الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

حديث: صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه

          1190- وبالسند قال: (حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ): أي: التِّنِّيسي (أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ زَيْدِ بْنِ رَبَاحٍ): بفتح الراء وتخفيف الموحدة وبحاء مهملة بعد الألف (وَعُبَيْدِ اللَّهِ): بتصغير عبد وجره عطفاً على زيد (ابْنِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ): بتكبير ((عبد)) (الأَغَرِّ): بغين معجمة وتشديد الراء (عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ): بتكبير ((عبد)) (الأَغَرِّ): أيضاً، هو سليمان شيخ للزهري (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ☺: أَنَّ النَّبِيَّ): ولأبوي ذرِّ والوقت والأصيلي وابن عساكر: <أن رسول الله> (صلعم قَالَ: صَلاَةٌ): أيَّ صلاة كانت فرضاً أو نفلاً.
          قال النَّووي: مذهبنا: يعم التَّضعيف الفرض والنفل جميعاً، وهو قولُ مطرف من المالكيَّة، وخصَّ الطحَّاوي ذلك بالفرض.
          (فِي مَسْجِدِي هَذَا): يعني: مسجده المشهور في المدينة.
          قال النوويُّ: ينبغي أن يحرصَ المصلي على الصَّلاة في الموضع الذي كان في زمنه صلعم دون ما زيد فيه بعد؛ لأن التَّضعيف إنما ورد في مسجدِه، وقد أكَّده بقوله: ((هذا))، بخلاف مسجد مكة، فإنه شمل جميعَ مكة، بل صحَّح النووي أنه يعم جميعَ الحرم.
          (خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ صَلاَةٍ فِيمَا سِوَاهُ): أي: من المساجد (إِلاَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ): أي: فإن الصلاة فيه خير من الصلاة في مسجدي، ويدل له حديث أحمد وصحَّحه ابن حبان عن عبد الله بن الزبير رفعه: ((وصلاة / في المسجد الحرامِ أفضلُ من مئة صلاة في هذا)).
          وقال في ((الفتح)): قال ابنُ بطَّال: يجوز في هذا الاستثناء أن يرادَ أنه مساو لمسجد المدينة فاضلاً ومفضولاً، قال: والأول أرجحُ؛ لأنه لو كان فاضلاً أو مفضولاً لم يعلم مقدار ذلك إلا بدليل، بخلاف المساواة. انتهى.
          وقال الدماميني: إنما يدل الحديث ظاهراً على أن الصلاة بمسجد المدينة ليست خيراً من الصلاة بالمسجد الحرام، والتركيبُ ساكتٌ عما سوى ذلك، فلا دلالة فيه لتفضيل إحداهما على الأُخرى. انتهى.
          وردَّ في ((الفتح)) كلام ابن بطَّال فقال: وكأنه لم يقفْ على دليل الثاني، وقد أخرجه أحمد وصحَّحه ابن حبان عن ابن الزبير قال: قال رسول الله صلعم: ((صلاة في مسجدي هذا أفضلُ من ألف صلاة فيما سواه من المساجد، إلا المسجد الحرام، وصلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة صلاة في هذا))، وفي رواية ابن حبان: ((وصلاة في ذلك أفضل من مائة صلاة في مسجد المدينة)).
          ولا يضر اختلافهم في رفعه ووقفه على ابن الزبير؛ لأنه لا يقال بالرأي، وروى الطَّبراني والبزار من حديث أبي الدرداء رفعه: ((الصلاة في المسجد الحرام بمائة ألف صلاة، والصلاة في مسجدي بألف صلاة، والصلاة في بيت المقدس بخمسمائة صلاة))، وإسناده حسنٌ، كما قال ابنُ عبد البر.
          فوضح بذلك كما في ((الفتح)): أن المراد بالاستثناء تفضيل المسجد الحرام، وهو يرد على تأويل عبد الله بن نافع صاحب مالك حيث قال في جواب يحيى بن يحيى الليثي حيث سأله معناه: الصلاة في مسجدي أفضل من الصلاة في المسجد الحرام بدون ألف صلاة، ودون يصدُق بواحدٍ، كما قال ابنُ عبد البر، فيلزم أن تكون الصلاة في مسجد المدينة أفضلَ من الصلاة في مسجد مكة بتسعمائة وتسعة وتسعين صلاة، قال: وحسبُك بقول يؤول إلى هذا ضعفاً.
