عمدة القاري في شرح صحيح البخاري

باب في الحوالة، وهل يرجِع في الحوالة؟
  
              

          ░1▒ (ص) بَابٌ فِي الْحَوَالَةِ، وَهَلْ يَرْجِعُ فِي الْحَوَالَةِ؟
          (ش) أي: هذا بابٌ في حكم الحَوالة، وهل يرجع المُحيل في الحوالة أم لا؟ وإِنَّما لم يجزم بالحكم لأنَّ فيه خلافًا؛ وهو أنَّ الحوالة عقد لازمٌ [عند البعض، وجائزٌ عند آخرين، فمن قال: عقدٌ لازم] فلا يرجع فيها، ومن قال: عقد جائز؛ فله الرجوع.
          (ص) وقَالَ الحَسَنُ وقَتادَةُ: إذَا كانَ يَوْمَ أحَالَ عَلَيْهِ مَليًّا؛ جازَ.
          (ش) أي: إذا كان المحاَلُ عليه يومَ أحال المُحيل عليه _أي: على المحال عليه_ مَليًّا؛ يعني: غنيًّا، مِن مَلُؤ الرجلُ؛ إذا صار مليئًا، وهو مهموز اللَّام، وليس هو من معتلِّ اللَّام، وأصل (مَلِيًّا) (مليئًا) على وزن (فعيلٍ)، فكأنَّهم قلبوا الهمزة ياءً، وأدغموا الياء في الياء.
          قوله: (جَازَ) جواب (إِذَا) يعني: جاز هذا الفعل؛ وهو الحَوالة، ومفهومه: أنَّهُ إذا كان مفلسًا فله أن يرجع.
          وهذا التعليق وصله ابن أبي شَيْبَةَ والأثرم _واللَّفظ له_ من طريق سعيد بن أبي عَروبة عن قتادة والحسن: أنَّهما سُئلا عن رجلٍ احتال على رجل فأفلس، قالا: إذا كان مليًّا يوم احتال عليه فليس له أن يرجع، وجمهور العلماء على عدم الرجوع، وقال أبو حنيفة: يرجع صاحب الدَّين على المُحيل إذا مات المحالُ عليه مفلسًا، أو حُكِمَ بإفلاسه أو جحد الحَوالة، ولم يكن له بيِّنة، وبه قال شُريح وعثمان البَتِّيُّ والشَّعبيُّ والنَّخَعيُّ وأبو يوسف ومُحَمَّد وآخرون، وقال الحكم: لا يَرجع ما دام حيًّا حَتَّى يموت ولا يَترك شيئًا، فإنَّ الرجل يُوسِرُ مَرَّةً ويُعسِرُ أخرى، وقال الشَّافِعِيُّ وأحمد وأَبُو عُبَيد واللَّيث وأبو ثور: لا يرجع عليه وإن تَوِيَ، وسواءٌ غرَّه بالفلس أو طوَّل عليه أو أنكره، وقال مالكٌ: لا يرجع على الَّذي أحاله إلَّا أن يَغرَّه بفلسٍ.
          (ص) وقَالَ ابنُ عَبَّاسٍ: يَتَخَارَجُ الشَّرِيكَانِ وأهْلُ المِيرَاثِ، فيَأخُذُ هَذا عَيْنًا وهذا دَيْنًا، فإنْ تَوِيَ لأِحَدِهِما لَمْ يَرْجِعْ عَلى صاحِبِه.
          (ش) (يَتَخَارَجُ الشَّرِيكَانِ) أي: يُخرِج هذا الشريك مِمَّا وقع في نصيب صاحبه، وذلك الآخر كذلك، أرادَ أنَّ ذلك في القسمة بالتراضي بغير قرعة مع استواء الدَّين وإقرار مَن عليه وحضوره، فأخذ أحدهما عينًا والآخر الدَّين، ثُمَّ إذا تَويَ الدَّين _أي: إذا هلك_ لم تنقضِ القسمة؛ لأنَّه رضيَ بالدَّين عوضًا، فتَويَ في ضمانِه، فالبُخَاريُّ أدخل قسمة الديون والعين في الترجمة، وقاسَ الحَوالة عليه، وكذلك الحكم بينَ الورثة أشار إليه بقوله: (وَأَهْلُ الْمِيرَاثِ).
          قوله: (فإنْ تَوِيَ) بفتح التاء المُثَنَّاة من فوق وكسر الواو، على وزن (قَوِيَ)، مِن تَويَ المال يَتْوى، من (باب علِم يعلَم) إذا هلك، ويُقال: تَويَ حقُّ فلان على غريمه؛ إذا ذهب، تَوًى وتَواءً، والقصرُ أجود، فهو تَوٍ وتَاوٍ، ومنه: «لا تَوى على مال امرئٍ مسلمٍ»، وتفسيره في حديث عمر ☺ في المحتال عليه يموت مفلِسًا، قال: يعودُ الدَّين إلى ذمَّة المُحيل.