الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

حديث: لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد المسجد الحرام

          1188- 1189- وبالسند قال: (حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ): بضم العين؛ أي: النمري، قال: (حَدَّثَنَا شُعْبَةُ): أي: ابن الحجَّاج (أَخْبَرَنِي): بالإفراد (عَبْدُ الْمَلِكِ): زاد أبو ذرٍّ والأصيلِي: <ابن عُمَير>، بالتصغير، ابن سويد اللَّخمي، ويقال له: الفَرَسي _بفتح الفاء والراء وسين مهملة_ نسبة إلى فرس ٍسابق، وربما صحَّفَ بالقرشِي _بالقاف والشين_ وكان يقال له: القبطِي.
          قال في ((الفتح)): مات سنة ست وثلاثين، وله مائة وثلاث سنين. انتهى
          (عَنْ قَزَعَةَ): بفتح القاف والزاي وقد تسكَّن؛ أي: ابن يحيى البصري.
          قال في ((الفتح)): سيأتي بعد خمسة أبواب في هذا الإسناد: سمعت قزعة مولى زياد، وهو هذا، وزياد مولاه هو: ابنُ أبي سفيان، الأمير المشهور. انتهى.
          واعلم أن رواية عبد الملك عن قزعة من رواية الأقران؛ لأنهما من طبقة واحدة.
          (قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا سَعِيدٍ): بكسر العين، اسمه: سعد بن مالك الأنصاري الخُدري ☺ (أَرْبَعاً): أي: يذكر أربعاً، أو سمعت منه أربعاً؛ أي: أربع جمل.
          قال ابنُ رشيد: وهي الآتية قريباً في مسجد بيت المقدس وهي: ((لا تسافرُ المرأةُ يومين إلا ومعهَا زوجها أو ذو محرم،ٍ ولا صوم / في يومين: الفطر والأضْحَى، ولا صلاةَ بعد صَلاتين: بعد الصُّبح حتى تطلعَ الشَّمسُ، وبعد العصر حتى تغربَ، ولا تشدُّ الرِّحال إلَّا إلى ثلاثةِ مساجد)).
          (قَالَ: سَمِعْتُ): أي: قال أبو سعيد: سمعتُ هذه الأربع (مِنَ النَّبِيِّ صلعم): لكن ذكر التحويل بعده ربما يفيدُ أن المسموعَ له ما يأتي بعدَهُ، ويأتي قريباً ما فيه من البحث، فتأمل.
          وقوله: (وَكَانَ): أي: أبو سعيد الخُدري (غَزَا مَعَ النَّبِيِّ صلعم ثِنْتَيْ عَشْرَةَ غَزْوَةً): من قول قزعة.
          واعلم أن المصنِّف لم يذكر حديث هذا السند، وذكر بعد السند الثاني حديث أبي هريرة في شدِّ الرحال.
          قال في((الفتح)): فظنَّ الدَّاودي أنَّ البخاري ساق الإسنادين لهذا المتن، قال: وفيه نظر؛ لأن حديث أبي سعيد مشتملٌ على أربعة _كما ذكر المصنف_ وحديث أبي هُريرة فيه شدُّ الرِّحال فقط، لكن لا يمنعُ ذلك الجمع بينهما في سياق على قاعدةِ البُخاري في إجازةِ اختصار الحديث.
          وقال ابنُ رشيد: لما كان أحد الأربع قوله: ((لا تشدُّ الرِّحال)) ذكر صدرَ الحديث إلى الموضعِ الذي يتلاقَى فيه افتتاح أبي هُريرة لحديث أبي سعيد، فاقتطفَ الحديث وكأنَّه قصد الإغماضَ لينبِّه غير الحافظ على فائدة الحفظ، فتأمل.
           (ح): للتحويل (حَدَّثَنَا): ولأبي ذرٍّ وابن عساكر: <وحدَّثنا> بالواو (عَلِيٌّ): أي: ابن المديني، قال: (حَدَّثَنَا سُفْيَانُ): أي: ابن عُيينة (عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَعِيدٍ): بكسر العين؛ أي: ابن المسيب (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ☺، أنَّ النَّبِيَّ صلعم قَالَ: لاَ تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلاَّ إِلَى ثَلاَثَةِ مَسَاجِدَ).
