الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب صلاة الطالب والمطلوب راكبًا وإيماءً

          ░5▒ (بَابُ صَلَاةِ الطَّالِبِ وَالْمَطْلُوبِ، رَاكِباً وَإِيمَاءً) وللكُشميهني: <إيماءً> بلا عطف، ولأبوي ذرٍّ والوقت عن الحموي: <وقائماً> بالقاف والواو، وفي رواية: بأو.
          قال ابنُ المنذر: اتَّفق أهل العلم على أنَّ المطلوب يصلِّي على دابته يومئُ إيماءً، وإن كان طالباً نزلَ فصلى بالأرض، قال الشَّافعيُّ: إلا أن ينقطعَ عن أصحابه فيخافُ عود المطلوب عليه فيجزئُهُ ذلك، فالمطلوب يصلِّي بلا تفصيلٍ بخلاف الطَّالب، ووجه الفرقِ: أن شدَّةَ الخوف في المطلوب ظاهرةٌ / لتحقُّق السَّبب المقتضي لها بخلاف الطَّالب لا يخاف استيلاء العدوِّ عليه، بل يخافُ فوتَ مطلوبه.
          واعترضَ في ((الفتح)) قول ابنِ المنذر بكلام الأوزاعيِّ، فإنه قيَّده بخوفِ الفوت، ولم يستثن طالباً من مطلوبٍ، وبه قال ابن حبيبٍ، انتهى.
          واختلفوا في الطالب، فمنعه الشَّافعيُّ وأحمد، وقال مالكٌ: يصلِّي راكباً حيث توجَّه إذا خافَ فوت العدوِّ لو نزلَ واختلف متأخِّروا الشَّافعيَّة فيمن أخذ له مالٌ وهو في الصلاة، فهل يجوزُ له أن يبقى في صلاته ويصلِّيها كذلك؟ استوجهَ ابن حجر في ((التحفة)) عدم جواز ذلك، واعتمد الشِّهاب الرَّمليُّ جواز ذلك قال: وعليه فلا يضرُّ وطؤه نجاسةً كحامل سلاحه الملطَّخ بالدَّم للحاجة، ويلزمه فعلها ثانياً على المعتمد، انتهى.
          (وَقَالَ الْوَلِيدُ) مكبَّراً؛ أي: ابن مسلمٍ القرشيِّ، وهو من أصحاب الأوزاعيِّ (ذَكَرْتُ لِلأَوْزَاعِيِّ) أي: عبد الرحمن بن عمرٍو (صَلَاةَ شُرَحْبِيْلَ) بضم الشين المعجمة وفتح الراء وسكون الحاء المهملة وكسر الموحدة فتحتية ساكنة فلام، كنديٌّ تابعيٌّ.
          وقال صاحبُ ((جامع الأصول)): أدرك النَّبيَّ صلعم.
          قال في ((الفتح)): وهو الذي افتتحَ حمصَ، ثمَّ وليَ إمرتها، وقد اختُلِفَ في صُحبته، وليس له في البخاريِّ غير هذا الموضعِ.
          (ابْنِ السِّمْطِ) بكسر السين المهملة وسكون الميم وبالطاء المهملة، كذا في فرع ((اليونينية))، وضبطه ابن الأثير، والغساني بوزن: كَتِف (وَأَصْحَابِهِ) أي: وصلاة أصحاب شُرحبيل (عَلَى ظَهْرِ الدَّابَّةِ) أي: بالإيماءِ.
          (فَقَالَ) أي: الأوزاعيُّ ولابن عساكر: بحذف الفاء (كَذَلِكَ الأَمْرُ) أي: أداء الصَّلاة على ظهر الدَّابَّة بالإيماءِ هو الحكم (عِنْدَنَا إِذَا تَخَوَّفَ) بفتح الواو مشددة؛ أي: خاف الرَّجل (الْفَوْتُ) أي: <في الوقت> كما زاده المستملي، بفتح الفاء وسكون الواو مفعول: ((تخوف))، وضبط ((تُخُوِّفَ)) في الفرع _كأصله_ بالبناء للمفعول، فالفوت نائب فاعله.
          وقال الكرمانيُّ: أي: إذا تخوَّف فوتَ الوقت، أو فواتَ العدوِّ، أو فوات النَّفس.
