الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

في بيان بعض ما ورد في أهل الحديث

          الفائدة الرابعة: في بيان بعض ما ورد في أهل الحديث مما يدلُّ على فضلهم وشرفهم في القديم والحديث
          فمما وردَ في ذلك ما رواه الشافعي والبيهقي والترمذي عن ابن مسعود ☺: أنه قال: قال رسول الله صلعم: ((نضر الله امرأ سمع مقالتي فحفظها ووعاها وأداها، فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه)).
          ورواه أبو داود والترمذي عنه أيضاً بلفظ: ((نضر الله امرأ سمع منا شيئاً فبلغه كما سمعه، فرب مبلغ أوعى من سامع))، قال الترمذي: حسن صحيح. /
          وفي رواية صحيحة للترمذي: ((نضر الله امرأ سمع مقالتي فوعاها فأداها كما سمعها))، وفي رواية له صحيحة أيضاً: ((نضر الله امرأ سمع منا حديثاً فأداه عنا كما سمعه، فرب مبلغ أوعى من سامع))، وفي أخرى له صحيحة: ((نضر الله رجلاً سمع منا كلمة فبلغها كما سمعها، فرب مبلغ أوعى من سامع)).
          وروي عن البزار بإسناد حسن، وابن حبان في ((صحيحه)) عن زيد بن ثابت، ومعاذ بن جبل، والنعمان بن بشير، وكذا الحاكم في ((مستدركه)) وقال: صحيح على شرط الشيخين عن جبير بن مطعم وأبي قرصافة وأبي الدرداء وغيرهم عن النبي صلعم أنه قال في حجة الوداع: ((نضر الله امرأ سمع مقالتي فوعاها، فرب حامل فقه ليس بفقيه)) وهي من الأحاديث المتواترة في ((الأزهار المتناثرة)) للحافظ السيوطي.
          وعزاه أيضاً فيها للطبراني عن أنس وسعد بن أبي وقاص وكثيرين بلفظ: ((نضر الله امرأ سمع مقالتي فوعاها فأداها إلى من لم يسمعها، فرب حامل فقه غير فقيه، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه)).
          تنبيه: «نضر» في الحديث _بفتح النون والضاد المعجمة خفيفة_، ورجحه بعضهم واقتصرَ عليه الرِّوياني في ((بحره))، وهو بمعنى المشدد كأنضره، كما في ((القاموس)) وروي بتشديدها، بل قال النووي وغيره: إنه الكثير من النضرة وهي الحسن والرونق، والمعنى: منحه الله تعالى البهجة والسرور لا خصه بهما كما قيل: كما لا يخفى؛ لأنه سعى في نضارة العلم وتجديد السنة وحفظها، فجازاه رسول الله صلعم في دعائه له بما يناسب حاله في المعاملة، وأيضاً فإن من حفظ ما سمعه وأداه كما سمعه من غير تغيير كأنه جعل المعنى غضاً طرياً، وقيل: معنى الحديث أوصله الله إلى نضرة الجنة ونعمه بها قال تعالى: {تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ} [المطففين:24]. وقيل: معناه حسن الله جاهه، وقدره بين الناس فهو نظير قوله صلعم: ((اطلبوا الحوائج إلى حسان الوجوه)) يعني: وجوه الناس وذوي الأقدار، وردَّه ابن حجر المكي في ((شرح الأربعين)) فإنه بعيد مخالف للظاهر من غير حامل عليه، قال: وليس نظير حديث: ((اطلبوا الحوائج إلى حسان الوجوه)) لذكر الوجوه فيه المحتمل؛ لأن يراد بها جمع وجه من الوجاهة، وهي التقدم وعلو القدر، وهذا الحديث بهذا اللفظ عزاه في ((الجامع الكبير)) لابن أبي الدنيا عن ابن عمر، وللطبراني في ((الأوسط)) عن أبي هريرة، وورد بروايات مختلفة من طرق كثيرة عن أنس وجابر وعائشة وابن عباس وغيرهم، ولفظ أكثرهم: ((اطلبوا الخير عند حسان الوجوه)) وطرقه كلها ضعيفة، وليس بموضوع، بل هو مشهور قد يكتسب الحسن كغيره من تعدد طرقه، وقد استوفينا طرقه وألفاظه برواياته، وما قيل فيه قديماً وحديثاً في ((كشف الخفاء)) فراجعه.
