الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب بيع المكاتب إذا رضي

          ░4▒ (باب بَيْعِ الْمُكَاتَبِ) من إضافة المصدر إلى مفعولهِ؛ أي: باب صحَّة بيع السيدِ مكاتبه.
          (إِذَا رَضِيَ) بكسر الضاد المعجمة؛ أي: المكاتَبُ بِيعَ؛ لأنَّ رِضاه ببَيعِ نفسِهِ فسخٌ للكتَابة، وهي جائزةٌ من جهتِهِ، ولازمةٌ من جهةِ سيِّدِه، ووقعَ للحمَويِّ والمستَمليِّ على ما في القسطلانيِّ، وللسَّرخسيِّ والمستمليِّ على ما في ((الفتح)) و((العمدة)): <بيعُ المكاتَبة> والأولُ أصحُّ؛ لقوله: ((إذا رضي بالبيع)) بالتذكير، أشارَ إلى ذلك في ((الفتح)) و((العمدة)) ويمكنُ توجيهُه بأنَّ المعنى: إذا رضيَ؛ أي: الشَّخصُ مثلاً، وهو يصدُقُ بالمذكَّرِ والمؤنَّث، فافهم.
          قال في ((الفتح)): وهذا اختيارٌ من البُخاريِّ لأحدِ الأقوالِ في مسألةِ بيعِ المكاتَبِ إذا رضيَ بذلك، ولو لم يعجِّزْ نفسَه، وهو قولُ أحمدَ وربيعةَ والأَوزاعيِّ واللَّيثِ وأبي ثَورٍ، وأحدُ قولَي الشَّافعيِّ ومالكٍ، واختاره ابنُ جَريرٍ وابنُ المنذِرِ وغيرُهما على تفاصيلَ لهم في ذلك، ومنعَه أبو حنيفةَ والشافعيُّ في أصحِّ القولَين وبعضُ المالكيَّة، وأجابوا عن قصَّةِ بَريرةِ بأنها عجَّزَتْ نفسَها؛ لأنَّ بَريرةَ استعانَتْ عائشةَ في ذلك، وفيه أنَّ استعانتَها لا تستلزِمُ العجزَ ولا التَّعجيز، ولا سيَّما مع القولِ بجوازِ كتَابةِ / مَنْ لا مالَ عنده ولا حِرْفةَ له، انتهى.
          وقال العينيُّ: قال ابنُ عبدِ البرِّ في ((التمهيد)): قال مالكٌ: لا يجوزُ بيعُ المكاتَبِ إلا أنْ يعجِزَ عن الأداء، فإنْ لم يعجِزْ عنه فليس له ولا لسيدِه بيعُه، وقال ابنُ شهابٍ وأبو الزِّنادِ وربيعةُ: لا يجوزُ بيعُه إلا برضَاه، فإنَّ رضاه بالبيعِ عَجْزٌ منه.
          وقال النخعيُّ وعطاءٌ واللَّيثُ وأحمدُ وأبو ثورٍ: يجوزُ بيعُه على أن يمضِي في كتابتِه، فإن أدَّى عَتَقَ وكان ولاؤه للذي ابتاعَهُ، وإن عَجَزَ فهو عبدٌ، وقال أبو حنيفةَ وأصحابُه: لا يجوزُ بيعُ المكاتَبِ ما دام مكاتُباً حتى يعجِزَ، ولا يجوزُ بيعُ كتابتِه بحالٍ، وهو قولُ الشافعيِّ بمصرَ، وكان بالعراقِ يقول بجوازِ بيعِهِ، انتهى.