          ووقع للبيهقيِّ من وجهٍ آخر عن عليِّ بن المديني أنه قال: حدَّثنا به سفيان مرَّة بهذا اللفظ قال: وكان أكثر ما يحدِّث به بلفظ: ((تشدُّ الرِّحال إلى ثلاثةِ مساجدَ))، نبَّه عليه في ((الفتح)).
          و((لا تُشَد)): نفي، والفعل مبني للمفعول، والمراد النهي عن السفر إلى غيرها، والنفي أبلغ من صريح النهي؛ لأنه كالواقع بالامتثال لا محالة.
          وقال الكرمانيُّ: عدل عن النَّهي إلى النَّفي لإظهار الرَّغبة في وقوعهِ أو لحملِ السَّامع على التركِ أبلغ حمل بألطف وجه.
          و((الرِّحَال)): بالحاء المهملة، جمع رحل: أصغرُ من القَتَب، وهو للبعير كالسَّرج للفرس، وكنَّى بشدِّ الرحال عن السفر؛ لأنه لازمُه، والتعبير بشدِّها خرج مخرجَ الغالب في ركوبها للمسافر، ومثله ما في بعض طُرقه: ((لا تعملُ المطي))، وإلا فلا فرقَ بين الركوبِ وغيره، ولا بين ركوبِ الرَّواحل وغيرها، كالخيل والبغال والحمير، ويدلُّ لذلك ما في بعضِ طُرقه: ((إنما يسافرُ إلى ثلاثةِ مساجِدَ))، أخرجه مسلم عن أبي هريرة.
          والاستثناء مفرَّغ، واستشكله الكرمانيّ وغيره؛ فإن تقدير الكلام: لا تشد الرحال إلى موضع إلا إلى هذه الثلاثة، فيلزم أن لا يجوز السَّفر إلى غيرها، كزيارة إبراهيم الخليل عليه السلام، وكذا غيره من الأنبياء والصالحين؛ لأن المستثنى منه في المفرَّغ لا بدَّ أن يقدر بأعم العام.
          وأجاب: بأنَّ المراد بأعم العام ما يُناسب المستثنى نوعاً ووصفاً، كما إذا قلت: ما رأيت إلا زيداً؛ فإن تقديره: ما رأيت شيئاً أو حيواناً إلا زيداً، فهاهنا يقدر: لا تشدُّ الرحال إلى مسجد إلا إلى ثلاثة، انتهى.
          وأقول: ما قدره _ككثيرين_ لا يدفع الإشكال برمَّته؛ لأنه يفيد أنه يبقى من المساجد غير هذه الثلاثة على المنع، نعم قدره شيخُ الإسلام تبعاً لما في ((الفتح)) الآتي: لا تشدُّ الرحالُ إلى مسجد للصَّلاة فيه، وهو أقل إشكالاً، فتدبر / .
          وقال بعضُ المحققين: المستثنى منه في الحديث محذوف فإمَّا أن يقدَّر عامًّا أو خاصًّا، لا سبيل إلى الأول لإفضائه إلى سد باب السفر للتَّجارة وصلة الرحم وطلب العلم وغير ذلك، فتعين الثاني، والأولى أن يقدَّر ما هو أكثر مناسبة وهو: لا تشدُّ الرحال إلى مسجد للصَّلاة فيه إلا إلى ثلاثة، فيبطلُ بذلك قول منع شدِّ الرحال إلى زيارة القبر الشَّريف وغيره من قبور الصَّالحين.
          وإنما خصَّت هذه المساجد الثلاثة بما ذكر لفضلها، ومزيَّة الصلاة فيها، فقد صحَّ أن الصلاة في المسجد الحرام بمائة ألف صلاة، بل قال ابنُ حجر المكي: إنها بمائة ألف ثلاث مرات، وصحَّ أن الصلاة في مسجده عليه السلام بألف، وفي المسجد الأقصى بخمسمائة.
          وقال في ((الفتح)): في هذا الحديث فضيلة هذه المساجد ومزيَّتها على غيرها لكونها مساجد الأنبياء؛ ولأنَّ الأول: قبلة الناسِ وإليه حجُّهم، والثاني: كان قبلةَ الأمم السَّالفة، والثالث: أُسس على التَّقوى. انتهى.
          وألحقَ بعضهم مسجد قباء بهذه المساجد الثلاثة؛ لأنَّ النبي كان يأتيه كلَّ سبتٍ.