          وقلت في ذلك متشبهاً بهم:
يا من سبى بالحسن كل فقيه                     واستجمعت عليا المكارم فيه
جد لي بخير فهو خير قد أتى                     فيه حديث صالح نرويه
ما أن معناه اطلبوا من خيركم                     الخير أعني من حسان وجوه
          وحكى أبو بكر بن العربي عن ابن بشكوال أنه بالصاد المهملة، من النصرة والإعانة لكنه شاذ رواية، وعلى كل فهو إما دعاء منه ◙ لحاملي الحديث الشريف، أو إخبار عنهم بذلك. /
          ثمَّ قال ابن حجر المكي: وليس في قوله صلعم: ((فوعاها فأداها كما سمعها)) منع لرواية الحديث بالمعنى بشروطها خلافاً لمن ظنه؛ لأن المراد أداء حكمها لا لفظها بدليل قوله في آخر الحديث: ((فرب حامل فقه غير فقيه، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه)) إذ الفقه اسم للفظ والمعنى، انتهى.
          وأقول في دعواه: أن المراد أداء حكمها لا لفظها نظرٌ؛ إذ ضمير فأداها راجع إلى مقالتي، وهي لفظ لا حكم، وآخر الحديث لا يدلُّ لما قاله صريحاً؛ لجواز أن يطلق الفقه على اللفظ مجازاً؛ لكون اللفظ دالاً على المعنى، فتدبر.
          وقوله: ((فرب حامل فقه... إلخ)) رب حرف عند البصريين، وهو الصحيح خلافاً للكوفيين والأخفش في أحد قوليه في دعواهم اسمية مستدلين بأنه أخبر عنه في قول الشاعر:
إن يقتلوك فإن قتلك لم يكن                     عاراً عليك ورب قتل عار
          واختار الرضى قول الكوفيين، لكن رد دليلهم في ((المغني)) بأن عار خبر لمحذوف، والجملة صفة لمجرور رب، وبأنه خبر للمجرور إذ هو في موضع الرفع بالابتداء، وليس معناها التقليل دائماً خلافاً للأكثرين، ولا تكثير دائماً خلافاً لابن درستويه وجماعة، بل ترد للتكثير كثيراً ولتقليل قليلاً، وزاد الدَّماميني في ((شرحه)) ولا التقليل في أكثر الأوقات خلافاً لقوم، ولا التكثير في موضع المباهات والافتخار دون غيره خلافاً لفرقة، ولا الإثبات دون تقليل أو تكثير بحسب الوضع، وإنما ذلك مستفاد من السياق خلافاً لآخرين، انتهى.
          وأقول: ما اختاره في ((المغني)) من أنها للتكثير كثيراً، وللتقليل قليلاً تبع فيه ابن مالك في ((تسهيله)) حيث قال: وليست اسماً خلافاً للكوفيين والأخفش في أحد قوليه، بل هي حرف تكثير وفاقاً لسيبويه والتقليل بها نادر، انتهى.
          واختار ابن الحاجب أنها للتَّقليل، قال الجاهي: وهذا الذي ذكره من التقليل أصلها، ثم تستعمل في معنى التكثير كالحقيقة، وفي التقليل كالمجاز المحتاج إلى قرينة، انتهى.
          فقول القسطلاني: رب وضعت للتقليل فاستعيرت في الحديث للتكثير، كأنه مبني على قول الأكثرين الذي اختاره ابن الحاجب، أو يحتمل بقاؤها في الحديث على التقليل، فافهم.
          وقوله: ((إلى من هو أفقه منه)) متعلَّق بمحذوف مثل أداه وهو نعت لمجرور رب، ولا يجوز أن يتعلق بـ((حامل)) لوجوب نعت مجرور رب إذا كان ظاهراً لم تستغني به عن جوابها، والتقدير: فرب حامل فقه أداه إلى من هو أفقه منه لا يفقه ما يفقهه المحمول إليه، فتأمل.
