عمدة القاري في شرح صحيح البخاري

باب قول الله تعالى: {والذين عاقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم}
  
              

          ░2▒ (ص) بَابُ قَوْلِ اللهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ عَاقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ}.
          [(ش) أي: هذا بابٌ في بيان معنى قول الله ╡ : {وَالَّذِينَ عَاقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ}[النساء:33]] وكأنَّه أشار بهذه الترجمة إلى أنَّ الكفالة التزام مالٍ بغير عوضٍ تطوُّعًا، فيلزم كما لزم استحقاق الميراث بالحَلف الذي عُقِد على وجه التطوُّع، وأَوَّل الآية: {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَاقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا}[النساء:33].
          قال ابن عَبَّاسٍ ومجاهدٌ وسعيدُ بن جُبَيرٍ وأبو صالحٍ وقتادة وزيد بن أسلم والسُّدِّيُّ والضَّحَّاك ومقاتل بن حياَّن: {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ} أي: ورثةً، وعن ابن عَبَّاسٍ في روايةِ: أي: عَصَبةً، وقال ابن جريرٍ: العرب تُسمِّي ابن العمِّ مولًى، وقال الزَّجَّاج: المولى كلُّ مَن يليك، وكلُّ مَن والاك في محبَّةٍ فهو مولًى لك.
          قُلْت: لفظ (المولى) مُشتَركٌ يُطلَق على معانٍ كثيرةٍ، ويُطلَق على المُنعِم والمُعتِق والمُعتَق والجار والناصر والصهر والربِّ والتابع، وزاد ابن الباقلانيِّ في «مناقب الأئِمَّة»: المكان والقرار، وأَمَّا بمعنى الولي فكثيرٌ، ولا يُعرَف في اللُّغة بمعنى الإمام.
          قوله: ({وَالَّذِينَ عَاقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ}) قال البُخَاريُّ في (التفسير) : {عَاقَدَتْ} هو مولى اليمين وهو الحَلِف، وذكر ابن أبي حاتمٍ عن سعيد بن المُسَيَِّبِ والحسن البَصْريِّ وجماعةٍ آخرين: أنَّهم الحلفاء، وقال عبد الرَّزَّاق: أنبأنا الثَّوْريُّ عن منصورٍ، عن مجاهدٍ في قوله: {وَالَّذِينَ عَاقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ} قال: كان هذا حلفًا في الجاهليَّة، قوله: {عَاقَدَتْ} مِنَ المعاقدة، (مفاعلةٌ) مِن عقد الحلف، وقرئ: {عَقَدَتْ} هو حَلف الجاهليَّة كانوا يتوارثون به، ونُسِخ بآية المواريث، وفي «تفسير عبد بن حُمَيدٍ» مِن حديث موسى بن عبيدة عن عبد الله بن عبيدة: العُقَد خمسةٌ: عقدة النكاح، وعقدة الشريك لا يخونه ولا يظلمه، وعقدة البيع، وعقدة العهد، قال الله ╡ : {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ}[المائدة:1]، وعقدة الحَلِف، قال الله ╡ : {وَالَّذِينَ عَاقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ} وفي «تفسير مقاتلٍ»: كان الرجل يرغب في الرجل فيحالفه ويعاقده على أن يكون معه، وله مِن ميراثه كبعض ولده، فلمَّا نزلت آية المواريث جاء رجلٌ إلى النَّبِيِّ صلعم فذكر له ذلك، فنزلت: {وَالَّذِينَ عَاقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ [فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} يعني: أعطوهم الذي سمَّيتم له مِن الميراث، وعن عِكْرِمَة: {وَالَّذِينَ عَاقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ}]... الآية، كان الرجلُ يحالف الرجلَ ليس بينهما نسبٌ، فيرث أحدُهما الآخرَ، فنسخ ذلك (الأنفال) : {وَأُولُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ}[الأنفال:75]، وفي رواية أحمد: أنَّها نزلت في أبي بكرٍ وابنه عبد الرَّحْمَن ☻ حين أبى الإسلام، فحلف أبو بكرٍ أن لا يورِّثه، فلمَّا أسلم أمره الله ╡ : أن يورِّثه نصيبه، وقال أبو جعفرٍ النَّحَّاس: الذي يجب أن يُحمَل عليه حديثُ ابن عَبَّاس المذكور في الباب أن يكون {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ} ناسخًا لما كانوا يفعلونه، وأن يكون {وَالَّذِينَ عَاقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ} غير ناسخٍ ولا منسوخٍ، وقال الحسن وقتادة: إِنَّها منسوخةٌ، ومثله يُروَى عن ابن عَبَّاسٍ، وممَّن قال: إِنَّها محكمةٌ مجاهدٌ وسعيدُ بن جُبَيرٍ، وبه قال أبو حنيفة: وقال: هذا الحكم باقٍ غير منسوخٍ، وجمع بين الآيتين بأن جعل أولي الأرحام أولى مِن أولياء المعاقدة، فإذا فُقِد ذوو الأرحام ورث المعاقدون، وكانوا أحقَّ به مِن بيت المال.
          قوله: {إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا} يعني: إنَّ الله شاهدٌ بينكم في تلك العهود والمعاقدات، ولا تُنشِئُوا بعد نزول هذه الآية معاقدةً.