الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

في بيان معنى المحدث والحافظ والمفيد والمسند

          الفائدة الثانية: في بيان معنى المحدث والحافظ والمفيد والمسند وما يناسب ذلك
          فنقول: المحدث اصطلاحاً: هو العالم بحديث رسول الله صلعم متناً وطريقاً، وأسماء رواة له لا من اقتصر على السماع المجرد، وقال ابن سيد الناس: أما المحدث في عصرنا فهو من اشتغل بالحديث رواية ودراية وكتابة، واطلع على كثير من الرواة والروايات / في عصره، وتميز في ذلك حين عرف فيه حفظه، واشتهر فيه ضبطه، فإن توسع في ذلك حتى عرف شيوخه وشيوخ شيوخه طبقة طبقة بحيث يكون ما يعرفه من كل طبقة أكثر مما يجهله منها، فهذا هو الحافظ.
          وأما ما يحكى عن بعض المتقدمين من قولهم: كنا لا نعد صاحب حديث من لم يكتب عشرين ألف حديث في الإملاء، فذلك بحسب أزمنتهم، انتهى من هذا البعض، وأقول: هو ابن أبي شيبة.
          وقال بعضهم: المحدث يرادف الحافظ عند السلف، والحق أن الحافظ أخص منه، ومن ثم عرفه بعضهم بأنه المكثر من الحديث حفظاً، ورواية المتقن لأنواعه، ومعرفة رواته المدرك للعلل السالم غالبها من الخلل، وقال الحافظ ابن حجر: للأئمة شروط إذا اجتمعت في الراوي سمي حافظاً، وهي الشهرة بالطلب، والأخذ من أفواه الرجال لا من الصحف، والمعرفة بطبقات الرواة ومراتبهم، والمعرفة بالتجريح والتعديل، وتمييز الصحيح من السقيم حتى يكون ما يستحضره من ذلك أكثر مما لا يستحضره مع استحضاره أيضاً لكثير من المتون.
          وفي بعض نسخ ((شرح الشمائل)) للمناوي: الحافظ: من حفظ مائة ألف حديث متناً وإسناداً ولو بتعدد الطرق، أو من روى ووعى ما يحتاج إليه.
          ولأهل الحديث مراتب: أولها الطالب وهو المبتدئ، ثم المحدث وهو من تحمل روايته، واعتنى في بدايته.
          ثم الحافظ وقد ذكر، ثم الحجة وهو: من أحاط بثلاثمائة ألف حديث. ثم الحاكم وهو من أحاط بجميع الأحاديث متناً وإسناداً، وجرحاً وتعديلاً وتاريخاً، انتهى.
          وقال أبو الفرج بن الجوزي: الحافظ: من روى ما يصل إليه، ووعى ما يحتاج لديه، والمحدث من تحمل الحديث رواية، واعتنى به دراية، انتهى.
          وأمَّا المفيد فهو كما قال الذَّهبي أعلى رتبة من المحدث ودون الحافظ في العرف، كما أن الحجة فوق الثبت، ولفظ المفيد أول ما استعمل لقباً قبل الثلاثمائة لقِّب به أبو بكر محمد بن أحمد بن يعقوب، انتهى.
          وهو أيضاً أرفع رتبة من المسند _بكسر النون_ إذ هو من يروي الحديث بإسناده سواء كان عنده علم به أم لم يكن إلا مجرد الرواية.
          وأما المسند _بفتح النون_ فله ثلاثة إطلاقات:
          أحدها: الحديث الذي أسند للنبي صلعم سواء كان متصلاً أو منقطعاً، وقيل: ما اتصل سنده ورجحه الحافظ بن حجر.
          ثانيها: الكتاب الذي جمع فيه ما أسنده الصحابي إلى النبي صلعم، كـ((مسند الإمام أحمد))، وعليهما فهو اسم مفعول.
