التلقيح لفهم قارئ الصحيح

حديث: إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف فاقرءوا ما تيسر منه

          4992- قوله: (حَدَّثَنَا سَعِيدُ ابْنُ عُفَيْرٍ): تَقَدَّم الكلام عليه، مع (اللَّيْث)، مع (عُقَيْل)، مع (ابْن شِهَاب)، قُبيل هذا؛ فانظره.
          قوله: (أَنَّ الْمِسْوَرَ بْنَ مَخْرَمَةَ): تَقَدَّم مِرارًا أنَّ (المِسْوَر) بكسر الميم، وإسكان السين المهملة، وأنَّه صَحابيٌّ صغيرٌ، وأنَّ (مَخْرَمة) والدَه صَحابيٌّ أيضًا، وَ(عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدٍ الْقَارِيُّ): تَقَدَّم أنَّه بتشديد الياء، منسوب إلى القارة [خ¦2010]، وقد تَقَدَّم أنَّ عَضلًا والقارة ابنا يَيْثِع بن الهَوْن بن خزيمة بن مدركة، وقيل في نسبه غيرُ ذلك، قال أبو داود: (أُتي به النَّبيُّ صلعم وهو طِفْل)، روى عن عمر، وأبي طلحة، وأبي أيُّوب، وغيرهم، وعنه: السائب بن يزيد وهو من أقرانه، وعروة بن الزُّبَير، والأعرج، وابن شهاب الزُّهريُّ، وجماعة، وثَّقه ابن معين، قال ابن سعد: (تُوُفِّيَ بالمدينة سنة ثمانين، وله ثمان وسبعون سَنةً)، أخرج له الجماعة.
          قوله: (أُسَاوِرُهُ): هو بضمِّ الهمزة، وسين مهملة، وبعد الألف واو مكسورة، ثُمَّ راء، ثُمَّ هاء الضمير، قال ابن قُرقُول: (قال الحربيُّ: آخُذُ برأسِه، وقال غيره: أُواثِبُه؛ وهو أشبه بمساق الحديث، ورواه بعضُهم عن القابسيِّ: «أثاوره»، والمعروف بالسين)، انتهى.
          قوله: (فَلَبَبْتُهُ): تَقَدَّم أنَّه يقال بالتشديد والتخفيف [خ¦2419]، والتخفيف أعرفُ، قاله ابن قُرقُول، واقتصر الشيخ محيي الدين في «شرح مسلم» في هذا الحديث على التشديد فقط، وقد قدَّمتُ ضبطَه ومعناه [خ¦2419].
          قوله: (بِرِدَائِهِ): وجاء في بعض طرقه: (بردائي) [خ¦6936]، ويُجمَع بينهما بأنَّ التلبيب وقع بالرداءين جميعًا، والله أعلم.
          قوله: (أَرْسِلْهُ): هو بفتح الهمزة، وكسر السين، رُباعيٌّ، وهذا ظاهرٌ.
          قوله: (أُنْزِلَ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ، فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ): قال العلماء: (سبب إنزاله على سبعة أحرف التخفيفُ والتيسيرُ، ولهذا قال في رواية: «هوِّنْ على أمَّتي»)، انتهى، ذكر شيخنا هنا عن أبي حاتم بن حِبَّان، أنَّه ذَكَر في قوله صلعم: «أُنزل القرآن على سبعة أحرف» خمسةً وثلاثين قولًا، انتهى، قال الزَّكيُ عبد العظيم: (لكنَّ جمهورَها لا يُختار)، انتهى.
          واختلف العلماء في المراد بـ(سبعة أحرف)؛ قال القاضي عياض: (قيل: هو توسعةٌ وتسهيلٌ لم يقصد به الحصْرَ، قال: وقال الأكثرون: هو حصرٌ للعدد في سبعةٍ، ثُمَّ قيل: في سبعة من المعاني؛ كالوعد والوعيد، والمحكم والمتشابه، والحلال والحرام، والقصص والأمثال، والأمر والنهي، ثُمَّ اختَلَف هؤلاء في تعيين السبعة.
          وقال آخرون: هي في صورة التلاوة، وكيفية النطق بكلماتها؛ من إدغام وإظهار، وتفخيم وترقيق، وإمالة، ومدٍّ؛ لأنَّ العرب كانت مختلفةَ اللُّغات في هذه الوجوه، فيسَّر الله عليهم؛ ليقرأَ كلُّ إنسان بما يُوافق لغته، ويَسْهُل على لسانه، وقال آخرون: هي الألفاظ والحروفُ، وإليه أشار ابن شهاب بما رواه عنه مسلم في «الكتاب» _يعني: «صحيحه»_ ثُمَّ اختَلَف هؤلاء؛ فقيل: سبع قراءات وأوجه، وقال أبو عُبيد: سبع لغات للعرب يَمَنِها ومَعَدِّها، وهي أفصح اللُّغات وأعلاها، وقيل: السبعة كلُّها لمضر وحدها، وهي متفرِّقة في القرآن، غير مجتمعة في كلمة واحدة، وقيل: بل هي مجتمعة في بعض الكلمات؛ كقوله تعالى: {وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ}[المائدة:60]، و{نَرْتَعِ وَنَلْعَبْ}[يوسف:12]، و{بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا}[سبأ:19]، و{بِعَذَابٍ بَئِيسٍ}[الأعراف:165]، وغير ذلك.
