عمدة القاري في شرح صحيح البخاري

باب كيف يقبض العلم
  
              

          ░34▒ (ص) بابٌ كَيْفَ يُقْبَضُ الْعِلْمُ؟
          (ش) أي: هذا بابٌ، و(البابُ) مُنوَّنٌ، والمعنى: هذا بابٌ في بيانِ كيفيَّةِ قَبضِ العلم.
          و(كَيْفَ) تُسْتَعْمَلُ في الكلام على وَجهينِ:
          أَحَدُهما: أَنْ تَكونَ شَرْطًا، فتَقْتَضِي فعلينِ مُتَّفقَي اللَّفْظِ والمعنى، غير مجزومين؛ نحو: (كيفَ تصنَعُ؛ أَصْنَعُ)، ولا يجوز (كيفَ تَجْلِسُ أَذْهَبُ) باتِّفاقٍ، ولا: (كَيْفَ تجلسْ أجلِسْ) بالْجَزْم عند البصريِّين إلَّا قُطرُبًا.
          والآخر: وهو الغالِبُ فيها: أنْ تكونَ استفهامًا؛ إمَّا حقيقيًّا؛ نحو: (كيفَ زيدٌ؟) أو غيره؛ نحو: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ} الآية[البقرة:28]، فإنَّهُ أُخْرِجَ مُخرَج التَّعجُّب.
          و(القَبْضُ) نَقيضُ البَسْطِ، والمرادُ منه: الرَّفْعُ والانطواءُ؛ كما يُرادُ مِنَ (البَسْطِ) الانتشار.
          وجهُ المناسَبة بين البابينِ من حَيثُ إنَّ المذكورَ في البابِ السَّابِقِ الحرصُ على الحديثِ الذي هُوَ مِنْ أَشْرَفِ أنواع العُلومِ، والمذكورُ في هذا الباب ارتفاعُ العُلومِ، فبينهما تقابُلٌ، فتَناسَقَا من هذه الْجِهة، أو إنَّما ذَكَر هذا البابَ عَقيب البابِ السابق؛ تنبيهًا على أَنْ يُغتَنَمَ بتحصيلِ العُلومِ معَ الْحِرْص عليها؛ لأنَّها مِمَّا تُقبَضُ وتُرْفَعُ، فتُستَدرَكُ غنائمُها قبل فواتِها.
          (ص) وَكَتَبَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ إِلَى أَبِي بَكْرِ بْنِ حَزْمٍ ☻: انْظُرْ مَا كَانَ مِنْ حَدِيثِ رَسُولِ اللهِ صلعم ؛ فَاكْتُبْهُ، فَإِنِّي خِفْتُ دُرُوسَ الْعِلْمِ وَذَهَابَ الْعُلَمَاءِ، وَلَا يُقْبَلُ إِلَّا حَدِيثُ النَّبِيِّ صلعم ، وَلْتُفْشُوا الْعِلْمَ، وَلْتَجْلِسُوا حَتَّى يُعَلَّمَ مَنْ لَا يَعْلَمُ؛ فَإِنَّ الْعِلْمَ لَا يَهْلِكُ حَتَّى يَكُونَ سِرًّا.
          (ش) هذا تعليقٌ لَمْ يَقَعْ وصلُه عند الكُشْميهَنيِّ وكريمةَ وابنِ عساكِرَ، ووقَعَ وصلُهُ للبُخَاريِّ عند غَيرِهِم، وهو بقولِهِ في بَعضِ النُّسَخِ: <حَدَّثَنا العَلَاءُ بنُ عَبدِ الجَبَّار...> إلى آخرِهِ، على ما يأتي ذِكْرُهُ عن قريبٍ، وقد روى أبو نُعيمٍ في «تاريخ أصبهان» هذه القصَّة بلفظِ: (كَتَبَ عُمَرُ بن عبد العزيز ☺ إلى الآفاقِ: انظُروا حديثَ رسولِ الله صلعم ، فاجمعوهُ).
          أمَّا (عُمَرُ بْنُ عَبْدِ العَزِيزِ) فَهوَ أَحَدُ الخُلفاء الراشدين المهديِّين، وقد مَرَّ في (كتابِ الإيمان).
          وأمَّا (أَبُو بَكْرِ بنِ حَزْمٍ) فهو ابنُ مُحَمَّد بن عَمْرو بن حَزٍمٍ _بفتح الحاء المُهْمَلة، وسكون الزاي_ ابن زيدِ بن لَوذان بن عُمَر بن عَبد عوف بن مالك بن النجَّار، الأنصاريُّ المدَنِيُّ، قال الخطيبُ: يُقال: إنَّ اسمَهُ أبو بكرٍ، وكُنيتَهُ أبو مُحَمَّد، ومثلُه: أبو بَكْر بن عبد الرحمن بن الحارث، أحد الفقهاء السَّبْعَةِ، كُنيتُهُ أبو عبد الرحمن، قال الخطيبُ: لا نَظِيرَ لَهُما، وقد قِيلَ في أبي بَكْر بن مُحَمَّد: إنَّه لا كُنْيَةَ له غير أبي بَكرٍ اسمه، وقال أبو عُمر بن عبد البَرِّ: قيلَ: إنَّ اسمَ أبي بَكْر بن عبد الرحمن هذا: المغيرة، ولا يَصِحُّ.
          قلت: أَرادَ الخطيبُ بقوله: (لا نَظيرَ لَهُما) أي: مِمَّنِ اسمُه أبو بكرٍ، وله كُنْيَةٌ، وأمَّا مَن اشتُهِرَ بِكُنْيَتِهِ ولم يُعْرَف له اسمٌ غيرهُ؛ فَكثيرٌ، / ذكر ابنُ عبد البَرِّ منهم جماعَةً.
          وأبو بَكْر بن حَزمٍ وَلِّيَ القضاء والإمْرةَ والموسِمَ لسليمان بن عبد الملِكِ وعُمَر بن عبد العزيز، وقال الواقديُّ: لَمَّا وَلِّيَ عُمرُ بن عبد العزيز الخلافَةَ؛ وَلَّى أبا بكرٍ إِمْرَةَ المدينة، فاستقضى أبو بكر ابنَ عمِّهِ على القضاء، وكان أبو بكرٍ هو الذي يصلِّي بالنّاس ويتولَّى أمرهم، وكان يخضبُ بالْحَنَّاء والكَتْم، توفِّي سَنَةَ عشرين ومئةٍ في خلافَةِ هِشام بن عبد الملك وهو ابنُ أربعٍ وثمانين سَنَةً، روى له الجماعَةُ إلَّا التِّرْمِذيَّ.
          سُئِلَ يَحيى بن مَعينٍ عن حديثِ عثمان بن حكيم عن أبي بَكْر بن مُحَمَّد بن عَمْرو بن حَزمٍ: (عُرِضْتُ على النَّبِيِّ صلعم )، فقال: مُرْسَلٌ.
          قوله: (انْظُرْ مَا كَانَ مِنْ حَدِيثِ) أي: اجْمَعِ الذي تَجِد، ووقَعَ هنا للكُشْميهَنيِّ: <عِنْدَكَ>، معناهُ: في بَلدِكَ.
          قولُهُ: (فَاكْتُبْهُ) فيهِ إشارَةٌ إلى أَنَّ ابتداءَ تدوينِ الحديث النبويِّ كانَ في أيَّام عُمَر بن عبد العزيز ☺ ، وكانوا قَبْلَ ذلكَ يَعْتَمِدون على الْحِفْظِ، فَلمَّا خَافَ عُمَرُ ☺ ، وكانَ على رأسِ المئة الأولى مِن ذهابِ العلمِ بِموتِ العلماء؛ رأى أنَّ في تدوينه ضَبطًا له وإبقاءً.
          قولُهُ: (فَإِنِّي) الفاءُ فيه للتعليل.
          قولُهُ: (دُرُوسَ الْعِلْمِ) بِضَمِّ الدال، مِن دَرَسَ يَدْرُسُ، من (باب: نَصَرَ يَنْصُرُ)، دُروسًا؛ أي: عَفَا، ودرستُ الكتابَ أَدْرُسُهُ وأدرِسُه، من (بابَ نَصَرَ يَنْصُر)، و(ضَرَبَ يَضْرِبُ)، دَرْسًا ودِراسَةً، ودَرَسَ الْحِنْطَةَ دَرْسًا ودِراسًا؛ أي: داسَها.
          قولهُ: (وَلَا يُقْبَلُ) بِضَمِّ الياءِ؛ أعني: حرف المضارعة.
          قولُهُ: (وَلْتُفْشُوا) بصيغَةِ الأمرِ، مِنَ الإفشاءِ، وهو الإشاعَةُ، ويجوز فيه تَسكينُ اللامِ؛ كما في بعضِ الروايات، وقولُهُ: (الْعِلْمَ) بالنَّصبِ، مَفعوله.
          قوله: (وَلْيَجْلِسُوا) بصيغَةِ الأمرِ أيضًا، مِنَ الجلوسِ، لا مِنَ الإجلاسِ، ويجوزُ في لامِهِ التسكينُ أيضًا.
          قولُهُ: (حَتَّى يُعَلَّمَ) على صيغَةِ المجهولِ، مِنَ التعليمِ؛ أعني: بتَشديد اللام، وفي رواية الكُشْميهَنيِّ: <حَتَّى يَعْلَمَ> بفتح حَرْفِ المضارعة واللام، مِنَ العلم.
