الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

حديث: غزوت مع رسول الله قبل نجد فوازينا

          942- وبالسند قال: (حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ) أي: الحكمُ بن نافعٍ (قَالَ: أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ) أي: ابن أبي حمزةَ (عَنِ الزُّهْرِيِّ، قَالَ) أي: شعيبٌ (سَأَلْتُهُ) أي: الزُّهريَّ بإثبات <قال> ملحقةً بين الأسطر في فرع ((اليونينية))، وكذا فيها بين سُطُورها، كما قاله القسطلاني.
          وقال في ((الفتح)) وقع بخطِّ بعضٍ من نسخ الحديث: ((عن الزهري قال: سألته)) فأثبت ((قال)) ظنًّا منه أنَّها حذفت خطأً على العادة، وهو محتملٌ، ويكون حذف فاعل ((قال)) يعني: الزُّهري، والمتَّجه حذفها، والجملة حاليَّةٌ؛ أي: أخبرني الزُّهري حال سؤالي إيَّاه، انتهى.
          (هَلْ صَلَّى النَّبِيُّ صلعم، يَعْنِي صَلَاةَ الْخَوْفِ؟ قَالَ) ولأبوي ذرٍّ والوقت والأصيلي وابن عساكر: <فقال> أي: الزُّهريُّ (أَخْبَرَنِي سَالِمٌ) أي: ابن عبد الله بن عمر (أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ) أي: ابن الخطَّاب (☻ قَالَ: غَزَوْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّه) ولأبي ذرٍّ: <مع النَّبي> (صلعم قِبَلَ) بكسر القاف وفتح الموحدة؛ أي: جهةَ (نَجْدٍ) بفتح النون وسكون الجيم، بلادٌ معروفةٌ بأرض غطفان من تهامةَ إلى العراق، وكانت الغزوة غزوة ذات الرِّقاع، وأوَّل ما صلَّيت صلاة الخوف فيها سنة أربع أو خمس أو ستٍّ أو سبع.
          وما في ((الوسيط)): من أنَّها أوَّل الغزوات، فقد ردَّه ابن الصَّلاح في ((مشكل الوسيط))، وسيأتي الكلام على هذه الغزوة في المغازي.
          (فَوَازَيْنَا الْعَدُوَّ) بالزاي؛ أي: فقابلناهم. قال في ((الفتح)): والَّذي يظهرُ أنَّ أصله: وأزيناهم: بالهمزة فقلبت واواً لقول ((الصحاح)): آزيت؛ يعني: بهمزة ممدودة.
          (فَصَافَفْنَا لَهُمْ) باللام، ولأبي ذرٍّ عن الكشميهني: <فصاففناهم> (فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلعم يُصَلِّي لَنَا) أي: بنا، أو لأجلنا (فَقَامَتْ طَائِفَةٌ مَعَهُ) أي: إلى حيث لا تبلغُهم سهام العدوِّ، زاد في غير رواية أبي ذرٍّ: <تصلي> (وَأَقْبَلَتْ طَائِفَةٌ عَلَى الْعَدُوِّ) أي تحرس المصلِّين من العدوِّ (وَرَكَعَ) بالواو، ولأبي ذرٍّ عن المستملي: <فركع> (رَسُولُ اللَّهِ صلعم بِمَنْ مَعَهُ) أي: من المقتدين (وَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ) أي: بمن معه، وقام بهم، واستمرَّ قائماً حتى أتت الطَّائفة الحارسة فاقتدتْ به، زاد عبد الرَّزَّاق: ((مثل نصف صلاة الصبح))، وفيه إشارةٌ إلى أنها غير الصُّبح، وسيأتي في المغازي ما يدلُّ على أنَّها العصر.
          وقوله: (ثُمَّ انْصَرَفُوا) أي: ذهب الذين كانوا مقتدين به بالنِّيَّة من غير سلامٍ، ولا إتمام وحدهم بدليل ما لمالكٍ في ((الموطأ)) عن نافع، عن ابن عمر: ثمَّ استأخروا مكان الذين لم يصلوا، ولا يسلمون؛ أي: فقاموا في وجه العدوِّ بعد انصرافهم (مَكَانَ الطَّائِفَةِ الَّتِي لَمْ تُصَلِّ، فَجَاؤُوا) أي: الطَّائفة الحارسةُ أولاً، والنَّبيُّ صلعم قائمٌ ينتظرها، واقتدوا به وقرؤوا.