          قال ابن البلاقلانيِّ: «الصحيح أنَّ هذه الأحرف السبعة ظهرت واستفاضت عن رسول الله صلعم، وضَبَطَتْها عنه الأُمَّة، وأثبَتَها عثمان والجماعة ♥، وأخبروا بصحَّتها، وإنَّما حذفوا عنها ما لم يثبت متواترًا، وأنَّ هذه الأحرف تختلف معانيها تارةً، وألفاظُها أخرى، وليست متضادَّة ولا متنافية»، وذكر الطحاويُّ: أنَّ القراءة بالأحرف السبعة كانت في أوَّل الأمر خاصَّة للضرورة؛ لاختلاف لغة العرب، ومشقَّة أخذِ جميع الطوائف بلغةٍ، فلمَّا كثُر النَّاس والكُتَّاب، وارتفعت الضَّرورة؛ عادت إلى قراءةٍ واحدةٍ.
          قال الداوديُّ: «وهذه القراءات السَّبع التي يقرأ بها الناسُ اليوم ليس كلُّ حرف منها هو أحدَ تلك السبعة، بل قد تكون مفرَّقةً فيها»، وقال ابن أبي صُفرة: «هذه القراءات السبع إنَّما شُرِعت من حرف واحد من السبعة المذكورة في الحديث، وهذا الذي جَمَع عثمانُ ☺ المصحفَ»، وقد ذكره النَّحاس وغيره.
          وقال غيره: لا يمكن القراءة بالسَّبعة المذكورة في الحديث في ختمةٍ واحدةٍ، ولا يُدرَى أيُّ هذه القراءات آخِرُ العَرْضِ على النَّبيِّ صلعم، وكلُّها مستفيضةٌ عن النَّبيِّ صلعم، وضَبَطَتْهَا(1) عنه الأمَّة، وأضافت كلَّ حرف منها إلى من أُضِيفَت إليه من الصَّحابة ♥؛ أي: أنَّه كان أكثر قراءته به، كما أُضِيفَت كلُّ قراءة منها إلى من اختار القراءة بها من القرَّاء السبعة وغيرهم.
          قال المازريُّ: «وأمَّا قول مَن قال: إنَّ المراد سبعة معانٍ مختلفةَ الأحكام والأمثال والقصص؛ فخطأٌ؛ لأنَّه صلعم أشار إلى جواز القراءة بكلٍّ واحد مِن الحروف، وإبدال حرف بحرف، وقد تقرَّر إجماع المسلمين أنَّه يُحرُم [إبدالُ] آيةِ أمثالٍ بآية أحكام»، قال: «وقول من قال: المراد: خواتيم الآي، فيجعل مكان {غَفُورٌ رَّحِيمٌ}: {سَمِيعٌ بَصِيرٌ}؛ فأشدُّ أيضًا؛ للإجماع على منع تغيير القرآن للنَّاس»)، هذا مختصر ما نقله القاضي عياض في المسألة، انتهى كلام النووي ►.
          وقد استفدنا من كلام الطَّحاويِّ، وابن أبي صفرة، وكذا قالة النحاس وغيره _كما هو مذكور فيما تَقَدَّم_: أنَّ الذي يقرؤه النَّاس اليوم إنَّما هو حرف واحد من السَّبعة، وكذا في آخر «المقنع» لأبي عمرو الدَّانيِّ: (أنَّ أبا بكرٍ كان قد جمعه أوَّلًا على السبعة الأحرف التي أَذِن الله ╡ للأمَّة في التلاوة بها، ولم يخصَّ حرفًا بعينه، فلمَّا كان زمن عثمان، ووقع(2) الاختلاف بين أهل العراق وأهل الشَّام في القراءة، وأعلمه حذيفةُ بذلك؛ رأى هو ومَن حضره مِن الصَّحابة أن يَجْمَعَ الناسَ على حرف واحد من تلك الأحرف، وأن يُسقط ما سواه، فيكون ذلك ممَّا يرتفع به الاختلاف، ويُوجِب الاتفاق...) إلى آخر كلامه، وذكر فيه أيضًا قولًا آخر، وقد ذكر في أوَّل «المقنع» أنَّه حرف زيد بن ثابت، وذكر في آخر «المقنع» سؤالًا وجوابه، وهو مفيدٌ؛ فانظره.
          ورأيت أيضًا في «الاستيعاب» لابن عبد البَرِّ في ترجمة زيد بن ثابت ما لفظه: (فلمَّا اختلف الناس في القراءة زمن عثمان، واتَّفق رأيه ورأيُ الصَّحابة أن يُرَدَّ القرآنُ إلى حرف واحد؛ وقع اختياره على حرف زيد، فأمره أن يُملَّ المصحفَ على قوم مِن قريش جَمَعَهم إليه، فكتبوه على ما هو اليوم بأيدي الناس، والأخبارُ بذلك متواترة المعنى وإن اختلفتْ ألفاظُها)، انتهى، والله أعلم، ومثله في «التمهيد» لابن عبد البَرِّ، وفي كلامه ما يشبه أن يكون ذلك متَّفق عليه، والله أعلم. /
          وقد رأيت في كلام ابن قيِّم الجوزيَّة في «إغاثة اللَّهفان» ذلك، ولفظه: (ومِن ذلك _أي: ومِن سدِّ الذريعة_ جمعُ عثمانَ الأمَّةَ على حرفٍ واحدٍ مِن الأحرف السَّبعة؛ لئلَّا يكون اختلافهم في القرآن، ووافقه على ذلك الصَّحابة ♥ أجمعين).


[1] في (أ): (وضبطها)، والتصحيح من الموضع السابق.
[2] في (أ): (وقع)، والمثبت من مصدره، وجواب (لمَّا): (رأى).