          (وَقَالَتْ عَائِشَةُ) أي: زوجُ رسول الله صلعم (هُوَ) أي: المكاتَبُ (عَبْدٌ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ شَيْءٌ) قال في ((الفتح)): أمَّا قولُ عائشةَ فوصلَهُ ابنُ أبي شيبةَ وابنُ سعدٍ عن سُليمانَ بنِ يَسارٍ، قال: استأذَنتُ على عائشةَ فعرَفَتْ صوتي، فقالت: سُليمانُ؟ فقلتُ: سليمانُ، فقالت: أدَّيتَ ما بقيَ عليك من كتابتِك؟ قلتُ: نعم، إلا شيئاً يسيراً، قالتْ: ادخُلْ؛ فإنَّكَ عبدٌ ما بقيَ عليك شيءٌ، وروى الطَّحَاويُّ عن سالمٍ مولى النَّضْريِّين أنه قال لعائشةَ: ما أراكِ إلا تستَحيِين منِّي، فقالت: ما لكَ؟ فقال: كاتبتُ، فقالت: إنك عبدٌ ما بقيَ عليك شيءٌ.
          وفي العَينيِّ: وصَلَه الطَّحَاويُّ عن سليمانَ بنِ يسارٍ قال: استأذنْتُ على عائشةَ فقالت: كم بقيَ عليك من كتابتِك؟ قلتُ: عشرُ أَواقٍ، قالت: ادخُلْ؛ فإنَّك عبدٌ ما بقيَ عليكَ شيءٌ، وفي رواية البَيهقيِّ: ما بقيَ عليكَ دِرهمٌ، قال: قلتُ: سليمانُ بنُ يَسارٍ؛ أبو أيوبَ الهِلاليُّ الهَمْدانيُّ، مولى ميمونةَ زوجِ النبيِّ صلعم، وقال ابنُ سَعدٍ: ويقال: إنَّ سليمانَ بنَ يَسارٍ نفسَه كان مُكاتَباً لأمِّ سلَمةَ ♦، وأما سالمٌ الذي في روايةِ الطَّحَاويِّ أيضاً فهو سالمُ بنُ عبدِ الله النَّصريُّ _بالنون والصاد المهملة_، أبو عبدِ الله المدَنيُّ، وهو سالمُ سَيْلانَ، روى عن جماعةٍ من الصحابة، منهم عائشةُ رضي الله تعالى عنها.
          (وَقَالَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ ☺: مَا بَقِيَ) بكسر القاف (عَلَيْهِ) أي: المكاتَبِ (دِرْهَمٌ) ((ما)) ظرفيةٌ مصدريةٌ، وصدرُ الأثر: ((المكاتَبُ عبدٌ)) فقد وصلَه _كما في ((الفتح))_ الشافعيُّ وسعيدُ بنُ منصورٍ عن مجاهدٍ أنَّ زيدَ بنَ ثابتٍ قال في المكاتَب: هو عبدٌ ما بقِيَ عليه دِرهمٌ.
          (وَقَالَ ابنُ عمرَ) أي: عبدُ الله بنُ عمرَ بنِ الخطَّابِ ☻ (هُوَ) أي: المكاتَبُ (عَبْدٌ إِنْ عَاشَ وَإِنْ مَاتَ وَإِنْ جَنَى) بفتح النون (مَا بَقِيَ عَلَيْهِ شَيْءٌ) قال في ((الفتح)): وصلَه مالكٌ عن نافعٍ أنَّ عبدَ الله بنَ عمرَ ☻ كان يقول في المكاتَب: هو عبدٌ ما بقيَ عليه شيءٌ، قال: ووصلَه ابنُ أبي شَيبةَ عن ابنِ عمرَ قال: المكاتَبُ عبدٌ ما بقيَ عليه درهمٌ، وقد رُويَ ذلك مرفوعاً، أخرجَه أبو داودَ والنَّسائيُّ من طريق عمرِو بنِ شُعيبٍ عن أبيه عن جدِّه، وصحَّحَه الحاكم، وأخرجَه ابنُ حبَّانَ من وجهٍ آخرَ عن ابنِ عمرَ، وفي أثناءِ حديثٍ، وهو قولُ الجمهور، ويؤيدُه قصَّةُ بَريرةَ، لكن إنَّما تتِمُّ الدلالةُ منه لو كانت بَريرةُ أدَّتْ من كتابتِهَا شيئاً، فقد قرَّرْنا أنها لم تكُنْ أدَّتْ منها شيئاً، وكان فيه خلافٌ عن السَّلف، فعن عليٍّ: إذا أدَّى الشَّطرَ فهو غَريمٌ، وعنه: يَعتِقُ منه بقَدْرِ ما أدى، وعن ابن مسعودٍ: لو كاتَبَه على مائتَين، وقيمتُه مِائةٌ، فأدَّى المائةَ عَتَقَ، وعن عَطاءٍ: إذا أدَّى ثلاثةَ أرباعِ كتابتِه عَتَقَ، وروى النَّسائيُّ عن ابنِ عبَّاسٍ مرفوعاً: ((المكاتَبُ يَعتِقُ منه بقَدْرِ ما أدَّى)) ورجالُ إسنادِه ثِقاتٌ، لكن اختُلفَ في إرسالِهِ ووصلِهِ، وحُجَّةُ الجمهورِ حديثُ عائشةَ، وهو أقوى، ووجهُ الدَّلالةُ منه أنَّ بَريرةَ بيعَتْ بعد أن كاتبَتْ، ولو كان المكاتَبُ يصيرُ بنفسِ الكتابةِ حرًّا لامتنَعَ بيعُها، انتهى.
          وقال العَينيُّ: ذَكرَ في أثرِ / ابنِ عمرَ ثلاثةُ أشياءٍ؛ حياةُ المكاتَبِ وموتُه وجِنايتُه، أما في حياتِهِ فإنه عبدٌ ما بقيَ عليه شيءٌ من مالِ الكتابة، ولا يعتِقُ إلا بأداءِ كلِّ البدلِ عند جمهورِ العلماء، إلا عند ابنِ عبَّاسٍ فإنه يعتِقُ بنفسِ العقد، وهو غَريمُ المولى بما عليه من بدَلِ الكتابة، وعند عليٍّ رضي الله تعالى عنه: يَعتِقُ بقَدْرِ ما أدَّى، وبه قالتِ الظَّاهريةُ، ويَعتِقُ بأدائه جميعَ بدَلِ الكتابةِ عندنا وإن لم يقُلِ المولى: إذا أدَّيتَها فأنتَ حرٌّ، وبه قال مالكٌ وأحمدُ، وقال الشافعيُّ: لا يَعتِقُ ما لم يقُلْ: كاتبتُكَ على كذا إن أدَّيتَه فهو حرٌّ.
          وأما في موتِه؛ فإنه إذا مات وله مالٌ لم تنفسِخِ الكتابةُ، وقُضيَ ما عليه من بدَلِ الكتابة، وحُكمَ بعَتقِه في آخرِ جزءٍ من أجزاءِ حياتِه، وما بقي من ذلك فهو لورَثتِه، ويَعتِقُ أولادُه المَولودونَ في الكتابة، وكذا المشتَرَون فيها، وهذا عندنا، وهو قول عليٍّ وابنِ مسعودٍ والحسَنِ وابنِ سِيرينَ والنَّخَعيِّ والشَّعبيِّ وعمرِو بنِ دينارٍ والثَّوريِّ، وقال الشافعيُّ: تبطُلُ الكتابةُ ويموتُ المكاتَبُ عبداً، وما ترَكَ لمَولاه، وبه قال أحمدُ، وهو قولُ قتادةَ وابنِ سليمانَ، وإذا ماتَ المَولى لا تبطُلُ الكتابةُ، ويقالُ للمكاتَبِ: أدِّ المالَ إلى ورَثةِ المولى على نجومِه.
          وأما في جنايتِهِ؛ فإنَّ المَولى يدفَعُ قيمةً واحدةً، ولا يُزادُ عليها وإن تكرَّرتِ الجنايةُ، وكذا في أمِّ الولدِ والمدبَّرِ، بخلافِ القِنِّ، فإنَّ الدَّفعَ يتكرَّرُ بتكرُّرِ الجنايةِ.