوازُ التأجيلِ في القرضِ، وهو محمولٌ عند الشافعيَّةِ على ما إذا لم يكُنْ للمُقرِضِ فيه غرَضٌ، وفيه: أنَّ جميعَ ما يوجَدُ في البحرِ لواجِدِه ما لم يعلَمْه مِلكاً لأحدٍ، وأنَّ مَن توكَّلَ على الله نصَرَه، فالذي نقرَ الخشبةَ وتوكَّلَ عليه حفظَ مالَه، والذي سلَفَ وقنِعَ به كفيلاً أوصَلَ مالَه إليه.
          قال الدَّاوديُّ: وفيه: بَداءةُ الكاتبِ بنفسِه، قال ابنُ الملقِّن: ولعلَّه أخَذَه من قولِه: ((وصحيفةً منه إلى صاحبِه))، وليس ببيِّنٍ، انتهى.
          وقال العينيُّ: فيه جوازُ التحدُّثِ عمَّا كان في زمنِ بني إسرائيلَ، وقد جاء: ((تحدَّثوا عن بني إسرائيلَ ولا حرجَ عليكم))، وفيه: جوازُ التِّجارةِ في البحرِ، وجوازُ ركوبِه، انتهى.
          ومحَلُّه: إذا غلبَتِ السَّلامةُ، وإلا فلا يجوزُ، والله أعلمُ.
          ومرَّ الحديثُ في كتاب الزَّكاةِ في باب: ما يُستخرَجُ من البحرِ.