          ثالثها: يراد به الإسناد فيكون مصدراً كالإسناد، ومعناه: الإخبار عن طريق المتن، وهو معنى قول الحافظ بن حجر في ((شرح نخبته)) والإسناد حكاية طريق المتن، ويطلق أيضاً على رفع الحديث إلى قائله، وعلى نفس الطريق فهو على هذا مرادف للسند إذ هو رجال الحديث وهم الطريق، وقال الطيبي: السند والإسناد متقاربان، وقال ابن جماعة: المحدثون يستعملون السند والإسناد لشيء واحد، ويستفاد من كلام بعضهم أن السند هو طريق المتن، والإسناد حكاية تلك الطريق فهما متباينان عليه، قيل: وهو المشهور.
          وقال الحافظ ابن حجر: وأما المسند _بكسر النون_ ويرادفه راوي الحديث فهو من اقتصر على المرويات ومارس القراءة والسماع، وحصل ما يطلق عليه اسم الاستكثار عرفاً، لكنه أهمل معرفة الاصطلاح بحيث لا يصلح أن يدرسه ويفيده، وقد يطلق عليه اسم المحدث مجازاً، فإن اقتصر على معرفة الاصطلاح حتى صلح لتدريسه وإفادته فيقال له: عالم بعلوم الحديث، ولا يسمى محدثاً اصطلاحاً، انتهى.
          وأقول: بقي عليه من جمع بين معرفة / المروايات ومارس القراءة والسماع إلى آخر ما مر آنفاً، وبين معرفة الاصطلاح، فهذا ينبغي أن يسمى محدثاً حقيقة، وقد يصل إلى حد الحافظ أو غيره ممن تقدم ويأتي.
          وقال السيوطي في ((شرح التقريب)): أعلم أن المسند _بكسر النون_ أدنى درجة من الحافظ والمحدث إذ هو من يروي الحديث بإسناده سواء كان علم به أو ليس له إلا مجرد الرواية، وأما المحدث فهو أرفع منه.
          قال الرافعي وغيره: إذا أوصى للعلماء لم يدخل الذين يسمعون الحديث، ولا علم لهم بطرقه، ولا بأسماء الرواة والمتون؛ لأن السماع المجرد ليس بعلم، وقال ابن يونس في ((شرح التعجيز)): إذا أوصى للمحدِّث تناول من علم طرق إثبات الحديث وعدالة رجاله؛ لأن من اقتصر على السماع فقط ليس بعالم، وذكر نحوه السبكي في ((شرح المنهاج)).
          وقال الزركشي: أما الفقهاء فاسم المحدث عندهم لا يطلق إلا على من حفظ متون الحديث، وعلم عدالة رجاله وجرحها دون المقتصر على السماع، وأخرج ابن السمعاني في ((تاريخه)) بسنده إلى أبي نصر الحسين بن عبد الواحد الشيرازي أنه قال: العالم الذي يعرف المتن والإسناد جميعاً، والفقيه الذي يعرف المتن ولا يعرف الإسناد، والحافظ الذي يعرف الإسناد ولا يعرف المتن، والراوي الذي لا يعرف المتن ولا يعرف الإسناد.
          وقال أبو شامة: علوم الحديث ثلاثة:
          أشرفها حفظ متونه ومعرفة غريبها وفقهها.
          وثانيها: حفظ أسانيدها ومعرفة رجالها ومعرفة صحيحها من سقيمها.
          وثالثها: جمعه وكتابته وسماعه وتطريقه، وطلب العلو فيه، والرحلة بسببه إلى البلدان، والمشتغل بهذا مشتغل عما هو الأهم من العلوم النافعة فضلاً عن العمل به الذي هو المطلوب الأصلي، إلا أنه لا بأس به لأهل البطالة لما فيه من بقاء سلسلة الإسناد مما يزهد في ذلك ما فيه من تشارك الكبير والصغير، والجاهل والعالم.
