الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب الصلاة عند مناهضة الحصون ولقاء العدو

          ░4▒ (بَابُ الصَّلَاةِ عِنْدَ مُنَاهَضَةِ الْحُصُونِ) أي: إمكان فتحها، وغلبة الظَّنِّ به، يقال: ناهضتُهُ: إذا قاومته، وتناهَضَ القومُ في الحرب: نهض كلُّ فريقٍ إلى صاحبهِ (وَلِقَاءِ الْعَدُوِّ) من عطف الأعمِّ على الأخصِّ، فهو معطوفٌ على ((مناهضة)).
          وقال الزَّين ابن المنيِّر: كأنَّ المصنِّف خصَّ هذه الصُّورة لاجتماع الرجاء والخوف في تلك الحالة، فإنَّ الخوف يقتضِي مشروعيَّة صلاة الخوف، والرَّجاء بحصولِ الظَّفَر، يقتَضِي اغتفار التَّأخير لأجل استكمالِ مصلحَةِ الفتحِ، فلهذا خالفَ الحكمُ في هذه الصُّورة الحكمَ في غيرها عند من قال به، انتهى.
          (وَقَالَ الأَوْزَاعِيُّ) مما ذكره الوليدُ بن مسلمٍ في كتاب ((السير)) (إِنْ كَانَ تَهَيَّأَ الْفَتْحُ) بالهمز؛ أي اتَّفق، وللقابسي: <إن كان بها> بالموحدة والضمير.
          قال في ((الفتح)): وهو تصحيفٌ.
          وجملة: (وَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَى الصَّلَاةِ) حال؛ أي: لم يمكنهم إتمامها (صَلَّوْا) بفتح اللام (إِيمَاءً) أي: مومئين (كُلُّ امْرِئٍ) أي: إنسانٍ (لِنَفْسِهِ) أي: منفردٍ، و((كل)) بدل من فاعل: ((صلوا)) (فَإِنْ لَمْ يَقْدِرُوا عَلَى الإِيمَاءِ) أي: لشدَّة الدَّهشةِ، واشتغال القلب والجوارح، فإنَّ الحربَ إذا بلغ الغاية في الشِّدَّة، تعذَّر الإيماء على المقاتل، فلا يرد ما قيل: لا يتعذَّرُ الإيماء متى كان العقل.
          وأجاب ابن بطَّال: بأنه يتعذَّرُ بالعجِز عن الوضوء أو التَّيمُّم للاشتغال بالقتال مثلاً.
          وقال في ((الفتح)): ويحتملُ أنَّ الأوزاعي كان يرى استقبال القبلة شرطاً في الإيماء، فيتصوَّر العجز عنه.
          (أَخَّرُوا الصَّلَاةَ) جواب ((إن)) (حَتَّى يَنْكَشِفَ الْقِتَالُ) غاية للتَّأخير (أَوْ يَأْمَنُوا، فَيُصَلُّوا رَكْعَتَيْنِ) عطف ((يأمنوا)) على سابقه لعدم إغنائِهِ عنه، إذ لا يلزمُ من انكشافِ القتال الأمن لخوفِ المعَاودة مثلاً، ولا من الأمنِ الانكشاف لحصُول الأمنِ مع زيادة القوَّة، واتِّصالِ المدد مثلاً، قاله الكرمانيُّ.
          (فَإِنْ لَمْ يَقْدِرُوا) أي: على صلاةِ ركعتين بالفعل أو بالإيماء (صَلَّوْا رَكْعَةً وَسَجْدَتَيْنِ فَإِنْ لَمْ يَقْدِرُوا) أي: على ما ذكر، وسقط: <فإن لم يقدروا> لغير / الأربعة (لَا يُجْزِئُهُمُ) ولأبي ذرٍّ: <فلا يجزئهم> (التَّكْبِيرُ) أي: خلافاً لمن أجازهُ كالثَّوري إذا التقى الصَّفَّان بلا إعادةٍ، وروى ابنُ أبي شيبة عن عطاءٍ وسعيد بن جبير وأبي البختري في آخرين قالوا: إذا التقى الزَّحفان، وحضرتِ الصَّلاةُ فقالوا: سبحان الله، والحمدُ لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، فتلك صلاتهم بلا إعادةٍ.
          (وَيُؤَخِّرُونَها) وسقط الواو أولاً لأبي ذرٍّ (حَتَّى يَأْمَنُوا) واستدلَّ على ذلك_كما قال ابن بطال_ بكونه عليه الصلاة والسلام أخَّرها في الخندق حتى صلَّاها كاملةً، وهذه الحالة أشدُّ، فهي أحرى.
          وأجيب: بأن صلاة الخوف إنما شُرِعت بعد الخندق.
          (وَبِهِ) أي: بقول الأوزاعيِّ (قَالَ مَكْحُولٌ) بفتح الميم؛ أي: الدِّمشقيُّ، وهو فقيه الشَّام أبو عبد الله الكابلي من سبي كابلٍ، فرُفِع لسعيد بن العاصي فوُهِب لامرأةٍ من هذيل فأعتقتْه.
          قال الكرمانيُّ: مات سنة ثمانية عشر ومائة، وقال ابن سعدٍ: سنة ست عشرة ومائة.
          وهذا _كما قال الكرمانيُّ_ يحتمل أنَّه من تتمَّةِ كلام الأوزاعيِّ، ويحتمل أنَّه تعليقٌ من البخاري.
