إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

حديث: مطل الغني ظلم فإذا أتبع أحدكم على ملي فليتبع

          2287- وبه قال: (حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ يُوسُفَ) التِّنِّيسيُّ قال: (أَخْبَرَنَا مَالِكٌ) الإمام (عَنْ أَبِي الزِّنَادِ) عبد الله بن ذكوان (عَنِ الأَعْرَجِ) عبد الرَّحمن بن هرمز (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ☺ : أَنَّ(1) رَسُولَ اللهِ صلعم قَالَ: مَطْلُ) المِدْيان (الغَنِيِّ) القادر على وفاء الدَّين ربَّه بعد استحقاقه (ظُلْمٌ) مُحرَّمٌ(2) عليه، وخرج بالغنيِّ العاجزُ عن الوفاء، والمطل: أصله المدُّ، تقول: مطلت الحديدة أمطلها إذا مددتها لتطول، والمراد هنا: تأخير ما استحقَّ أداؤه بغير عذرٍ، ولفظ المطل يُشعِر بتقدُّم الطَّلب، فيُؤخَذ منه أنَّ الغنيَّ لو أخَّر الدَّفع مع عدم طلب صاحب‼ الحقِّ له(3) لم يكن ظالمًا(4)، وقد حكى أصحابنا وجهين في وجوب الأداء مع القدرة من غير طلبٍ من ربِّ الدَّين، فقال إمام الحرمين في «الوكالة» من «النِّهاية» وأبو المُظفَّر السَّمعاني في «القواطع في أصول الفقه»، والشَّيخ عزُّ الدِّين بن عبد السَّلام في «القواعد الكبرى»: لا يجب الأداء إلَّا بعد الطَّلب، وهو مفهوم تقييد النَّوويِّ في «التَّفليس» بالطَّلب، والجمهور على أنَّ قوله: «مطل الغنيِّ ظلمٌ» من باب إضافة المصدر للفاعل كما سبق تقريره، وقيل: هو من إضافة المصدر للمفعول، والمعنى: أنَّه يجب وفاء الدَّين وإن كان(5) مستحقُّه غنيًّا، ولا يكون سببًا لتأخيره عنه، وإذا كان كذلك في حقِّ الغنيِّ فهو في حقِّ الفقير أولى، قال الحافظ زين الدِّين العراقيُّ: وهذا فيه تعسُّفٌ وتكلُّفٌ، ولو لم يكن له مالٌ لكنَّه قادرٌ على التَّكسُّب، فهل يجب عليه ذلك لوفاء الدَّين؟ أطلق أكثر أصحابنا _ومنهم الرَّافعيُّ والنَّوويُّ_: أنَّه ليس عليه ذلك، وفصل الفراويُّ(6) فيما حكاه ابن الصَّلاح في «فوائد الرِّحلة» بين أن يلزمه الدَّين بسببٍ هو به عاصٍ، فيجب عليه الاكتساب لوفائه، أو غير عاصٍ فلا، قال الإسنويُّ: وهو واضحٌ(7)؛ لأنَّ التَّوبة ممَّا فعله واجبةٌ، وهي متوقِّفةٌ في حقوق الآدميِّين على الرَّدِّ. انتهى. قال ابن العراقيِّ: ولو قيل بوجوب التَّكسُّب مطلقًا لم يبعد، كالتَّكسُّب لنفقة الزَّوجة، وكما أنَّ القدرة على الكسب كالمال في منع أخذ الزَّكاة يبقى النَّظر في أنَّ لفظ هذا الحديث هل يتناوله؟ إن فسَّرنا الغنى بالمال فلا، وإن فسَّرناه بالقدرة على وفاء الدَّين فنعم، وكلامهم فيمن ماله غائبٌ يوافق الثَّاني، وفي رواية ابن عيينة عن أبي الزِّناد عند النَّسائيِّ وابن ماجه: المطل ظلمُ الغنيِّ(8)، والمعنى: أنَّه من الظُّلم، وأطلق ذلك للمبالغة في التَّنفير عن المطل. (فَإِذَا أُتْبِعَ أَحَدُكُمْ) بضمِّ الهمزة وسكون المُثنَّاة الفوقيَّة وكسر المُوحَّدة مبنيًّا للمفعول (عَلَى مَلِيٍّ) بتشديد المُثنَّاة التَّحتيَّة، وضبطها الزَّركشيُّ بالهمزة، وقال: الغنيُّ(9) من المَلَاءة، وقال في «المصابيح»: وظاهره أنَّ الرِّواية كذلك فينبغي تحريرها، ولم أظفر بشيءٍ منها. انتهى. والذي