          وقال الحافظ ابن حجر: لا شك أن من جمع الأول والثاني حاز القِدح المعلى مع قصور فيه إن أخل بالثالث، ومن أخل بهما فلا حظ له في اسم الحافظ، ومن أحرز الأول وأخل بالثاني كان بعيداً من اسم المحدث عرفاً، ومن أحرز الثاني وأخل بالأول لم يبعد عنه اسم المحدث، ولكن فيه نقص بالنسبة إلى الأول، ولا شك أن من جمع الثلاثة كان فقيهاً محدثاً كاملاً، وأن من انفرد باثنين منها كان دونه إلا أن من اقتصر على الثاني والثالث فهو محدث صرف لاحظ له في اسم الفقيه، كما أن من انفراد بالأولى لاحظ في اسم المحدث، ومن انفرد بالأول والثاني ففي تسميته محدثاً بحث، انتهى كلام ابن حجر.
          وفي غضون كلامه ما يشعر باستواء المحدث والحافظ حيث قال: فلا حظ له في اسم الحافظ، والكلام كله في المحدث، وقد كان السلف يطلقون المحدث والحافظ بمعنى كما روى أبو سعد السمعاني بسنده إلى أبي زرعة الرازي قال: سمعت أبا بكر بن أبي شيبة يقول: من لم يكتب عشرين ألف حديث إملاء لم يعد صاحب حديث، والحق أن الحافظ أخص من المحدث.
          وقال التاج السبكي في ((معيد النعم ومبيد النقم)): من الناس فرقة ادعت الحديث، فكان قصارى أمرها النظر في ((مشارق الأنوار)) للصَّاغاني، فإن ترفعت إلى ((مصابيح البغوي)) وظننت أنها بهذا القدر تصل إلى درجة المحدثين فما ذلك إلا لجهلها بالحديث، فلو حفظ من ذكرناه هذين الكتابين عن ظهر قلب وضم إليهما من المتون مثلهما لم يكن محدثاً، ولا يصير بذلك محدثاً حتى يلج الجمل في سم الخياط، فإن رامت بلوغ الغاية في الحديث على زعمها اشتغلت بـ((جامع الأصول)) لابن الأثير، وإن ضمت إليه كتاب ((علوم الحديث)) لابن الصلاح أو ((مختصره)) للنووي ونحو ذلك ينادي من انتهى إلى هذا المقام: محدث المحدثين، وما شاكل ذلك من الألفاظ الكاذبة، / فإن من ذكرناه لا يعد محدثاً بهذا القدر، إنما المحدث من عرف الأسانيد والعلل وأسماء الرجال، والعالي والنازل، وحفظ مع ذلك جملة مستكثرة من المتون، وسمع الكتب الستة، و((مسند أحمد)) و((سنن البيهقي)) و((معجم الطبراني)) وضم إلى هذا القدر ألف جزء من الأجزاء الحديثية هذا أقل درجاته، فإذا سمع ما ذكرناه وكتب الطبقات، ودار على الشيوخ وتكلم في العلل والوفيات والأسانيد كان في أول درجات المحدثين، ثم يزيد الله من يشاء ما يشاء، انتهى.
          وقد حكى عن الزهري أنه قال: لا يولد الحافظ إلا في كل أربعين سنة، فإن صح كان المراد رتبة الكمال في الحفظ والإتقان، وقد اختلف الناس في معنى الحفظ، فقال ابن مهدي: الحفظ الإتقان، وقال أبو زرعة: الإتقان أكثر من السرد، وقال غيره: الحفظ المعرفة.
          ومما روي في حفظ الحفاظ ما قال أحمد بن حنبل: انتقيت ((المسند)) من سبعمائة ألف حديث وخمسين ألف حديث، وقال أبو زرعة الرازي: كان أحمد بن حنبل يحفظ ألف ألف حديث، قيل له: وما يدريك؟ قال: ذاكرته فأخذت عليه الأبواب، وقال أبو داود: كتبت عن رسول الله صلعم خمسمائة ألف حديث انتخبت منها كتاب ((السنن))، وقال يحيى بن معين: كتبت بيدي ألف ألف حديث، وقال البخاري: أحفظ مائة ألف حديث صحيح، ومائتي ألف حديث غير صحيح.
