إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

حديث: يا أيها الناس إنما الأعمال بالنية

          6953- وبه قال: (حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ) محمَّد بن الفضل قال: (حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ) الأزديُّ الجهضميُّ (عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ) الأنصاريِّ، وسقطَ لأبي ذرٍّ «ابن سعيد» (عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ) التَّيميِّ (عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ وَقَّاصٍ) بتشديد القاف، اللَّيثيِّ المدنيِّ أنَّه(1) (قَالَ: سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ الخَطَّابِ ☺ يَخْطُبُ) على المنبر (قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلعم يَقُولُ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّةِ) بالإفراد، والجملة مقولُ القولِ «وإنَّما» من أدوات الحصرِ. قال السَّكاكِي في «إعجاز القرآن»: إنَّ(2) الواقعَ بعد «إنَّما» إذا كان مبتدأ وخبرًا فالمحصور(3) الثَّاني، فإذا قلنا: إنَّما المال لزيدٍ، فالمال لزيدٍ لا لغيره، وإذا قلنا(4): إنَّما لزيدٍ المالُ فالمحصور المال(5) تقديره: لا غيره(6)، و«الأعمالُ» مبتدأ بتقدير مضافٍ، أي: إنَّما صحَّةُ الأعمال، والخبرُ الاستقرار الَّذي تعلَّق(7) به حرفُ الجرِّ، والباء في «بالنيَّة»(8) للسببيَّة، أي: إنَّما الأعمالُ ثابتٌ ثوابها بسببِ النِّيَّة، وأفردَها؛ لأنَّ المصدر المفرد(9) يقومُ مقام الجمعِ، وإنَّما يُجمع(10) لاختلافِ الأنواع (وَإِنَّمَا لاِمْرِئٍ مَا نَوَى). وفي التَّعليق السَّابق كرواية أوَّل الكتاب [خ¦54] «لكلِّ امرئٍ ما نوى»، فمن نوى بعقد البيع الرِّبا وقع في الرِّبا، ولا يُخلِّصه من الإثمِ(11) صورة البيع، ومن نَوى بعقد النِّكاح التَّحليل كأنَّه(12) محلِّلًا ودخل في الوعيد على ذلك باللَّعن، ولا يُخلِّصه من ذلك صورة النِّكاح، وكلُّ شيءٍ قُصِد به تحريم ما أحلَّ الله، أو‼ تحليل ما حرَّم الله كان إثمًا، واستَدلَّ به من قال بإبطال الحيل ومن قال بإعمالها؛ لأنَّ مرجع كلٍّ من الفريقين إلى نيَّة العامل، فإن كان في ذلك خلاص مظلومٍ مثلًا فهو مطلوبٌ، وإن كان فيه فوات حقٍّ فهو مذمومٌ، وقد نصَّ إمامنا الشَّافعيُّ على كراهةِ تَعاطي الحيل في تفويتِ الحقوق. فقال بعضُ أصحابه: هي كراهة تنزيهٍ. وقال كثيرٌ من محقِّقيهم كالغزاليِّ: هي كراهةُ تحريمٍ. وقد نقل صاحب «الكافي» من الحنفيَّة عن محمَّد بن الحسن قال: ليس من أخلاقِ المؤمنين الفِرار من أحكامِ الله بالحيلِ الموصلة إلى إبطال الحقِّ (فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ) من مكَّة إلى المدينة(13) (إِلَى اللهِ) أي: إلى طاعةِ الله (وَرَسُولِهِ) وجواب الشَّرط قولهُ: (فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ) ظاهره اتِّحاد الشَّرط والجزاء، فهو كقوله: مَن أكلَ أكلَ، ومَن شربَ شربَ، وذلك غير مفيدٍ. وأجاب عنه ابنُ دقيق العيد بأنَّ التَّقدير: فمن كانت هجرتُه إلى الله ورسوله قصدًا ونيَّةً(14) فهجرته إلى اللهِ ورسوله ثوابًا وأجرًا. قال ابنُ مالك: هو كقولهِ: لو متَّ متَّ على غيرِ الفطرة. قال ابنُ فَرْحون: وإعراب «قصدًا ونيَّة» يصحُّ أن يكون خبر كان، أي: ذات قصدٍ وذات نيَّةٍ، وتتعلَّق إلى بالمصدرِ، ويصحُّ أن يكون «إلى اللهِ» الخبر، وقصدًا مصدرٌ في محلِّ الحال، وأمَّا قوله: ثوابًا وأجرًا فلا يصحُّ فيهما إلَّا الحال من الضَّمير في الخبر. انتهى.
          وسبق مزيد لذلك أوَّل هذا الشَّرح [خ¦1].
          (وَمَنْ هَاجَرَ إِلَى دُنْيَا) بضم الدال، وحكى ابنُ قتيبة كسرها، ولا تنوَّن على المشهور؛ لأنَّها فُعْلى من الدُّنوِّ وألف التَّأنيث تمنعُ من الصَّرف وحكى تنوينهَا. قال ابن جنِّي: وهي لغةٌ نادرةٌ، والدُّنيا ما على الأرض مع الجوِّ / والهواء، أو كلُّ مخلوقٍ من الجواهر والأعراضِ الموجودة قبل الدَّار الآخرة، والمراد بها في الحديث: المال ونحوه (يُصِيبُهَا) جملةٌ من فعلٍ وفاعلٍ ومفعولٍ في موضع جرِّ(15) صفةٌ لـ «دنيا»، ومتى تقدَّمت النَّكرة على الظَّرف أو المجرورات أو الجمل كانت صفات، وإن تقدَّمت المعرفةُ كانت أحوالًا (أَوِ امْرَأَةٍ يَتَزَوَّجُهَا) وجواب الشَّرط قوله: (فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ).
          ووجه مطابقة الحديثِ للترجمة الَّتي هي لتركِ الحيل أنَّ مهاجر أمِّ قيسٍ جعل الهجرةَ حيلةً في تزوّج أمِّ قيسٍ.
          والحديث سبق مرارًا [خ¦1] [خ¦54] [خ¦2529].


[1] «أنه»: ليست في (د).
[2] «إن»: ليست في (ص).
[3] في (س) و(ص): «المحصور».
[4] في (ص): «قال».
[5] «فالمحصور المال»: ليست في (د).
[6] في غير (ل): «لا لغيره»، وهو تصحيف، اقتضى التنبيه عليه بهامش (ب) و(س).
[7] في (ع) و(ص) و(د): «يتعلق».
[8] في (س): «النية».
[9] في (د): «الفرد».
[10] في (ع) و(د): «لم يجمع».
[11] في (ص): «ذلك».
[12] في (د): «كان».
[13] «من مكة إلى المدينة»: ليست في (ص).
[14] «ونية»: ليست في (ع) و(ص).
[15] «جرّ»: ليست في (ع) و(ص).