التلقيح لفهم قارئ الصحيح

باب ما جاء في العلم وقوله تعالى {وقل رب زدني علمًا}

          قوله: (بَابُ الْقِرَاءَةِ وَالْعَرْضِ عَلَى الْمُحَدِّثِ): اعلم أنَّ القراءةَ على الشَّيخ _وهو المحدِّث_ والعرضَ عليه واحدٌ، وإنَّما عطفه؛ لاختلاف اللَّفظ، ولأنَّ معظم / الناس يسمُّون القراءة على الشَّيخ عَرْضًا؛ بمعنى: أنَّ القارئَ يعرِض على الشَّيخ ذلك، والله أعلم.
          قوله: (وَرَأَى الْحَسَنُ وَالثَّوْرِيُّ وَمَالِكٌ الْقِرَاءَةَ جَائِزَةً): اعلم أنَّ هذه المسألة اختُلِف فيها؛ وهي القراءة على الشَّيخ المُسَمَّع(1)؛ وهي العرض، أجمعوا على صحَّة الرواية بها، وأمَّا ما حُكِي عن بعض من لا يعتدُّ بخلافه [أنَّه كان لا يراها](2)، وهو أبو عاصم الضَّحَّاك بن مَخْلَد النَّبيل.
          تنبيهٌ: إنَّما قيل له: النَّبيل؛ لأنَّه قدم الفيلُ إلى البصرة، فخرج الناس يتفرَّجون، فجاء أبو عاصم إلى ابن جريج؛ ليستفيد منه العلم، فقال له ابن جريج: ما لك لَمْ تخرج مع الناس؟ فقال: لا أجد منك عِوَضًا، فقال: أنتَ نبيلٌ، وقيل: لأنَّ شعبة حَلَف ألَّا يحدِّثَ أصحابَ الحديث شهرًا، فبلغ ذلك أبا عاصم، فقصده فقال: حدِّث وغلامي العطَّار حرٌّ لوجه الله تعالى كفَّارةً عن يمينك، فأعجبه ذلك، وقال: أبو عاصمٍ نبيلٌ، فلُقِّب به، وقيل: لأنَّه كان يلبس الثِّياب الفاخرة، فإِذَا أقبل؛ قال ابن جريج: جاء النَّبيلُ، وقيل غيرُ ذلك، وهو أبو عاصم الضحَّاك بن مَخْلَد النَّبيل، أحدُ الأثباتِ والحفَّاظِ، عن يزيد بن أبي عبيد، وابن عجلان، وبَهْزٍ، والكبار، وعنه: البخاريُّ، وعبد بن حميد، وعبَّاس الدُّوريُّ، وخلقٌ، قال عُمر بن شبَّة: (ما رأيت مثله(3))، وقال أبو عاصم: (ما دلَّست قطُّ، ولا اغتبت أحدًا منذ عقلت تحريم الغيبة)، تُوُفِّيَ في ذي الحجَّة سنة ░212هـ▒، أخرج له الجماعة، قال في «الميزان»: (تناكد العقيليُّ وذكره في كتابه، وساق له حديثًا خُولِف في سنده، هكذا زعم أبو العبَّاس النباتيُّ)، قال الذهبيُّ: (وأنا(4) فلم أجده في «كتاب العُقَيليِّ»، وقال النباتيُّ: ذُكِر لأبي عاصم أنَّ يحيى بن سعيد يَتكلَّم(5) فيك، فقال: لست بحيٍّ ولا ميِّت إذا لَمْ أذكر)، قال(6) [الذهبيُّ: (قلت: أجمعوا على توثيق أبي عاصم)، ثمَّ ذكر كلام ابن شبَّة، انتهى، صحَّح عليه](7) في «الميزان»، فالعمل على توثيقه، والله أعلم.
          _ روى [أبو] محمَّد ابن خلَّاد(8) الرَّامَهُرْمُزيُّ هذه القولة عنه، وروى الخطيب البغداديُّ عن وكيع قال: (ما أخذت(9) حديثًا قطُّ عرضًا)، وعن محمَّد بن سلَام: أنَّه أدرك مالكًا والناس يقرؤون عليه، فلم يسمع منه لذلك، وكذلك عبد الرحمن بن سلَّام الجمحيُّ لَمْ يكتفِ(10) بذلك؛ فقال مالك: (أخرجوه عنِّي)، وممَّن قال بصحَّتها من التَّابعين: عطاءٌ، ونافعٌ، وعروةُ، والشعبيُّ، والزُّهريُّ، وآخرون كثيرون من الأئمَّة؛ منهم الأئمَّة الأربعة، في خلق لا يحصون كثرة، وقد استدلَّ البخاريُّ على ذلك بحديث ضِمَام بن ثعلبة، وقد قال البخاريُّ: (سَمِعْتُ أَبَا عَاصِمٍ يَذْكُرُ عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ وَمَالِكٍ: أَنَّهُمَا كَانَا يَرَيَانِ القِرَاءَةَ وَالسَّمَاعَ جَائِزًا)؛ فيحتمل أنَّ أبا عاصم كان لا(11) يرى ذلك، وروى جوازَه عن هَذَين.
          وقد اختلفوا في القراءة على الشَّيخ؛ هل تساوي قراءة الشَّيخ من لفظه؟ أو دونها؟ أو فوقها؟ على ثلاثة أقوال؛ فذهب(12) مالك، وأصحابه، ومعظم علماء الحجاز والكوفة، والبخاريُّ، إلى التسوية بينهما، وحكاه أبو بكر الصَّيرفيُّ في «دلائله» عنِ الشَّافعيِّ، وذهب ابن أبي ذئب وأبو حنيفة إلى ترجيح القراءة على الشَّيخ على السماع من لفظه، وحُكِيَ ذلك عن مالك أيضًا، وحُكِيَ عن غيره من الجماعة العلماء، وذهب جمهور أهل الشَّرق إلى ترجيح السماع من لفظ الشَّيخ على القراءة عليه، وهو الصحيح.
          قوله: (وَاحْتَجَّ بَعْضُهُمْ فِي الْقِرَاءَةِ عَلَى الْعَالِمِ): المحتجُّ هو الحميديُّ عبد الله بن الزُّبير شيخه(13).
          قوله: (بِحَدِيثِ ضِمَامِ بْنِ ثَعْلَبَةَ): هو بكسر الضَّاد المعجمة، وبعدها ميم مخفَّفة، صحابيٌّ سعديٌّ، أحد بني سعد بن بكر ووافدهم، قصَّته مشهورة، قال مغلطاي وكذا شيخُنا الشَّارح: (كان قدومه سنة تسعٍ فيما قاله أبو عبيدة، والطبريُّ، وابن إسحاق، وقال الواقديُّ: «سنة خمس»)، انتهى، وفي «الاستيعاب» في ترجمة ضِمَام السعديِّ: (ويقال: التميميُّ، وليس بشيء، قدم وافدًا في سنة خمس، قاله محمَّد بن حبيب وغيره، وقيل: سنة سبع، وقيل: تسع، ذكره ابن هشام عن أبي عبيدة)، انتهى.
          وظاهر سياق الحديث أنَّه لَمْ يأت مسلمًا، وإنَّما أسلم بعدُ، وقد بوَّب عليه أبو داود: (باب في المشرك يدخل المسجد)، قال شيخنا الشَّارح: (لا جرم، قال القاضي: «إنَّه لَمْ يأتِ إسلامه بعد، وإنَّما جاء مستفتيًا»)، انتهى، ثُمَّ شرع شيخنا يستدلُّ لكلام القاضي وأبي داود، والذي رأيته في «شرح مسلم» فيما نقله النَّوويُّ عنه قال: (والظاهر: أنَّ هذا الرجل لَمْ يأت إلَّا بعد إسلامه، وإنَّما كان مستثبتًا ومشافهًا للنَّبيِّ صلعم، والله أعلم)، انتهى(14).
          قوله: (آللهُ أَمَرَكَ): هو بمدِّ الهمزة؛ للاستفهام.
          قوله: (بِالصَّكِّ): هو بفتح الصَّاد المهملة، وتشديد الكاف: الكتاب، ويجمع على (صِكاك) و(صُكوك).
          قوله: (يُقْرَأُ): مبنيٌّ لِما لم(15) يُسمَّ فاعله، مهموز مرفوع، وهذا ظاهر.


[1] في (ب): (المجمع).
[2] ما بين معقوفين ليس في (ب)، وانظر «علوم الحديث» (ص137▒.
[3] في (ب): (مثيله).
[4] في (ب): (وإني).
[5] في (ب): (تكلم).
[6] في (ب): (قاله).
[7] ما بين معقوفين ليس في (ب).
[8] في (ب): (هلال).
[9] في (ج): (أحدث).
[10] في (ب): (تلتفت).
[11] (لا): ليس في (ب).
[12] في (ج): (فمذهب).
[13] في (ج): (وشيخه)، قال الحافظ ابن حجر في «الفتح» ░1/180▒: (المحتجُّ بذلك هو الحميديُّ شيخُ البخاريِّ، قاله في كتاب «النوادر» له، كذا قال بعضُ مَن أدركتُه، وتبعتُه في «المقدِّمة»، ثمَّ ظهر لي خلافه، وأنَّ قائل ذلك أبو سعيدٍ الحدَّاد، أخرجه البيهقيُّ في «المعرفة»)، وانظر «هُدَى الساري» (ص265▒.
[14] (والله أعلم انتهى): ليس في (ب)، وانظر «المنهاج شرح مسلم» ░1/124▒، وكذا هي العبارة في «إكمال المُعْلِم» ░1/220▒.
[15] (لم): ليس في (ب).