          وظاهرُ قول ابنِ حجر في ((فتح الباري)) يقتضي أنه تعليقٌ، فإنَّه قال: وصله عبد بن حميدٍ في ((تفسيره)) من غير طريقِ الأوزاعي بلفظ: إذا لم يقدر القومُ على أن يصلُّوا على الأرض صلُّوا على ظهر الدَّوابِّ ركعتين، فإن لم يقدروا فركعةً وسجدتين، فإن لم يقدروا أخَّروا الصَّلاة حتى يأمنوا فيصلُّوا بالأرض.
          (وَقَالَ أَنَسٌ) ولأبي ذرٍّ زيادة: <ابن مالك ☺> (حَضَرْتُ) بتاء المتكلم (عِنْدَ مُنَاهَضَةِ) وسقط لابن عساكر: <عند> (حِصْنِ) بكسر الحاء (تُسْتَرَ) بضم المثناة الأولى وفتح الثانية بينهما سين مهملة ساكنة وآخره راء، مدينةٌ مشهورةٌ من بلاد الأهواز بخورستان.
          قال الكرمانيُّ: وبها قبرُ البراء بن مالكٍ أخي أنسِ بن مالك، ويقول لها النَّاس الآن: ششتر _بشينين معجمتين ففوقية_ وكان فتحُهَا سنة عشرين في خلافةِ عمر، وسيأتي في الجهاد.
          (عِنْدَ إِضَاءَةِ) بكسر الهمزة والمد (الْفَجْرِ واشْتَدَّ اشْتِعَالُ الْقِتَالِ) لا يخفَى ما فيه من الاستعارة بالكنَاية حيث شبَّه القتال بالنَّار، وأثبتَ له اشتداد الاشتعالِ، بالعين المهملة (فَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَى الصَّلَاةِ) أي: لعجزهم عن النُّزولِ، أو عن الإيماء، فيوافقُ ما مرَّ عن الأوزاعي، أو لأنَّهم لم يجدوا إلى الوضوء سبيلاً لشدَّة القتال، وبهذا جزم الأصيليُّ.
          (فَلَمْ نُصَلِّ إِلَّا بَعْدَ ارْتِفَاعِ النَّهَارِ) ولعمر بن شبَّة: ((حتى انتصفَ النَّهارُ)) (فَصَلَّيْنَاهَا وَنَحْنُ مَعَ أَبِي مُوسَى) أي: الأشعريِّ ☺ (فَفُتِحَ) بالبناء للمفعول؛ أي: الحصنُ (لَنَا).
          وتعليقُ أنسٍ وصله ابن سعدٍ وابن أبي شيبة وخليفة في ((تاريخه))، وعمر بن شبَّة في ((أخبار البصرة)) من وجهين آخرين، ولفظ عمر: سئل قتادةُ عن الصَّلاة إذا حضر القتال فقال: حدَّثني أنس بن مالكٍ أنهم كانوا حين فتحوا تستر، وهو يومئذٍ على مقدمة النَّاس، وأبو موسى أميرُهم.
          (وَقَالَ أَنَسٌ) وللأصيلي: بالفاء، ولأبوي ذرٍّ والوقت وابن عساكر: <قال أنس> أي: ابن مالكٍ / (وَمَا يَسُرُّنِي) بضم السين (بِتِلْكَ الصَّلَاةِ) أي: بدلها، كقوله:
فَلَيْتَ لِيْ بِهِمُ قَوْمٌ إِذَا رَكِبُوا
          وللكُشميهني: <من تلك الصَّلاة> (الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا) ولخليفة: ((الدنيا كلها)).
          قال في ((الفتح)): والذي يتبادرُ إلى الذِّهن من هذا أنَّ مراده الاغتباط بما وقع، فالمراد بالصَّلاة على هذا هي المقضية التي وقعَتْ، ووجهُ اغتباطه: كونهم لم يشتغلوا عن العبادة إلَّا بعبادةٍ أهمَّ منها عندهم، ثم تداركوا ما فاتهم منها فقضوهُ، وهو كقول أبي بكرٍ الصِّدِّيق: لو طلعْتَ لم تجدْنا غافلين، وقيل: مرادُ أنسٍ: الأسف على التَّفويت الذي وقعَ بهم، فالمراد بالصَّلاة على هذا: الفائتةُ.
          ومعناه: لو كانت في وقتها كانت أحبَّ إليَّ، فالله أعلم. وممن جزم بهذا الزَّين ابن المنيِّر فقال: إيثار أنسٍ الصَّلاة على الدُّنيا، وما فيها يشعرُ بمخالفتهِ لأبي موسى في اجتهادهِ المذكور، وأنَّ أنساً كان يرى أن يُصلِّي للوقت، وإن فات الفتح، وقوله هذا موافقٌ لحديث: ((رَكعَتَا الفجرِ خيرٌ من الدُّنيا وما فيها))، انتهى.
          وكأنه أراد الموافقةَ في اللَّفظ، وإلا فقصَّةُ أنسٍ في المفروضَة، والحديثُ في النَّافلة، ويخدشُ فيما ذكره عن أنسٍ من مخالفة اجتهادِ أبي موسى أنَّه لو كان كذلك لصلَّى أنسٌ وحدَهُ، ولو بالإيماء؛ لكنَّه وافقَ أبا موسى ومن معه، فكيف يعدُّ مخالفاً؟ انتهى.