          وقال مسلم: صنفت هذا المسند الصحيح من ثلاثمائة ألف حديث مسموعة، وقال الحاكم في ((المدخل)): كان الواحد من الحفاظ يحفظ خمسمائة ألف حديث: سمعت أبا جعفر الرازي يقول: سمعت أبا عبد الله بن واره يقول: كنت عند إسحاق بن إبراهيم بنيسابور، فقال رجل من أهل العراق: سمعت أحمد بن حنبل يقول: صح من الحديث سبعمائة ألف وكسر، وهذا الفتى _يعني: أبا زرعة_ قد حفظ ستمائة ألف حديث.
          قال البيهقي: أراد أحمد ما صح من الأحاديث، وأقاويل الصحابة والتابعين، وقال غيره: سئل أبو زرعة عن رجل حلف بالطلاق أن أبا زرعة يحفظ مائتي ألف حديث هل حنث؟ قال: لا، ثم قال: احفظ مائة ألف حديث كما يحفظ الإنسان سورة {قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ} وفي المذاكرة ثلاثمائة ألف حديث، وقال أبو بكر محمد بن عمر الرازي الحافظ: كان أبو زرعة يحفظ سبعمائة ألف حديث، وكان يحفظ مائة وأربعين ألفاً في التفسير والقراءات.
          وقال الحاكم: سمعت أبا بكر بن أبي دارم الحافظ بالكوفة يقول: سمعت أبا العباس أحمد بن محمد بن سعيد يقول: أحفظ لأهل البيت ثلاثمائة ألف حديث، قال: وسمعت أبا بكر يقول: كتبت بإصبعي عن قطين مائة ألف حديث، وسمعت أبا بكر المزكي يقول: سمعت ابن خزيمة يقول: سمعت ابن خشرم يقول: كان إسحاق بن راهويه يملي سبعين ألف حديث حفظاً، وقال أبو داود الخفاجي: سمعت إسحاق بن راهويه يقول: كأني أنظر إلى مائة ألف حديث في كتبي وثلاثين ألفاً أسردها.
          وأسند الخطيب عن محمد بن يحيى بن خالد قال: سمعت إسحاق بن راهويه يقول: أعرف مكان مائة ألف حديث كأني أنظر إليها، وأحفظ سبعين ألف حديث عن ظهر قلبي، وأحفظ أربعة آلاف حديث مزورة انتهى كلام ((شرح التقريب)).
          وأطال الكلام في ذلك الحافظ السخاوي في / ((الجواهر والدرر)) في ترجمة شيخ الإسلام ابن حجر، وزاد في ذلك تعريف شيخ الإسلام فقال في ((مقدمته)): أما شيخ الإسلام فهو يطلق على المتبع لكتاب الله تعالى، وسنة رسوله صلعم مع المعرفة بقواعد العلم، والتبحر في الإطلاع على أقوال العلماء، والتمكن من تخريج الحوادث على النصوص، ومعرفة المعقول والمنقول على الوضع المرضي، وربما وصف به من بلغ درجة الولاية، وتبرك الناس به حياً وميتاً، وكذا من سلك في الإسلام طريقة أهله، وسلم من شدة الشباب وجهله، وكذا من صار هو العدة، والمفزع إليه في كل شدة كما هو مراد العامة، وقد يوصف به من شاب في الإسلام، وانفرد عن أقرانه بطول العمر، ودخل في عداد من شاب شيبة في الإسلام كانت له نوراً، ولم تكن هذه اللفظة مشهورة بين القدماء بعد الشيخين الصديق والفاروق ☻ الوارد وصفهما بذلك عن علي ☺ فيما ذكره الطبري في ((الرياض النضرة)) بلا إسناد عن أنس ☺ قال: جاء رجل إلى علي بن أبي طالب ☺ فقال: يا أمير المؤمنين سمعتك آنفاً تقول على المنبر: اللهم أصلحني بما أصلحت به الخلفاء الراشدين المهديين فمن هم؟ قال: فاغرورقت عيناه وأهملهما، ثم قال: أبو بكر وعمر ☻ إماما الهدى، وشيخا الإسلام، ورجلا قريش، والمقتدى بهما بعد رسول الله صلعم من اقتدى بهما عصم، ومن اتبع آثارهما هدي إلى صراط مستقيم، ومن تمسك بهما فهو من حزب الله وحزب الله هم المفلحون، انتهى.