          (فَرَكَعَ رَسُولُ اللَّهِ صلعم بِهِمْ رَكْعَةً وَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ) أي: تكملةً للرَّكعة، لا أنَّها زيادة على الرَّكعة (ثُمَّ سَلَّمَ) أي: النَّبي عليه الصلاة والسلام لفراغِ صلاته (فَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فَرَكَعَ لِنَفْسِهِ رَكْعَةً وَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ) قال الشُّرَّاح _واللفظ لـ((الفتح))_: ظاهرهُ أنَّهم أتمُّوا في حالةٍ واحدةٍ، ويحتمل أنَّهم أتمُّوا على التَّعاقب، وهو الرَّاجح من حيث المعنى، وإلا فيستلزم تضييع الحراسة المطلوبةِ، وإفراد الإمام وحدهُ، / ويرجِّحُه ما رواه أبو داود عن ابن مسعودٍ بلفظ: ((فقام هؤلاء _أي: الطَّائفة الثَّانية_ فقضَوا لأنفسهم ركعةً، ثم سلَّموا، ثم ذهبوا، ورجع أولئك إلى مقامهم فصلُّوا لأنفسهم ركعةً، ثم سلَّموا))، انتهى.
          وظاهرُ هذا: أن الطَّائفة الثَّانية والت بين ركعتيها، ثمَّ أتمَّت الطَّائفةُ الأولى بعدها.
          ووقعَ في الرَّافعي تبعاً لغيره من كتب الفقهِ: أنَّ في حديث ابنِ عمر: أن الطَّائفة الثَّانية تأخَّرتْ، وجاءت الطَّائفةُ الأولى فأتمُّوا ركعةً، ثمَّ تأخروا، وعادَتِ الطَّائفة الثَّانيةُ فأتمُّوا، ولم نقفْ على ذلك في شيءٍ من الطُّرق، وبهذه الكيفيَّة أخذت الحنفيَّة، واختار الكيفيَّة التي في حديث ابنِ مسعودٍ أشهب والأوزاعي، وهي موافقةٌ لحديث سهلِ بن أبي حثمة، واختارَ الشَّافعيَّة في كيفيتها: أنَّ الإمامَ ينتظر الطَّائفة الثَّانية ليسلم بها، كما في الحديث الذي رواه مسلمٌ عمن شهد مع رسولِ الله صلعم صلاة الخوف يوم ذات الرقاع: أنَّ طائفةً صفَّت معه، وطائفة وجاه العدو، فصلَّى بالتي معه ركعةً، ثم ثبت قائماً، وأتمُّوا لأنفسهم، ثمَّ انصرفوا فصفوا، وجاهَ العدوِّ، وجاءت الطائفة الأخرى، فصلَّى بهم الركعة التي بقيتْ من صلاته، ثم ثبتَ جالساً، وأتمُّوا لأنفسهم، ثمَّ سلَّم بهم.
          قال مالكٌ: وهذه أحسن ما سمعتُ في صلاة الخوف، واختار الشَّافعيَّة هذه الكيفيَّةَ لسلامتها من كثرة المخالفة، ولأنها أحوطُ لأمر الحربِ، فإنَّها أخفُّ على الفريقين.
          واستدلَّ بقوله: ((طائفة)) على أنَّه لا يشترط استواء الفريقين في العددِ، بل الشَّرطُ مكافأة الحارسة للعدوِّ، إذ الطَّائفة تطلقُ على القليلِ والكثير، لكن قال الشَّافعيُّ: أكره أن تكون كلُّ طائفةٍ أقل من ثلاثةٍ؛ لأنَّه أعاد عليهم ضمير الجمع بقوله: {وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ}.
          وهذا النَّوع بأقسامه حيث يكون العدو في غير جهةِ القبلة، أو فيها لكن حال حائلٌ يمنع رؤيتهم لو هجموا.
          ويجوز للإمام أن يصلِّي مرَّتين، كل مرَّةٍ بفرقةٍ، فتكون الثَّانية له نافلةً، كما صلاها عليه الصلاة والسلام ببطن نخلٍ، وتتأتى صلاة الجمعة في صلاة الخوف بشرط أن يخطُب بجميعهم، ثم يفرِّقهم فرقتين، أو يخطُب بفرقةٍ، ثم يجعل منها مع كلٍّ من الفرقتين أربعين، فلو خطب بفرقةٍ، وصلَّى بغيرها لم يجزْ، وكذا لو نقصت الأولى عن أربعين.
          والحديثُ أخرجهُ المصنف في المغازي أيضاً، ومسلمٌ وأبو داودَ والتِّرمذيُّ والنَّسائيُّ، واستدلَّ به على عظم أمر الجماعةِ، بل على ترجيح القول بوجوبها لارتكاب أمورٍ كثيرةٍ لا تُغتفر في غيرها، وهذا كلُّه إن لم يشتدَّ الخوف، وإلا فحكمه مذكورٌ في قوله: