التلقيح لفهم قارئ الصحيح

باب: من لم يتغن بالقرآن

          قوله: (بَابُ مَنْ لَمْ يَتَغَنَّ بِالْقُرْآنِ): ذكر ابن المنَيِّر الحديث بطريقيه، ثُمَّ قال: (وذكر _يعني: البُخاريَّ_ في «كتاب الاعتصام» حديث أبي هريرة ☺: «ليس منَّا مَن لم يتغنَّ بالقرآن»، وزاد غيره: «يجهر به»، ذكره في «باب قوله تعالى: {وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ}[الملك:13]»، قال الشيخ: يُفهَم من ترجمة البُخاريِّ أنَّه يحمل التغنِّي على الاستغناء، لا على الغِنى؛ لكونه أتبع الحديث بالترجمة بالآية، ومضمونها الإنكار على من لم يستغنِ بالقرآن عن غيره من الكتب السالفة، ومن المعجزات التي كانوا يقترحونها، وهو موافقٌ لتأويل ابن عيينة، لكنَّ ابن عيينة حمله على الاستغناء الذي هو ضدُّ الفقر، والبُخاريُّ حمله على الاستغناء الذي هو أعمُّ من هذا، وهو الاكتفاء به مطلقًا، ويندرج في ذلك عدم الافتقار إلى الاستظهار عليه بغيره، وعدم الافتقار أيضًا إلى الخلق، والاستغناء بالحقِّ؛ لأنَّ فيه من المواعظ والآيات والزواجر ما يَزَعُ(1) صاحبَهُ عن(2) حوائج الدنيا وأهلها، وأطال ابن بطَّال في نقل الردِّ على من فسَّره بالاستغناءِ، وأنَّ ذلك مخالفٌ اللغة، وقدح في الآيات التي استشهد بها المفسِّر لابن عيينة، وعندي أنَّ التفسير صحيحٌ لغةً، يدلُّ عليه قوله ◙ في الخيل: «ورَجلٌ ربطها تغنِّيًا وتعفُّفًا»، ولا خلاف لغةً أنَّه مصدر «تغنَّى»، ثُمَّ الإشكال بعدُ أنَّ «تغنَّى» ههنا بمعنى: استغنى بها وتعفَّف، ولم أقف على هذا الاستشهاد لغيري، والله أعلم)، انتهى.
          قوله: (بابُ مَنْ لَمْ يَتَغَنَّ بِالْقُرْآنِ): (تغنى بالقرآن): أي: جهر به، وكذا هو مفسَّر فيما يأتي، وقيل: حسَّن صوته به، ويشهد لهذا الحديثُ الآخر: «زيِّنوا [القرآن] بأصواتكم»، وعند سفيان: يستغني به، قيل: عن الناس، وقيل: عن غيره من الأحاديث والكتب، قال القاضي: (والقولان منقولان عن ابن عيينة)، وقال الشافعيُّ: (نحن أعلم بهذا، ولو أراد ◙ الاستغناء؛ لقال: مَن لم يستغنِ)، وكذا قال أبو جعفر الطبريُّ: (المعروف في كلام العرب أنَّ التغنيَ: الغناءُ، ودعوى أنَّ «تغنَّيتُ» بمعنى: «استغنيت» مردودةٌ، ولا نعلم أحدًا قاله)، وذكر غيرُه: أنَّ سفيان رواه عن سعد بن أبي وقاص، وهو ظاهر اختيار البُخاريِّ، وقيل: معناه: تحزين القراءة وترجيع الصوت بها، وقيل: معنى (تغنَّى به): جعله هِجِّيرا، وتسليةَ نفسِه، وذِكْرَ لسانه في كلِّ حالاته؛ كما كانت العرب تفعل ذاك بالشِّعر والحُداء والرَّجَز في قطع مسافاتها وأسفارها وحروبها، وهذا معنى قوله فيما يأتي: (قال سفيان: يستغني به) [خ¦5024]، والله أعلم، و(سفيان): هو ابن عيينة المذكور في السند، قال ابن الأثير: (أوَّل مَن قرأ بالألحان عبيدُ الله بن أبي بكرة، فورثه عنه عُبيد الله بن عمر، ولذلك يقال: قراءة العُمَريِّ، وأخذ ذلك عنه سعيد العلَّاف الإباضيُّ).


[1] أي: يَكُفُّ، وفي (أ): (يزعج)، والمثبت من مصدره.
[2] في (أ): (من)، والمثبت من مصدره.