الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

معلق الليث: اشتريها فأعتقيها فإنما الولاء لمن أعتق

          2560- (وَقَالَ اللَّيْثُ) أي: ابنُ سعدٍ ممَّا وصله الذُّهليُّ في ((الزُّهريَّات)) عن أبي صالحٍ، كاتِبِ الليثِ، عن اللَّيثِ، قال: (حَدَّثَنِي) بالإفراد (يُونُسُ) أي: ابنُ يزيدَ الأيليُّ (عَنِ ابْنِ شِهَابٍ) أي: الزُّهريِّ. لكن قال في ((الفتح)): المحفوظُ روايةُ اللَّيثِ له عن ابنِ شهابٍ بغيرِ واسطةٍ، فيونُسُ رفيقُ اللَّيثِ في الروايةِ عن ابنِ شهابٍ، لا شيخُه، كما أخرجه مسلمٌ والنسائيُّ وغيرُهما.
          (قَالَ عُرْوَةُ) أي: ابنُ الزُّبير (قَالَتْ عَائِشَةُ) أي: خالتُه، بنتُ أبي بكرٍ ☻ (إِنَّ) بكسر الهمزة (بَرِيرَةَ) بفتح الموحدة وكسر الراء الأولى مخفَّفةً، وقد كانت تخدُمُ عائشةَ قبلَ أن تشتريَها، وجملةُ: (دَخَلَتْ عَلَيْهَا) أي: على عائشةَ، خبرُ ((إنَّ)) (تَسْتَعِينُهَا فِي كِتَابَتِهَا) أي: في مالِها.
          وجملةُ: (وَعَلَيْهَا خَمْسَةُ أَوَاقٍ) و((أَوَاق)) بفتح الهمزة بغير مدٍّ، حاليةٌ كجُملةِ: ((تستعينُها)) ولأبي ذرٍّ: <خمسُ أَواقي> بحذف تاء: ((خمس)) وإثباتِ ياءِ ((أَواقِ)) على لغةٍ قليلةٍ، و((أواقي)) بفتح الهمزة من غير مدٍّ، وتشديد التحتية وتخفيفها؛ وهي جمعُ: أوقيَّةٍ _بضم الهمزة وتشديد التحتية_.
          قال في ((القاموس)): هي سبعُ مَثاقيلَ، كالوُقيَّةِ _بضم الواو_ وأربعونُ دِرهماً، انتهى.
          وزاد في ((المصباح)) أنَّه جرى على ألسِنةِ الناسِ _بالفتح_ وهي لغةٌ حَكاها بعضُهم، وجمعُها: وَقايا، مثلُ عَطيَّةٍ وعَطايا، انتهى.
          وجملةُ: (نُجِّمَتْ) بتشديد الجيم، مبنيٌّ للمفعول، صفةُ ((أَواقٍ)) أي: وُزِّعَتْ وفُرِّقَتْ (عَلَيْهَا فِي خَمْسِ سِنِينَ) أي: غايةُ دفعِها فيها.
          قال في ((الفتح)): والمشهورُ ما في روايةِ هشَامِ بنِ عروةَ الآتيةِ أنَّها كانت على تسعِ أَوَاقٍ، في كلِّ عام أُوقِيَّةٌ، وكذا في روايةِ ابنِ وهبٍ عند مسلمٍ، ومن ثَمَّ جزَمَ الإسماعيليُّ بأنَّ الرِّوايةَ المعلَّقةَ غلَطٌ.
          ويمكنُ الجمعُ بأنَّ التِّسعَ أصلٌ، والخمسَ كانتِ الباقيةَ عليها، وبهذا جزمَ القرطبيُّ والمحِبُّ الطَّبريّ، ويعكِّرُ على هذا قولُه في روايةِ قُتيبةَ: ((ولم تكُنْ أدَّتْ من كتابتِهَا شيئاً)) ويُجابُ بأنَّها كانت حصَّلَتِ الأربعَ أَواقٍ قبل أن تستعينَ عائشةَ، ثم جاءَتْها وقد بقيَ عليها خمسُ أَواقٍ.
          وقال القُرطبيُّ: يُجابُ بأنَّ الخُمُسَ هي التي كانت استحقَّتْ عليها بحلولِ نجومِها من جُملةِ التِّسعِ أَواقٍ المذكورةِ في حديثِ هشامٍ، ويؤيِّدُه قولُه في روايةِ عَمْرةَ عن عائشةَ الماضيةِ في أبواب المسَاجد: ((فقال أهلُها: إنْ شئتِ أعطَيتِ ما يبقى)) وذكر الإسماعيليُّ أنه رأى في الأصلِ المسموعِ على الفِرَبريِّ في هذه الطريق: أنَّها كاتَبَتْه على خمسِ أوساقٍ، / وقال: إنْ كان مضبوطاً فهو يدفعُ سائرَ الأخبارِ.