          وخص في الحديث نفي الفقه بالذكر دون العلم حيث قال في بعض رواياته: ((فرب حامل فقه ليس بفقيه)) إشعاراً بأن الحامل له ليس بعار عن العلم إذاً الفقه العلم بدقائق العلوم المستنبطة من الأقيسة، ولو قال غير عالم تلزم جهله، كذا قاله القسطلاني.
          وهو مبني على القول بأن الفقه لغة فهم ما دق، كما نقل عن ابن القطاع، والصحيح أن الفقه لغة الفهم مطلقاً، فلو قال في التعليل: إذاً الفقه العلم بالعلوم المستنبطة من الأقيسة لكفى في الإشعار مع كونه جارياً على الراجح، ولكان أشمل، فتأمل.
          وقد نظم بعضهم هذا الحديث عاقداً له وقد قيل: إنه السيوطي:
من كان من أهل الحديث فإنه                     ذو نضرة في وجهه نور سطع
إن النبي دعا بنضرة وجه من                     أدى الحديث كما تحمل واستمع
          ولبعضهم ونسب للسيوطي أيضاً:
أهل الحديث لهم مفاخر ظاهرة                     وهم نجوم في البرية زاهرة
في أي عصر قد ثووا تلقاهم                     حقاً لأعداء الشريعة قاهرة /
بالنور قد ملئت حشاشة صدورهم                     فلذا وجوههم تراها ناضرة
          ومما ورد في ذلك أيضاً ما رواه الطبراني في ((الأوسط)) عن ابن عباس ☻ قال: قال رسول الله صلعم: ((اللهم ارحم خلفائي)) قلنا: يا رسول الله ومن خلفاؤك؟ قال: ((الذين يؤدون أحاديثي ويعلمونها الناس)).
          ولا ريب أن أداء السنن وتعليمها للمسلمين نصيحة لهم، وهي من وظائف الأنبياء والمرسلين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، فمن قام بذلك كان خليفة لهم، فكما أن المرسلين لا يهملوا أعداءهم فضلاً عن أصدقائهم، فكذلك لا ينبغي ولا يحسن بأهل الحديث ونقلة السنة أن يمنحوها أصدقائهم ويمنعوها أعداءهم، فعلى العالم بالسنة أن يجعل أكبر همه نشر الحديث وإذاعته لأهله، فقد أمر رسول الله صلعم بالتبليغ عنه حيث قال فيما رواه البخاري: (بلغوا عني ولو آية).
          قال المظهري: المعنى بلغوا عني أحاديثي ولو كانت قليلة؛ يعني: فهو مجاز مرسل؛ لأنه أطلق اللزوم وهو الآية، وأراد لازمها وهو القلة، وقال البيضاوي: قال (ولو آية) ولم يقل: ولو حديثاً؛ لأن الأمر بتبليغ الحديث يفهم منه بالطريق الأولى، فإن الآيات مع انتشارها وكثرة حملتها تكفل الله بحفظها وصونها عن الضياع والتحريف، فإذا أمر بتبليغها وهي بهذه المثابة فالحديث أولى.
          وقال الإمام مالك ☼: بلغني أن العلماء يسألون يوم القيامة عن تبليغهم العلم كما يسأل الأنبياء عليهم الصلاة السلام، وقال سفيان الثوري ☼: لا أعلم علماً أفضل من طلب الحديث لمن أراد به وجه الله تعالى، فإن الناس يحتاجون إليه حتى في طعامهم وشرابهم، فهو أفضل من التطوع بالصلاة والصوم؛ لأنه فرض كفاية.
          وروى ابن عدي، عن أسامة بن زيد ☺، عن النبي صلعم أنه قال: (يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين).
          وهذا الحديث ورد من طرق كثيرة كلها ضعيفة، وقد يقال: يتقوى الحديث بتعددها فيكون حسناً لغيره وبهذا جزم العلائي لكن قال شيخ الإسلام زكريا في ((شرح ألفية العراقي)): إن الحديث ضعيف مع كثرة طرقه بل فيه أنه موضوع انتهى فتأمل.
          فقوله: (ينفون عنه تحريف الغالين) بمعنى: يذبون عن علم الحديث تغيير المتجاوزين للحد، فإن الغالين _بالغين المعجمة وبتخفيف اللام_ جمع غال، من الغلو وهو تجاوز الحد، وبعضهم صحفه بالضالين _بالضاد الساقطة_ وليس كذلك وإن استقام المعنى معه.
          وقوله: ((وانتحال المبطلين)) أي:ادعاءهم لأنفسهم ما ليس لهم.
          قال القسطلاني: وفي هذا الحديث تخصيص حملة السنة الشريفة بهذه المنقبة العلية، وتعظيم لهذه الأمة المحمدية، وبيان جلالة قدر المحدثين وعلو مرتبتهم في العالمين؛ لأنهم يحمون مشارع الشريعة ومتون الروايات من تحريف المحرفين، وتأويل الجهلة القاصرين، انتهى.
          وأقول: بالباء في قوله: بهذه المنقبة، داخلة على المقصور عليه وهو من قصر الموصوف على الصفة؛ لأن حملة السنة الشريفة قصروا على هذه المنقبة وهي العدالة لا يتجاوزونها إلى الفسق، والقصر إضافي إذ لهم صفات أخرى كثيرة، ولا يصح أن تكون الباء داخلة على المقصور؛ لأن العدالة ثابتة أيضاً لغير حملة السنة، لكن في قوله: وفي هذا الحديث تخصيص حملة السنة...إلخ شيء إذ بعض الفسقة يحملون هذا العلم، فلو قال: وفي الحديث إخبار بأن العدول يحملون السنة كما قال غيره لكان أظهر إلا أن يجاب بما سيأتي قريباً، أو يجاب بأن ما في الحديث بحسب الغالب، فتأمل.
          وقال النووي في أول ((تهذيبه)): هذا إخبار منه صلعم بصيانة هذا العلم / وحفظه وعدالة ناقليه، وأن الله تعالى يوفق له في كل عصر خلفاً من العدول يحملونه، وينفون عنه التحريف فلا يضيع، وفي هذا تصريح بعدالة حامليه في كل عصر، وهكذا وقع ولله الحمد وهو من أعلام نبوته، ولا يضر كون بعض الفساق يعرف شيئاً من علم الحديث، فإن الحديث إنما هو إخبار بأن العدول يحملونه وينفون عنه التحريف لا أن غيرهم لا يعرف منه شيئاً انتهى.
          فتدبر فإنه قد يرد عليه ما أورد على القسطلاني إذ الإضافة في قوله: حامليه، للاستغراق إلا أن يقال: مراد النووي أنهم يحملونه وينفون عنه التحريف معاً، والموجود في بعض الفسقة الأول فقط، فتأمل.
          وأجيب أيضاً: بأن اللام في العلم للعهد، والمعهود العلم النافع وبأنه دعاء للعدول بأن يحملوه فلا إيراد، لكن الثاني بعيد ينبو عنه اللفظ والمعنى، فتأمل.
          وأجيب أيضاً: بأن ما يعرفه الفساق من العلم المذكور ليس بعلم حقيقة؛ لعدم عملهم به، فلم يجروا على مقتضى العلم، وبأنه خبر في معنى الأمر، ويؤيده ما في بعض طرقه ليحمل بلام الأمر، وبأنه لو سلم بقاؤه على ظاهره فلا ينافي حمل بعض الفسقة له؛ لأنه لا حصر فيه بأن لا يحمله إلا العدول، فافهم.