          ثم قال الكرمانيُّ: وتأول بعضهم معنى الحديث على وجه آخر وهو أنه لا يرحل في الاعتكافِ إلا إلى هذه الثلاثة، فقد ذهبَ بعض السَّلف إلى أن الاعتكاف لا يصح فيما دون هذه المساجد. انتهى.
          وهو تأويلٌ بعيد.
          وقال أيضاً: قد وقع في هذه المسألة في عصْرنا مناظراتٌ كثيرة في البلاد الشَّامية، وصنَّف فيها رسائل من الطرفين لسنا الآن لبيانها. انتهى.
          قال في ((الفتح)): يشيرُ إلى ما رد به الشيخ تقيُّ الدين السبكي وغيره على الشيخ تقي الدين ابن تيميَّة، وما انتصر به الحافظ شمس الدين بن عبد الهادي وغيره لابن تيمية، وهي مشهورةٌ في بلادنا، والحاصل: أنهم ألزموا ابنَ تيميَّة بتحريم شدِّ الرحل إلى زيارةِ قبر سيدنا رسول الله صلعم، وفي شرح ذلك من الطَّرفين طول، وهي من أبشعِ المسائل المنقولة عن ابنِ تيمية.
          ومن جملة ما استدلَّ به على دفع ما ادَّعاه غيره من الإجماع على مشروعيَّة زيارة قبرِ النبيِّ عليه السلام ما نقل عن مالك أنه كره أن يقول الشَّخص: زرتُ قبر النبي صلعم.
          وأجاب المحقِّقون من أصحاب مالك عنه بأنه كره اللفظ تأدباً لا أصل الزيارة؛ فإنها من أفضل الأعمال وأجلِّ القُربات الموصلة إلى ذِي الجلال، وأنَّ مشروعيتها محل إجماع بلا نزاعٍ. انتهى.
          وممَّن شنَّع على ابنِ تيمية من المتأخرين ابن حجر المكِّي في كثيرٍ من كتبه.
          قال في ((التحفة)): ويسنُّ زيارة قبر رسولِ الله صلعم بل قيل: يجبُ، وانتصرَ له والمنازع في طلبها ضال مضلٌّ. انتهى.
          وقد قال بحرمةِ شدِّ الرحل إلى غير المساجد الثلاثة غير ابن تيمية من المتقدِّمين، ففي العيني: وقال القاضي عياض وأبو محمَّد الجويني: إنه يحرم شدُّ الرحال إلى غير المساجد الثلاثة لمقتضى، انتهى.
          قال النووي: وهو غلطٌ، والصَّحيح عند أصحابنا وهو الذي اختارهُ إمام الحرمين والمحقِّقون: أنه لا يحرم ولا يكره. انتهى.
          وعبارة الكرمانيِّ: قال النَّووي: في الحديث فضيلة هذه المساجد، وقال الشيخ أبو محمَّد الجويني: يحرم شد الرِّحال إلى غيرها، كالذَّهاب إلى قبور الصَّالحين ونحوه، والصَّحيح: أنه لا يحرم ولا يكره، قالوا: والمراد أن الفضيلة التامَّة إنما / هي في شدِّ الرحال إلى الثلاثة خاصَّة. انتهت.
          وحمل الخطَّابي الحديث على معنى آخر، فقال: ((لا تشدُّ)): لفظه خبرٌ، ومعناه: الإيجاب فيما نذر الإنسان من الصلاة في البقاعِ التي يتبرك بها؛ أي: لا يلزم الوفاء بشيءٍ من ذلك حتى يجب أن يشدَّ الرحل له، وتقطع المسافة إليه غير هذه الثلاثة التي هي مساجد الأنبياء عليهم السلام فأما إذا نذر الصَّلاة في غيرها فإن له الخيار في أن يأتيَها أو يصلِّيها.
          قال: والشدُّ إلى المسجد الحرام فرضٌ للحج والعمرة، وكانت الرحال تشدُّ إلى مسجد رسول الله في حياتهِ للهجرة وكانت واجبة، وأمَّا إلى بيت المقدس فإنه فضيلةٌ. انتهى.