في الفرع وجميع ما وقفت عليه من الأصول المعتمدة: بدون الهمزة، وهو الذي رويناه، وذِكْرُ هذه الجملة عقب ما قبلها يُشعِر بأنَّ الأمر بقبول الحوالة مُعلَّلٌ بكون مطل(10) الغنيِّ ظلمًا، قال ابن دقيق العيد: ولعلَّ السَّبب فيه أنَّه إذا تقرَّر كونه ظلمًا _والظَّاهر من حال المسلم الاحتراز عنه_ فيكون ذلك سببًا للأمر بقبول الحوالة عليه؛ لأنَّ به يحصل المقصود من غير ضرر‼ المطل، ويُحتمل أن يكون ذلك لأنَّ المليَّ لا يتعذَّر استيفاء الحقِّ منه عند الامتناع، بل يأخذه الحاكم قهرًا ويوفيه، ففي قبول الحوالة عليه يحصل الغرض من غير مفسدةٍ في الحقِّ، قال: والمعنى الأوَّل أرجح لِمَا فيه من بقاء معنى التَّعليل بكون المطل ظلمًا، وعلى هذا المعنى الثَّاني تكون العلَّة عدم وفاء الحقِّ لا الظُّلم. انتهى. والمعنى الأوَّل هو الذي اقتصر عليه الرَّافعيُّ، وقال ابن الرِّفعة في «المطلب»: وهذا إذا كان الوصف بالغنى يعود إلى من عليه الدَّين، وقد قيل: إنَّه يعود إلى من له الدَّين، وعلى هذا لا يحتاج أن يذكر في التَّقديرين الغنيَّ. انتهى. قال البرماويُّ: وقد يُدَّعى أنَّ في كلٍّ منهما بقاء التَّعليل(11) بكون المطل ظلمًا لأنَّه لا بدَّ في كلٍّ منهما من حذفٍ بذكره يحصل / الارتباط، فيُقدَّر في الأوَّل: مطل الغنيِّ ظلمٌ، والمسلم في الظَّاهر يجتنبه، فمن أُتبع على مليٍّ فينبغي أن يتبعه، وفي الثَّاني: مطل الغنيِّ ظلمٌ، والظُّلم تزيله(12) الحكَّام ولا تقرُّه، فمن أُتبِع على مليٍّ فليتبع ولا يَخْشَ من المطل، ويشبه كما قال الأذرعيُّ: إنَّه يُعتبَر في استحباب قبولها على مليٍّ كونه وفيًّا، وكون ماله طيِّبًا؛ ليخرج المماطل ومن في ماله شبهةٌ. (فَلْيَتْبَعْ) بفتح التَّحتيَّة وسكون الفوقيَّة، أي: إذا أُحيل بالدَّين الذي له على موسرٍ فليحتل ندبًا، وقوله: «ظلمٌ» يشعر بكونه كبيرةً، والجمهور: على أنَّ فاعله يفسق، لكن هل يثبت فسقه بمرَّةٍ واحدةٍ أم لا؟ قال النَّوويُّ: مقتضى مذهبنا التَّكرار، وردَّه السُّبكيُّ في «شرح المنهاج» بأنَّ مقتضى مذهبنا عدمه، واستدلَّ بأنَّ منع الحقِّ بعد طلبه وانتفاء العذر عن أدائه كالغصب، والغصب كبيرةٌ، والكبيرة لا يُشترَط فيها التَّكرار، لكن لا يُحكَم عليه بذلك إلَّا بعد أن يظهر عدم عذره. انتهى. ويدخل في المطل كلُّ من لزمه حقٌّ كالزَّوج لزوجته، والسَّيِّد لعبده، والحاكم لرعيَّته، والعكس(13)، واستدلَّ به على اعتبار رضا المحيل والمحتال دون المحال عليه لكونه لم يُذكَر في الحديث، وبه قال الجمهور كما مرَّ.
          وهذا الحديث أخرجه أيضًا في «الحوالة» [خ¦2288]، ومسلمٌ في «البيوع» وكذا النَّسائيُّ والتِّرمذيُّ وابن ماجه.


[1] في (د): «عن».
[2] في (ص): «يحرم».
[3] «له»: ليس في (د).
[4] في (ص): «ظلمًا».
[5] «كان»: ليس في (ص).
[6] في (د): «الفزاريُّ»، وهو تحريفٌ.
[7] في (ص): «أصحُّ».
[8] «الغنيِّ»: مثبتٌ من (د)، وكذا في «الفتح» (4/543).
[9] في (د): «العينيُّ»، وهو تحريفٌ.
[10] في (م): «مطلق»، وهو تحريفٌ.
[11] في غير (د) و(س): «للتَّعليل».
[12] في غير (ب) و(س): «يزيله».
[13] في (د): «وبالعكس».