          وقول الإمام الشافعي ☺: ولا العلم إلا مع التقي، ولا العقل إلا مع الأدب يحتمل أنه إشارة إلى الجواب الأول، ويحتمل الثالث، ويدل له كلام أهل المعان
          فقد قال السعد في قول ((التلخيص)): وقد ينزل العالم منزلة الجاهل؛ لعدم جريه على موجب علمه، فإن من لا يجري على مقتضى علمه هو والجاهل سواء كما يقال للعالم التارك للصلاة: الصلاة واجبة؛ لأن موجب العلم العمل، وللسائل العارف بما بين يديك ما هو نحو كتاب؛ لأن موجب العلم ترك السؤال، ومثله هي عصاي في جواب: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى} [طه:17] ونظائره كثيرة بحسب كثرة موجبات العلم، قال صاحب ((المفتاح)): وإن شئت فعليك بكلام رب العزة، انتهى.
          والأولى أن يقال: وقد يساق المعلوم مساق غيره؛ لأن التعبير بالأول لا يخلو من سوء أدب في القرآن نظير ما قالوا في تجاهل العارف من أن الأولى سوق المعلوم مساق المجهول، فتأمل.
          وممَّا يدل على فضل أهل الحديث أيضاً ما روى أبو داود وابن ماجه عن عبد الله بن عمرو بن العاص ☻ أن النبي صلعم قال: (العلم ثلاثة: آية محكمة، أو سنة قائمة، أو فريضة عادلة، وما سوى ذلك فهو فضل) وأو بمعنى الواو هنا.
          قال في ((شرح المشكاة)): والتعريف في العلم للعهد، وهو ما علم من الشارع، وهو العلم النافع في الدين، وفي العلم مطلق ينبغي تقييده بما يفهم منه المقصود فيقال: علم الشريعة معرفة ثلاثة أشياء، والمراد بالآية المحكمة كتاب الله تعالى وما يتوقف عليه؛ لأن المحكمة هي التي أحكمت عبارتها بأن حفظت من الاحتمال والاشتباه، فكانت أم الكتاب، فتحمل المتشابهات عليها وترد إليها، ولا يتم ذلك إلا للماهر في علم التفسير والتأويل الحائز لمقدمات يفتقر إليها من الأصلين وأقسام العربية، ويحتمل أن يراد بالآية المحكمة ما لم تنسخ؛ لأنها محكمة لبقاء حكمها وعدم نسخه، والمراد بقيام السنة ثباتها ودوامها بالمحافظة عليها من قامت السوق نفقت؛ لأنها إذا حوفظ عليها كانت كالشيء النافق الذي تميل إليه الرغبات، ويتنافس فيه المخلصون بالطلبات، ودوامها بحفظ أسانيدها من معرفة أسماء الرجال، والجرح والتعديل، ومعرفة الأقسام من الصحيح وغيره، ويحفظ متونها من التغيير والتبديل بإتقانها، وتفهم معانيها واستنباط العلوم منها؛ لأنها من جوامع كلمه صلعم التي اختص بها بالإيماء مثل هذا الحديث، والمراد بالفريضة العادلة المستقيمة المستنبطة من الكتاب والسنة والإجماع، / والمراد بما سوى ذلك المعدود من الفضل والزيادة ما لا دخل له في أصول علوم الدين، بل ربما يستعاذ منه كقوله صلعم فيما رواه النسائي وأبو داود والحاكم عن أبي هريرة: (اللهم إني أعوذ بك من قلب لا يخشع، ومن دعاء لا يسمع، ومن نفس لا تشبع، ومن علم لا ينفع أعوذ بك من هؤلاء الأربع).