          وقال ابنُ بطَّال: هذا الحديث في النهي عن إعمال المطيِّ إنما هو عند العلماء في من نذرَ على نفسه الصلاة في أحد هذه المساجد الثلاثة، قال مالك: من نذرَ صلاة في مسجد لا يصل إليه إلا براحلةٍ فإنه يصلي في بلدهِ إلا إن نذرَ ذلك في مسجد مكة أو المدينة أو بيت المقدس، فعليه السَّير إليها، وأمَّا من أراد الصلاة في مساجد الصَّالحين والتبرك بها متطوِّعاً فيباح له قصدها بإعمالِ المطي وغيره، ولا يتوجَّه إليه النَّهي في هذا الحديث. انتهى.
          وقال في ((الفتح)): واختلفَ في شدِّ الرحال إلى غيرها كالذَّهاب إلى زيارة الصالحين أحياء وأمواتاً، وإلى المواضع الفاضلة لقصد التبرك بها والصلاة فيها، فقال الشيخ أبو محمَّد الجويني: يحرم شدُّ الرحال إلى غيرها عملاً بظاهر هذا الحديث، وأشار القاضِي حسين إلى اختيارهِ، وبه قال عياض وطائفة، قال: ويدلُّ عليه ما رواه أصحاب السنن من إنكارِ بَصرة الغفاري على أبي هُريرة خروجه إلى الطُّور، وقال له: ((لو أدركتُك قبل أن تخرجَ ما خرجْتُ))، واستدلَّ بهذا الحديث فدلَّ على حمل الحديث على عمومهِ ووافقَه أبو هريرة، والصحيح عند إمام الحرمين أنه لا يحرم.
          وقال التقي السُّبكي: ليس في الأرض بقعة لها فضْل لذاتها حتى تشد الرحال إليها غير البلاد الثلاثة، ومرادِي بالفضل: ما شهدَ الشَّرع باعتباره، ورتب عليها حكماً شرعياً، وأما غيرها من البلاد فلا يشدُّ إليها لذاتها، بل لزيارة أو جهاد أو علم أو نحو ذلك من المندوبات أو المباحات.
          قال: وقد التبس ذلك على بعضهم فزعم أن شدَّ الرحال إلى الزيارة لمن في غير الثلاثة داخلٌ في المنع، وهو خطأ؛ لأنَّ الاستثناء إنما يكون من جنس المستثنى منه، فمعنى الحديث: لا تشدُّ الرحال إلى مسجد من المساجد أو إلى مكان من الأمكنة لأجل ذلك المكان إلا إلى الثلاثة المذكورة، وشدُّ الرحال إلى زيارة أو طلب علم ليس إلى المكان، بل إلى من في ذلك المكان، انتهى.
          هذا وقد اختلفَ العلماء فيمَن نذر المشي إلى هذه المساجد الثلاثة: فقال الشَّافعي وأحمد: يجبُ الوفاء به، لكن يقوم المسجد الحرام مقام الآخرين، ويقوم مسجد المدينة مقامَ المسجد الأقصى، بخلاف العكس.
          وقال ابنُ بطَّال: من كان بالمدينة فنذر المشي إلى بيت المقدس، فقال مالك: يمشِي ويركب، وقال الأوزاعيُّ: يمشي أو يركبُ ويتصدَّق، وقال أبو حنيفة وأصحابه:
           / يصلِّي في مسجد المدينة أو مكة، وقال أبو يوسف: إن نذرَ أن يصلِّي في المسجد الحرام فصلى في مسجد الأقصَى لم يجزه، وحكى الطحَّاوي عن أبي حنيفة ومحمَّد: أن من جعلَ لله عليه أن يصلي في مكان، فصلى في غيره أجزأهُ، وأطالَ في نقل الأقوال والخلاف في ذلك بين العلماء والاستدلال لهم.
          وأمَّا لو نذر الصَّلاة في غير هذه الثلاثة فقال في ((الفتح)) ما حاصله: قال النووي: لا خلافَ بين العلماء في أنه لا يلزمه الوفاء بما نذره، إلَّا ما روي عن الليث _ولعله مراد ((الفتح)) بقوله: على الاستئناف فتأمل_ أنه قال: يجب الوفاء به، وعن الحنابلةِ رواية: يلزمُه كفَّارة يمين ولا ينعقد نذره، وعن المالكيَّة رواية: إن تعلَّقت به عبادة تختص به كرباط لزم وإلا فلا.