          وردَّه في ((الفتح)) فقال: لم يقَعْ في شيءٍ من النُّسَخ المعتمَدةِ التي وقفتُ عليها إلا الأواقِي، وكذا في نسخةِ النَّسفيِّ عن البخاريِّ، ويُمكِنُ الجمعُ على تقدير صحَّتِه بأنَّ قيمةَ الأَوساقِ الخَمسةِ تسعُ أَواقٍ، لكنْ يعكِّرُ عليه قولُه: ((في خمسِ سنينَ)) فيتعيَّنُ المصيرُ إلى الجمعِ الأول، انتهى.
          (فَقَالَتْ لَهَا) أي: لبَريرةَ (عَائِشَةُ) ♦، وجملةُ: (وَنَفِسَتْ فِيهَا) حاليةٌ، أو معترِضةٌ بين القولِ ومَقولِه، و((نَفِسَتْ)) بفتح النون وكسر الفاء، بمعنى: رَغِبَتْ.
          قال في ((المصباح)): نَفِسْتُ به مثلُ ضنَنْتُ به لنَفاستِه، وزناً ومعنًى، انتهى.
          وقال في ((القاموس)): نَفِسَ به _كفرح_ ضَنَّ، وعليه بخَيرٍ: حَسَدَ، وعليه الشيءَ نَفاسةً: لم يرَه أهلاً له.
          وقال العَينيُّ: نَفِسْتُ _بكسر الفاء_؛ أي: رَغِبتُ، ومنه: {فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} وإذا قيل: نَفِسْتُ به يكونُ معناه: بَخِلتُ، ونَفِسْتُ عليه الشَّيءَ نَفاسةً إذا لم ترَه له أهلاً، ونَفِسَتِ المرأةُ تَنفَسُ _من باب عَلِمَ يعلَمُ_ إذا حاضَتْ.
          (أَرَأَيْتِ) بكسر التاء؛ أي: أخبريني (إِنْ) بكسر الهمزة، شرطيةٌ (عَدَدْتُ) بتخفيف الدال الأولى؛ أي: دفعتُ الخمسةَ أَواقٍ (لَهُمْ) أي: لأهلِكَ (عَدَّةً) بفتح العين المهملة وتشديد الدال؛ أي: مرَّةً (وَاحِدَةً) وللطَّحَاويِّ من طريقِ عَمْرةَ عن عائشةَ: ((إنْ أحبَّ أهلُكِ أن أصُبَ لهم ثمنَكِ صبَّةً واحدةً وآخُذَك)) (أَيَبِيعُكِ أَهْلُكِ) بكسر الكاف؛ أي: لي بفَسخِ الكتابة (فَأُعْتِقَكِ) بضم الهمزة ونصبِه بأن مضمرةٍ وجوباً بعد فاءِ السببية لتقدُّمِ الاستفهام.
          (فَيَكُونَ) بالنصبِ عطفاً على ((أُعتِقَك))، وفي بعض الأصُول: برفعِه على الاستئناف (وَلاَؤُكِ) بفتح الواو والمد والرفع، اسمُ ((يكونَ)) (لِي) خبرُها (فَذَهَبَتْ) بفتح الهاء؛ أي: فراحَتْ (بَرِيرَةُ إِلَى أَهْلِهَا) أي: مالكيها (فَعَرَضَتْ) بفتح الراء مخفَّفةً (ذَلِكَ) أي: القولَ الذي قالته عائشةُ لها (عَلَيْهِمْ، فَقَالُوا: لاَ) أي: لا نبيعُكِ لها على حالةٍ من الأحوال (إِلاَّ أَنْ يَكُونَ الْوَلاَءُ) بفتح الواو والمد (لَنَا) وفي كثيرٍ من النُّسَخ: تقديمُ: ((لنا)) على ((الولاء)).
          (فقَالَتْ عَائِشَةُ) ♦ (فَدَخَلْتُ) بضم التاء (عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلعم) أي: لمنزِلِه (فَذَكَرْتُ ذَلِكَ) أي: الذي قالوه جواباً لقولي (لَهُ) أي: لرسول الله (فَقَالَ لَهَا) أي: لعائشةَ (رَسُولُ اللَّهِ صلعم) وفيه التفاتٌ من التكلُّمِ إلى الغَيبةِ (اشْتَرِيهَا) بهمزة الوصل مكسورةً (فَأَعْتِقِيهَا) بفتح الهمزة للقطع (فَإِنَّمَا الْوَلاَءُ لِمَنْ أَعْتَقَ) أي: للمالكِ الذي أَعتَقَ لا لغيرِه، وإنْ شرَطَ أن يكونَ له.
          (ثُمَّ قَامَ) أي: ليخطُبَ (رَسُولُ اللَّهِ صلعم) زاد في الشروط: ((في الناس، فحَمِدَ الله تعالى وأثنى عليه)) الظاهرُ أنه أرادَ بـ ((قام)) ضدَّ: قعد، فيكونُ فيه دليلاً لكَونِ الخُطبةِ من قيامٍ، ويحتمِلُ أنه أرادَ بـ((قام)) إيجادَ الفعلِ، كقولِهم: قام بوظيفتِه، والمرادُ: قام بأمر الخُطبةِ.
          (فَقَالَ) أي: بعد الحمدِ والثناءِ على الله كما مرَّ (مَا بَالُ) بالباء الموحدة؛ أي: ما حالُ وشأنُ (رِجَالٍ يَشْتَرِطُونَ شُرُوطاً لَيْسَتْ فِي كِتَابِ اللَّهِ) أي: في حُكمِهِ الذي شرَعَه لعبادِهِ، فكتبَه عليهم، أو في القرآن (مَنِ اشْتَرَطَ) بفتح الفوقية (شَرْطاً لَيْسَ / فِي كِتَابِ اللَّهِ) أي: لا نَصًّا ولا استنباطاً (فَهْوَ) أي: الشرطُ المذكورُ (بَاطِلٌ) أي: مردودٌ (وشَرْطُ اللَّهِ) أي: الذي شرطَه في كتابِهِ ولو استنباطاً (أَحَقُّ) أي: هو الحقُّ، وفي بعضِ الروايات: <كتابُ الله أحقُّ> (وَأَوْثَقُ) بفتح المثلثة وبالقاف؛ أي: وهو الموثوقُ به والقويُّ، وما سواهُ باطلٌ وضعيفٌ لا يُعتَدُّ به، ففي ((المصباح)): وَثُقَ الشيءُ _بالضم_ وَثاقةً؛ قَوِيَ وثبَتَ، فهو وَثيقٌ ثابتٌ مُحكَمٌ، وأوثَقْتُه؛ جَعلتُه وَثيقاً، ووثِقتُ به أَثِقُ _بكسر المثلثة فيهما_ ثقةً ووُثوقاً؛ ائتمنتُه، وثِقةٌ يستوي فيه المذكَّرُ والمؤنَّثُ وفروعُهما؛ لأنَّه مصدرٌ، وقد يُجمَعُ، انتهى.
          تنبيه: قال الداوديُّ: ((شرطُ الله)) هنا، أراهُ _والله أعلمُ_ قولَه تعالى: {فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ} [الأحزاب:5] وقولَه تعالى: {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ} [الأحزاب:37].
          وقال في مَوضِعٍ آخرَ: هو قوله: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [البقرة:188] وقولُه: {وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} [الحشر:7] الآية.
          وقال القاضي عِياضٌ: وعندي أنَّ الأظهرَ هو ما أَعلَمَ به صلعم من قوله: ((إنما الولاءُ لمَنْ أعتَقَ)) و((مَولى القومِ منهم)) و((الوَلاءُ لُحْمةٌ كالنَّسبِ)) وفي هذا الحديثِ فوائدُ كثيرةٌ تزيدُ على ثلاثِمائةٍ، وتكلَّمَ العلماءُ عليه كثيراً، وقد رُويَ بوجوهٍ مختلفةٍ، حتى أنَّ محمدَ بنَ جريرٍ صنَّفَ في فوائدِه مجلَّداً، وتقدَّمَ كثيرٌ منها في كتابِ الصَّلاة والزكاةِ والبيع وغيرِهِ، وفي باب استعانةِ المكاتَبِ قريباً ذِكرُ كثيرٍ من فوائدِهِ، ومن فوائدِهِ ما احتَجَّ به قومٌ على فسَادِ البيعِ بالشَّرط، وبه قال أبو حنيفةَ والشَّافعيُّ، وذهبَ قومٌ إلى أن البيعَ صحيحٌ، والشرطَ باطلٌ.