          ولله در الإمام الشافعي ☺ قال:
كل العلوم سوى القرآن مشغلة                     إلا الحديث وإلا الفقه في الدين
العلم ما قيل فيه قال حدثنا                     وما سوى ذاك وسواس الشياطين
          ولقد أحسن أبو بكر حميد القرطبي حيث قال:
نور الحديث مبين فادن واقتبس                     واحد الركاب له نحو الرضى التدس
واطلبه بالصين فهو العلم إن رفعت                     أعلامه برباها يا ابن أندلس
فلا تضع في سوى تقييد شاردة                     عمراً يفوتك بين اللحظ والنفس
وخل سمعك عن بلوى أخي جدل                     شغل اللبيب بها ضرب من الهوس
ما إن سمت بأبي بكر ولا عمر                     ولا أتت عن أبي ذر ولا أنس
إلا هوى وخصومات ملفقة                     ليست برطب إذا عدت ولا يبس
فلا يغرك من أربابها هذر                     أجدى لوجدك منها نغمة الجرس
أعرهم أذناً صماً إذا نطقوا                     وكن إذا سألوا تعزى إلى خرس
ما العلم إلا كتاب الله أو أثر                     يجلو بنور هداه كل ملتبس
نور لمقتبس خير لملتمس                     حمى لمحترس نعمى لمبتئس
فاعكف ببابهما على طلابهما                     تمحو العمى بهما عن كل ملتمس
ورد بقلبك عذباً من حياضهما                     تغسل بماء الهدى ما فيه من دنس
واقف النبي وأتباع النبي وكن                     من هديهم أبداً تدنو إلى قبس
والزم مجالسهم واحفظ محاسنهم                     واندب مدارسهم بالأبع الدرس
واسلك طريقهم واتبع فريقهم                     فكن رفيقهم في حضرة القدس
تلك السعادة إن تلمم بساحتها                     فحط رحلك قد عوفيت من تعس
          وقال الحاكم: لولا كثرة طائفة المحدثين على حفظ الأسانيد لدرس منار الإسلام، ولتمكن أهل الإلحاد والمبتدعة من وضع الأحاديث، وقلب الأسانيد، فالإسناد فضيلة لهذه الأمة، وخصيصة اختص بها عن غيرهم من الأمم.
          فقد قال محمد بن أبي حاتم بن المظفر كما في ((المواهب اللدنية)): إن الله تعالى قد أكرم هذه الأمة وشرفها وفضلها بالإسناد، وليس لأحد من الأمم كلها قديمها وحديثها إسناد إنما هو صحف في أيديهم، وقد خلطوا بكتبهم من الأخبار التي أخذوها عن غير الثقات، وهذه الأمة إنما تنص الحديث عن الثقة، وهكذا حتى تتناهى أخبارهم.
          وقال أبو حاتم الرازي: لم يكن في أمة من الأمم منذ خلق الله تعالى آدم أمناء يحفظون آثار الرسل إلا في هذه الأمة.
          وأخرج أبو نعيم والحاكم وابن عساكر عن علي ☺: أنه عليه الصلاة والسلام قال: (إذا كتبتم الحديث _أي: عني_ فاكتبوه بإسناده، فإن يك حقاً كنتم شركاء في الأجر لمن رواه من الرجال، وإن يك باطلاً كان وزره عليه).
          لأن كتابة الحديث بلا سند / فيه خلط للصحيح بالضعيف، بل وبالموضوع، فيقع الزلل وينسب إلى الرسول ما لم يقل، وإذا كتبه بإسناده برئ الكاتب من عهدته.
          قال الإمام الشافعي ☺: الذي يطلب الحديث بلا سند كحاطب ليل يحمل الحطب وفيه أفعى وهو لا يدري، وقال ابن المبارك: طالب العلم بلا سند كراقي السطح بلا سلم، وفي هذا الخبر المار آنفاً عن علي رد على من كره كتابة الحديث من السلف، والنهي عنه في خبر أمر منسوخ أو مؤول يحمله على الزمن النبوي خوف اشتباهه بالقرآن العظيم.
          وفي ما قدمناه من الآثار بيان جلالة قدر المحدثين، وعلم مرتبتهم، كيف وعلم الرواية أقوى أركان الدين، وأوثق عرى اليقين لا يرغب في نشره إلا كل صادق تقي، ولا يزهد في نصره إلا كل منافق شقي، قال ابن القطان: ليس في الدنيا مبتدع إلا وهو يبغض أهل الحديث، ومما يدل أيضاً على شرف أهله ما رواه الترمذي وقال حسن غريب، وابن حبان عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلعم: (إن أولى الناس بي يوم القيامة أكثرهم علي صلاة)، زاد في رواية في آخره: (في الدنيا).