          وعن محمد بن مسلمة المالكي: أنه يلزم النذر في مسجد قباء؛ لأنَّ النبي عليه السلام كان يأتيهِ كل سبت، كما سيأتي، ونقله ابن بطَّال عن ابن عباس.
          وفي ((التحفة)) لابن حجر: وبحث تعين مسجد قباء؛ لأن ركعتين فيه كعمرة، كما في الحديث. انتهى
          (الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ): بالجر بدل من ((ثلاثة)) وبالرفع خبر لمحذوف، ولعله مراد ((الفتح)) بقوله: على الاستئناف، فتأمل، ويجوز النصب لمحذوف ويأتي في المعطوفين بعده ما تقرر فيه.
          والحرام بمعنى: المحرم كقولهم: الكتاب بمعنى: المكتوب، قاله في ((الفتح)).
          واعترضه العيني فقال: هذا القياس غير صحيحٍ؛ لأن الكتاب على وزن فعِال _بكسر الفاء_ والحرام فعال بفتحها فكيف يقاس عليه، وإنما الحرام اسم للشيء المحرم. انتهى.
          قال شيخ الإسلام: والمراد بالمسجد الحرام نفس المسجد لا الكعبة ولا مكة ولا الحرم كله، وإن كان يطلق على الجميع. انتهى.
          فقول صاحب ((الفتح)) كغيره: المراد به: جميع الحرم، مبني على قول عطاء أنَّ الحرم كله مسجد، كما رواه عنه الطَّيالسي، أو المراد لو وسع المسجد على مقدارِ الحرم.
          وقيل: يختصُّ بالموضع الذي يصلى فيه دون البيوت وغيرها من أجزاءِ الحرم، وأيَّده الطَّبري بقوله: ((مسجدي هذا)): لأنَّ الإشارة فيه إلى مسجد الجماعة، فينبغِي أن يكون المستثنى كذلك.
          وقيل: المراد به الكعبة، حكاه الطَّبري وأيَّده بما رواه النسائي بلفظ: ((إلا الكعبة)).
          قال في ((الفتح)): وفيه نظر؛ لأن الذي عند النسائي: ((إلا مسجد الكعبة))، ولو سقط لفظ: ((مسجد)) فإنه مراد. انتهى.
          فقول العيني: والصَّحيح عند الشَّافعية: أنه يعم جميع مكة، وصحَّح النووي أنه جميع الحرم خلاف الصَّحيح في الفروعِ من أنه المسجد فقط.
          (وَمَسْجِدِ الرَّسُولِ): أي: محمد ((صلعم فأل فيه للعهد الواقع في المدينة الشريفة.
          قال في ((الفتح)): وفي العدولِ عن مسجدِي إليه إشارة إلى التعظيم، ويحتملُ أنه من تصرف الرواة ويؤيده ما في حديث أبي سعيد الآتي قريباً: ((ومسجدِي هذا)).
          وفي القسطلاني: روى أحمدُ بإسناد رواته رواة الصَّحيح من حديث أنس رفعه: ((من صلَّى في مسجدِي أربعين صلاة لا تفوتُه صلاة كتبَ له براءةٌ من النار، وبراءةٌ من العذابِ، وبراءةٌ / من النفاق))
          (وَمَسْجِدِ الأَقْصَى): من إضافة الموصوف إلى الصفة على طريقة الكوفيين على حد: {وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ} [القصص:44]، وأوله البصريون بإضمار نحو: المكان.
          وسمي الأقصى لبعده عن المسجد الحرام في المسافة، وقيل: في الزمان، ونظر فيه الحافظ ابن حجر بأنه ثبت في ((الصحيح)) أن بينهما أربعين سنة، وسيأتي في ترجمة الخليل ما فيه من إشكال وجواب.
          وقال ((الكشاف)): سمي أقصى؛ لأنه لم يكن حينئذٍ وراءه مسجد، وقيل: لبعده عن الأقذارِ والخبث، وقيل: هو أقصى بالنسبة لمسجد المدينة إلى مكة؛ فإنه أبعد منه إليها، وقيل: لأنه أقصَى موضع من الأرضِ ارتفاعاً وقرباً إلى السماء، يقال: قصي المكان يقصو قصواً: بَعُدَ.
          وحديث الباب: أخرجه مسلم وأبو داود في الحج والنسائي في الصلاة.