          وزعم بعض المالكيَّة أن الصَّلاة في مسجد المدينة أفضل من الصَّلاة في مسجد مكة بمائة صلاة محتجاً برواية ابنِ الزبير: قال: قال رسول الله صلعم: ((صلاةٌ في مسجدي هذا أفضلُ من الصلاة في المسجد الحرام بمائة صلاة)).
          ورد بما تقدَّم من الحديث الحسن: ((الصلاة في المسجد الحرام بمائة ألف صلاة))، الحديث، وبما رواه النسائي عن ابن عمر بلفظ أبي هريرة، وفي آخره: ((إلا المسجد الحرام؛ فإنه أفضل منه بمائة صلاة)).
          قال في ((الفتح)): واستدلَّ بهذا الحديث على تفضيل مكة على المدينة؛ لأن الأمكنةَ تشرف بفضل العبادة فيها على غيرها مما العبادة فيه مرجوحةٌ، وهو قولُ الجمهور، وحكي عن مالك وبه قال ابنُ وهب ومطرف وابن حبيب وأصحابه، لكن المشهور عن مالك وأصحابه تفضيل المدينة، وهو قول عمر وابن الزبير، واستدلوا بقوله عليه السلام: ((مابين قبرِي ومنبرِي روضةٌ من رياضِ الجنة)): أي: ونحو ذلك كحديثي الباب مع قوله عليه السلام: ((موضعُ سوطٍ في الجنة خيرٌ من الدنيا وما فيها)).
          قال ابنُ عبد البر: هذا استدلالٌ بالخبر في غير ما وردَ فيه، ولا يقاوم النص الوارد في فضلِ مكة كحديث أبي سلمة عن عبد الله بن عدي بن الحمراء قال: رأيت رسولَ الله صلعم واقفاً على الحزورة فقال: ((والله إنك لخير أرضِ الله _أو أحب أرضِ الله إلى الله_ ولولا أني أُخرجتُ منك ما خرجْتُ))، أخرجه أصحاب السنن وهو حديث صحيح، صحَّحه ابن حبان وابن خزيمة وغيرهم.
          قال ابنُ عبد البر: هذا نصٌّ في موضع الخلاف، فلا ينبغِي العدول عنه، وقد رجع عن هذا القول كثير من المالكيَّة.
          واستثنى العلماء البقعة التي دفنَ فيها النبي صلعم فحكى القاضِي عياض الاتفاق على أنها / أفضلُ البقاع على ما قال ابن عقيلٍ الحنبلي أنها أفضلُ من العرش، وتعقِّب: بأنها لا يتعلق بها البحث؛ لأن محله ما يترتب عليه الفضل للعابد.
          وأجيبَ: بأن سببَ التفضيل لا ينحصرُ في الثَّواب على العمل، بل قد يكون لغيره، كتفضيلِ جلد المصحفِ على سائر الجلود.
          وقال النَّووي في ((شرح المهذَّب)): لم أر لأصحابنا نقلاً في ذلك.
          وقيل: سبب تفضيلِ البقعة الشريفة أنه وردَ كما رواه ابن عبد البر في آخر ((تمهيده)) عن عطاء الخراساني أن المراد في البقعة التي أخذ منها ترابه عندما يخلق، وروى الزبير بن بكار: أن جبريل أخذ الترابَ الذي خلق منه النبي من تراب الكعبة فالبقعةُ التي ضمَّت أعضاءه الشريفة من تراب الكعبة فيرجعُ الفضل المذكور إلى مكة إن صح ذلك.
          والتَّضعيف المذكور يرجع كما في ((الفتح)): إلى الثواب لا إلى الإجزاء باتفاق العلماء، كما نقله النووي وغيره، فلو كان عليه صلاتان فصلى في أحدِ المسجدين صلاة لم تجزه إلا عن واحدةٍ.
          وقد أوهم كلام المقرئ أبي بكر النقاش في ((تفسيره)) خلاف ذلك فإنه قال فيه: حسبت الصلاة بالمسجد الحرام فبلغت صلاة واحدة بالمسجد الحرام عمر خمس وخمسين سنة وستة أشهر وعشرين ليلة. انتهى.
          والحديث: أخرجه أيضا مسلم في المناسك، والترمذي وابن ماجه في الصلاة، والنسائي في الحج.