التلقيح لفهم قارئ الصحيح

باب إثم من كذب على النبي صلى الله عليه وسلم

          قوله: (بَابُ إِثْمِ مَنْ كَذَبَ عَلَى النَّبِيِّ صلعم): اعلم أنَّ الأحاديثَ التِّي ذكرها البخاريُّ دالَّةٌ على تعظيم الكذب على رسول الله صلعم، وأنَّه كبيرةٌ، والمشهور: أنَّ فاعله لا يكفر إلَّا أن يستحلَّ ذلك؛ خلافًا لأبي محمَّد الجوينيِّ والد إمام الحرمين؛ حيث قال: (يكفر ويراق دمه)، وضعَّفه ولدُه الإمامُ، وجعله من هفوات والده، وقد رأيت بخطِّ بعض فضلاء الحلبيِّين ممَّا انتقاه من كتاب «المقدِّمات» للشيخ عماد الدين ابن كثير الحافظ المتأخِّر _الذي عاصرناه ولكن أخذ عنه بعض مشايخنا وبعض أصحابنا ☼_: (أنَّ أبا محمَّد الجوينيَّ تابعه على ذلك أبو الفضل الهمذانيُّ شيخُ ابنِ عَقِيلٍ الحنبليِّ) انتهى، ولكن في خطِّ المشار إليه: (تابع أبا محمَّد الجوينيَّ في تكفير من استحلَّ الكذب على النَّبيِّ صلعم...)؛ فذكره، ولا شكَّ أنَّ هذا وَهَمٌ بلا خلاف، بل المعروف ما نقلتُه عن أبي محمَّد، ولا يصحُّ ما في هذه الكتابة، والله أعلم.
          وقد قال الذَّهبيُّ في كتابه «الكبائر» ما لفظه: (قد ذهب طائفةٌ من العلماء إلى أنَّ الكذب على رسول الله صلعم كفرٌ يَنْقُل عنِ الملَّة)، قال: (ولا ريب أنَّ تعمُّد الكذب على الله ورسوله في تحليل حرام أوتحريم حلال كفرٌ محضٌ) انتهى، نعم؛ من كذب في حديث واحد عمدًا(1)؛ فسق، ورُدَّت شهادته، ورُدَّت رواياته كلُّها وإن تاب، وبه قال أحمد ابن حنبل وأبو بكر الحميديُّ، / وأطلق أبو بكر الصيرفيُّ الكذبَ، والظَّاهر من عبارته أنَّ مراده: في الحديث، وهذا نظير ما قاله(2) مالك في شاهد الزور إذا تاب: (إنَّها لا تُقْبَل شهادته)، وما قاله الشَّافعيُّ وأبو حنيفة فيمن رُدَّت شهادته بالفسق أو العداوة، ثمِّ تاب وحسُنت حالته: (لا يقبل منه إعادتها؛ لما يلحقه من التُّهَمة في تصديق نفسه)، وما قاله أبو حنيفة في قاذف المحصَن إذا تاب: (لا تقبل شهادته أبدًا)، وما قاله أيضًا من أنَّه: إذا رُدَّت شهادة أحد الزوجين للآخر، ثمَّ مات؛ لا تُسْمَع؛ للتُّهَمة، ولأنَّ الكذب على رسول الله(3) صلعم مَفسدة عظيمة؛ لأنَّه يصير شرعًا مستمرًّا إلى يوم القيامة، فجُعل ذلك تغليظًا وزجرًا من الكذب عليه، بخلاف غيره، قال ابن المبارك: (من عقوبة الكذَّاب أنَّه يُردُّ عليه صِدقُه)، وخالف النَّوويُّ في ذلك، فقال: (المختار القطع بصحَّة توبته من ذلك، وقبول روايته بعد صحَّة التوبة بشروطها، وقد أجمعوا على قبول رواية من كان كافرًا ثمَّ أسلم، وأجمعوا على قبول شهادته، ولا فرق بين الرِّواية والشهادة).


[1] (عمدًا): ليس في (ج).
[2] في (ب): (قال).
[3] في (ج): (النَّبي).