إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

باب ما يجوز من اللو

          ░9▒ (بابُ مَا يَجُوزُ مِنَ اللَّوِّْ) بألفٍ ولامينِ وواوٍ ساكنةٍ مخفَّفةٍ في الفرع وأصله(1) ويُروى بتشديدها، واستُشكِل بأنَّ «لو» حرفٌ، وأهل العربية لا يُجيزون دخول الألف واللام على الحروف، قاله القاضي عياضٌ، وأُجيب بأنَّ «لو» هنا مسمًّى بها، فهي اسمٌ زِيْدَ فيه واوٌ أخرى، ثم أُدغمت الأولى في الثَّانية على القاعدة المقرَّرة في بابها، فلا بِدْعَ إذًا في دخول علامات الأسماء عليها؛ إذ لم تدخل وهي حرفٌ، إنَّما دخلت وهي اسمٌ، وقال صاحب «النِّهاية»: الأصل «لو» ساكنة الواو، وهي حرفٌ من حروف المعاني يمتنع بها الشَّيء لامتناع غيره غالبًا، فلمَّا سُمِّيَ بها زِيْدَ فيها، فلمَّا أرادوا(2) إعرابها أُتي فيها بالتعريف لتكون علامةً لذلك، ومن ثَمَّ شدَّد الواو، وقد سُمِع بالتشديد منوَّنًا، قال(3):
أُلَامُ على لَوٍّ ولَو كُنْتُ عالمًا                     بإدبار(4) لوٍّ لمَ تَفُتني أوائلُه
وقال آخر:
لَيْتَ شِعْرِي وَأَيْنَ مِنِّي ليتُ                     إنَّ ليتًا وإنَّ لوًّا عَناءُ
وقال الشَّيخ تقيُّ الدِّين السُّبكيُّ ☼ : «لو» إنَّما لا يدخلها الألف واللام إذا بقيت على الحرفيَّة، أمَّا إذا سُمِّي بها فهي من جملة الحروف التي سُمعتِ التَّسمية بها من حروف الهجاء، ومن(5) حروف المعاني، ومن شواهده قوله:
وقِدْمًا أَهْلَكَتْ لوٌّ كثيرًا                     وقبلَ اليَوْمِ عَالَجَها قُدارُ
فأضاف إليها واوًا أخرى، وأدغمها، وجعلها فاعلًا، قال: ومقصود البخاريِّ ☼ بالتَّرجمة وأحاديثها: أنَّ النُّطق بـ «لو» لا يُكره في الإطلاق، وإنَّما يكره في شيءٍ مخصوصٍ، يؤخَذ ذلك من قوله: «من اللَّوِّ» فأشار إلى التبعيض، ولورودها في الأحاديث الصَّحيحة، وقيل: إنَّ البخاريَّ أشار بقوله: «ما يجوز من اللَّوِّ» إلى أنَّ «اللَّوَّ» في الأصل لا يجوز إلَّا ما استُثني، وعند النَّسائيِّ وابن ماجه من طريق محمَّد بن عجلان، عن الأعرج، عن أبي هريرة يَبْلُغ به النبيَّ صلعم قال: «المؤمن القويُّ خيرٌ وأحبُّ إلى الله من المؤمن الضَّعيف، وفي كلٍّ خيرٌ، احرِص على ما ينفعك ولا تعجِزْ، فإن غلبك أمرٌ فقل: قدَّر الله وما شاء فَعَلَ، وإياك واللَّوَّ؛ فإنَّ اللَّوَّ تفتح عمل الشَّيطان» هذا لفظ ابن ماجه، ولفظ النَّسائيِّ قال: قال رسول الله صلعم ...، والباقي سواءٌ إلَّا أنَّه قال: «وما شاء، وإيَّاك...» وأخرجه النَّسائيُّ والطبريُّ والطَّحاويُّ من طريق عبد الله بن إدريس عن ربيعة بن عثمان فقال: عن محمَّد بن يحيى بن حبَّان عن الأعرج، ولفظ النَّسائيِّ: «وفي كلٍّ خيرٌ» وفيه: «احرص على ما ينفعك، واستعِنْ بالله ولا تعجِز، وإذا أصابك شيءٌ فلا تقل: لو أنِّي فعلت كذا وكذا، ولكن قُل: قَدَّر الله وما شاء فعل»، قال في «الفتح»: هذه الطريق أصحُّ طرق هذا / الحديث، وقوله: «فإنَّ اللَّوَّ تفتح عمل الشَّيطان» أي: تُلقي في القلب معارضةَ القَدَر، فيوسوس به الشَّيطان، ولا معارضة بين ما ورد من الأحاديث الدالَّة على الجواز والدالَّة على النَّهي؛ لأنَّ النَّهي مخصوصٌ بالجزم بالفعل الذي لم يقع، فالمعنى لا تقل لشيءٍ لم يقع: لو أنِّي فعلت كذا لوقع، قاضيًا بتحتُّم ذلك، غير مضمرٍ في نفسك شَرْطَ مشيئة الله، وما ورد من قول: «لو» محمولٌ على ما إذا كان قائلُه موقنًا بالشَّرط المذكور وهو أنَّه لا يقع شيءٌ إلَّا بمشيئة الله وإرادته، قاله الطبريُّ، وقال غيره: الظاهر أنَّ النَّهي عن إطلاق ذلك فيما لا فائدة فيه، أمَّا من قاله تأسُّفًا على ما فاته من طاعة الله فلا بأس به.
          (وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً}[هود:80]) أي: لو قويتُ بنفسي على دفعكم، وجواب {لَوْ} محذوفٌ؛ تقديره لدفعتُكم، وحذفه _كما قال ابن بطَّالٍ_ لأنَّه يخصُّ بالنفي(6) ضروب المنع، وإنَّما أراد لوطٌ ◙ العدَّة من الرِّجال، وإلَّا فهو يعلم أنَّ له من الله ركنًا شديدًا، ولكنَّه أجرى الحكم على الظاهر، و«لو» تدل على امتناع الشَّيء لامتناع غيره، تقول: لو جاءني زيدٌ لأكرمتك معناه: إنِّي امتنعت من إكرامك لامتناع مجيء زيدٍ، وتكون بمعنى الشَّرطيَّة، نحو: {وَلأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ}[البقرة:221] أي: وإن أعجبتكم، وللتقليل نحو: التمِسْ ولو خاتمًا من حديدٍ، وللعرض نحو لو تنزلُ عندنا لتصيبَ خيرًا، وللحضِّ نحو لو فعلت كذا بمعنى افعلْ، وبمعنى التّمنِّي نحو {فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً}[الشعراء:102] أي: فليت لنا كرَّةً، ولهذا نصب {فَنَكُونَ} في جوابها كما نصب {فَأَفُوزَ}[النساء:73] في جواب «ليت» واختُلف هل هي الامتناعيَّة أُشرِبت معنى التّمنِّي أو المصدريَّة أو قِسْمٌ برأسه؟ ورجَّحَ الأخيرَ ابنُ مالكٍ(7).


[1] «وأصله»: ليس في (ع).
[2] في (ص): «أراد».
[3] «قال»: ليس في (ص).
[4] في (ع): «بأذناب».
[5] «من»: ليس في (ص) و(ع).
[6] هكذا في كل النُّسخ، وفي السياق إشكال نبَّه عليه الشيخ قطة بهامش البولاقية، والذي في «ابن بطال» و«الفتح »: «يحصر بالنفي».
[7] قوله: «ولو تدل على امتناع الشَّيء... قسمٌ برأسه؟ ورجَّح الأخيرَ ابنُ مالكٍ» سقط من (ع).