          تنبيه: قال في ((الفتح)): قوله: ((وقال الوليد... إلخ)) كذا ذكره في كتاب ((السير))، ورواه الطَّبريُّ، وابن عبد البرِّ من وجهٍ آخر عن الأوزاعيِّ، قال: قال شرحبيل بن السِّمط لأصحابه: لا تصلُّوا الصُّبح إلَّا على ظهر الدَّابَّة، فنزلَ الأشترُ _يعني: النَّخعيُّ_ فصلَّى على الأرضِ، فقال شُرحبِيلُ: مخالفٌ خالفَ الله به، وأخرجهُ ابن أبي شيبة من طريق رجاء بن حيوةَ قال: كان ثابت بن السِّمط في خوفٍ، فحضرت الصَّلاة فصلُّوا ركباناً، فنزل الأشترُ فقال: خالف خولِفَ به، فلعلَّ ثابتاً كان مع أخيه شُرحبِيل في ذلك الوجه.
          (وَاحْتَجَّ الْوَلِيدُ) أي: لمذهبِ الأوزاعيِّ في مسألة الطَّالب (بِقَوْلِ النَّبِيِّ صلعم) أي: الآتي موصولاً في هذا الباب (لَا يُصَلِّيَنَّ) بنون التوكيد (أَحَدٌ الْعَصْرَ إِلَّا فِي بَنِي قُرَيْظَةَ) بالظاء المشالة مصغَّراً، سبطٌ من اليهود، وجهُ الدليل منه: أنَّه عليه الصلاة والسلام لم يعنِّفْ على تأخيرها عن وقتها، ولا على صلاتها ركباناً.
          ورد: بأنه لم يثبت صريحاً في شيءٍ من الطُّرق أنَّهم صلُّوا ركباناً، ومن ثمَّ قال ابن بطَّالٍ: لو وُجِد في بعض طُرقِ الحديث أنَّ الذين صلُّوا في الطريق صَلُّوا ركباناً، لكان بيِّناً في الاستدلالِ؛ لكن وجهه بالقياس، فكمَا ساغَ لأولئك أن يؤخِّروا الصَّلاة عن وقتها، كذلك يسوغُ للطَّالبِ ترك إتمام الأركان بالاكتفاءِ بالإيماء.
          ووافقه الزَّين ابن المنيِّر فقال: وجهُ الاستدلال منه بطريق الأولويَّة؛ لأنَّ الذين أخَّروا الصَّلاة حتى وصلوا لبني قريظة، لم يعنَّفوا مع كونهم فوَّتوا الوقت، فصلاةُ من لا يفوِّت الوقت / بالإيماء، أو كيف ما يمكنُ أولى من تأخيرها حتى يخرج وقتها.
          وقال ابنُ المنيِّر: والأبينُ عندي: أنَّ وجه الاستدلال من جهة أنَّ الاستعجالَ المأمور به يقتضِي ترك الصَّلاة أصلاً، كما جرى لبعضهم، أو الصَّلاة على الدَّوابِّ، كما وقع للآخرين؛ لأنَّ النُّزولَ يُنافي المقصُودَ من الجدِّ في الوصُول، وقد روى أبو داود في صلاة الطَّالب حديث عبد الله بن أنيسٍ بسندٍ حسنٍ، إذ بعثه النَّبيُّ صلعم إلى سفيان الهذلي قال: فرأيتُه، وقد حضرت العصرُ فخشيتُ فوتها، فانطلقْتُ أمشِي، وأنا أصلِّي أومئُ إيماءً، انتهى.
          وقال ابنُ رجبٍ: ومما يتفرَّعُ على جوازِ صلاة الطَّالب صلاة شدَّة الخوف أن من كان ليلة النحر قاصداً لعرفة، وخشيَ أن تفوتَه عرفة قبل طلوعِ الفجر، فإنَّه يصلي صلاة شدة الخوف، وهو ذاهبٌ إلى عرفة، وهو أحدُ الوجهين لأصحابنا، ولأصحابِ الشَّافعي أيضاً، وضعَّفه بعضُ أصحابهم: بأنه ليس بخائفٍ، بل طالب، والصَّحيح: أنا إن قلنا تجوزُ صلاة الطالب جازت صلاتُهُ، وإلا فلا تجوزُ، أو يكون فيه وجهان، وهل يجوز تأخير العشاء إلى ما بعد طلوعِ الفجر؟ فيه أيضاً وجهان للشَّافعيَّةِ ولأصحابنا، انتهى.