          قال ابن حبان: في هذا الحديث بيان أن أولى الناس برسول الله صلعم في القيامة أهل الحديث إذ ليس أحد من هذه الأمة أكثر صلاة عليه منهم، وقال غيره: المخصوص بهذا الحديث نقلة الأخبار الذين يكتبون الأحاديث ويذبون عنها الكذب آناء الليل وأطراف النهار، ونقل الخطيب في كتابه ((شرف أصحاب الحديث)) عن أبي نعيم أنه قال: فيه منقبة شريفة تختص رواة الأخبار ونقلتها؛ لأنه لا يعرف لعصابة من العلماء ما يعرف لهذه العصابة من كثرة الصلاة على النبي صلعم.
          وجاء في حديث سنده غريب كما في ((الجوهر المنظم)) أن النبي صلعم قال: (من صلى علي في كل يوم مائة مرة قضى الله له مائة حاجة سبعين لآخرته وثلاثين لدنياه).
          وفيه أيضاً بسند حسن من قال: (اللهم صلي على محمد، وأنزله المقعد المقرب عندك يوم القيامة وجبت له شفاعتي).
          فعلم الحديث من أعظم الوسائل النافعة عند الله تعالى وعند رسوله صلعم، وما أحسن ما قال بعضهم ويعاد:
علم الحديث وسيلة مقبولة                      عند النبي الأبطحي محمد
فاشغل به أوقاتك البيض التي                     ملكتها تشرف بذاك وتسعد
          وقال ابن عساكر: ليهن أهل الحديث، فإن الله تعالى قد آثرهم بهذه البشرى، وأتم عليهم نعمه بهذه الفضيلة الكبرى، فإنهم أولى الناس بنبيهم؛ لأنهم يخلدون ذكره في طروسهم، ويجددون الصلاة والتسليم عليه في معظم الأوقات لاسيما في مجالس مذاكرتهم وتحديثهم ودروسهم فهم إن شاء الله تعالى الفرقة الناجية.
          وقال محمد بن عبد الله بن بشر: رأيت النبي صلعم في المنام فقلت له: من الفرقة الناجية من ثلاثة وسبعين فرقة؟ قال: أنتم يا أصحاب الحديث، جعلنا الله منهم، وحشرنا في زمرتهم.
          وقال الشافعي ☺: إذا رأيت رجلاً من أصحاب الحديث فكأني رأيت رجلاً من أصحاب رسول الله صلعم.
          وما أحسن ما قال عبد الله بن أحمد بن تمام:
أهل الحديث إذا عدوا لهم شرف                     بنسبة من رسول الله تتصل
حازوا من الشرف الأعلى مآثره                     وقد زكى لهم الإخلاص والعمل /
ما آثروا غير آثار النبي هدى                     وعن طريق الهدي يوماً فما عدلوا
          ولله در الإمام أبي طاهر أحمد بن محمد السلفي حيث قال:
إن علم الحديث علم رجال                     تركوا الابتداع للاتباع
فإذا الليل جنهم كتبوه                     وإذا أصبحوا غدوا للسماع
فلهم في المعاد خير مقام                     شاركوا الأنبياء في الاتباع
          ولله در بعضهم حيث قال:
جزى الله أصحاب الحديث مثوبة                     وبوأهم في الخلد أعلى المنازل
فلولا اعتناءهم بالحديث وحفظه                     ونفيهم عنه صروف الأباطل
وإنفاقهم أعمارهم في طلابه                     وبحثهم عنه بجد مواصل
لما كان يدري من غدا متفقهاً                     صحيح حديث من سقيم وباطل
ولم يستبن ما كان في الذكر مجملاً                     ولم يدر فرض من عموم النوافل
وقد بذلوا فيه نفوساً نفيسة                     وباعوا بحظ آجل كل عاجل
فحبهم فرض على كل مسلم                     وليس يعاديهم سوى كل جاهل
          وقد استوفينا جملة صالحة مما قيل فيهم في ((الفوائد الدراري في ترجمة الإمام البخاري)) فراجعها.