          قولُهُ: (مَنْ لَا يَعْلَمُ) بصيغَةِ المعلومِ، مِنَ العلم، وكَلِمَةُ (مَنْ) مَوصولَةٌ، في مَحلِّ الرَّفْعِ؛ لأنَّهُ فاعِلُ (يَعلَم) الذي هو على صيغة المعلوم، وأمَّا إذا قُرِئَ على صيْغَةِ المجهولِ مِنَ التعليم؛ يكونُ مفعولًا نابَ عنِ الفاعل؛ فافْهَمْ.
          قولُهُ: (لَا يَهْلِكَ) بِفَتْحِ حرفِ المضارعة، وكسرِ اللام؛ أي: لا يَضيعَ، وفتحُ اللامِ لُغَةٌ، وقرأ الحسن البصريُّ وأبو حَيْوةَ وابنُ أبي إِسْحاق: {وَيَهْلَكَ الْحَرْثُ وَالنَّسْلُ}[البقرة:25] بفتح الياء واللام، ورفع الثاء.
          قوله: (حَتَّى يَكُونَ سِرًّا) أي: خفْيَةً، وأرادَ بِهِ كِتمانَ العلمِ، وقال ابن بَطَّالٍ: في أَمْرِ عُمر بن عبد العزيز بكتابَةِ حديثِ النَّبِيِّ صلعم خاصَّةً وألَّا يقبل غيرهُ: الحضُّ على اتِّباع السُّنَنِ وضَبْطِها؛ إذ هي الحجَّةُ عند الاختلاف، وفيه: أنَّه ينبغي للعالمِ نَشْرُ العِلْمِ وإذاعتُه.
          (ص) حَدَّثَنَا الْعَلَاءُ بْنُ عَبْدِ الْجَبَّارِ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُسْلِمٍ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ دِينَارٍ بِذَلِكَ؛ يَعْنِي: حَدِيثَ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ ☺ ، إِلَى قَوْلِهِ: (ذَهَابَ الْعُلَمَاءِ).
          (ش) أشارَ بهذا إلى أنَّهُ رَوى أَثَرَ عُمَرَ بنِ عبد العزيز مَوْصُولًا، ولكن إِلَى قَوْلِهِ: (ذَهَابَ الْعُلَمَاءِ)، فَسَّرَ ذلك بقولِهِ: (يَعْنِي: حَدِيثَ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ إِلَى قَوْلِهِ: ذَهَابَ الْعُلَمَاءِ).
          قال الكَرْمَانِيُّ: قولُهُ: «بذلِكَ» يَعْنِي: بجميعِ ما ذُكِرَ؛ يعني: إلى قولِهِ: «حتَّى يَكونَ سِرًّا»، ثُمَّ قال: وفي بَعضِ النُّسَخ بعدَهُ: <يعني> بعدَ قولِهِ: «بذلك؛ يعني: حديث عُمر بن عبد العزيز إلى قولِهِ: ذهاب العلماء»، ثُمَّ قال: والمقصودُ منهُ: أنَّ العلاءَ روى كلامَ عُمر بن عبد العزيز إلى قولِهِ: ذهاب العلماء فَقَط.
          قلتُ: أمَّا بعد قوله: (ذهابُ العلماء) يحْتَملُ أنْ يَكونَ مِن كلام عُمر، ولكنَّهُ لَمْ يدخلْ في هذه الرواية، ويحْتَملُ ألَّا يكونَ مِن كلامِهِ، وهو الأظهرُ، وبِهِ صَرَّحَ أبو نُعيمٍ في «المستخرَج»، فإذا كان كذلك؛ يكونُ هذا مِن كلام البُخَاريِّ، أورَدَهُ عَقِيب كلام عُمَر بن عبد العزيز بعد انتهائِهِ: أنبأَنِي الشَّيخ قُطبُ الدين عبدُ الكريم إجازَةً قال: أَخْبَرَنِي جَدِّي إجازَة الحافظ الثِّقة العَدل قطب الدين عبد الكريم: حدَّثنا مُحَمَّد بن عبد المُنعِم بقراءتي عليه: أنبأنا عبدُ العزيز بن بَاقاء البغداديُّ / إجازةً: أنبأنا يَحيى بن ثابتٍ سَماعًا: أنبأنا ثابتُ بن بُنْدَار: أنبأنا الإمامُ الحافظ أبو بَكر أحمد بن مُحَمَّد بن غالب البَرْقَانِيُّ: أنبأنا الإمام الحافظ الإسماعيليُّ: حدَّثنا العلاءُ بن عبد الجبَّار: حدَّثنا عبد العزيز بن مُسلمٍ عن عبد اللَّه بن دينارٍ قال: كتب عُمَر بنُ عبد العزيز إلى أبي بكرِ بن حَزمٍ...؛ فَذَكَرَهُ إلى قوله: (وذهابَ العُلماءِ).
          فإنْ قُلتَ: لِمَ أَخَّرَ إسنادَ كلامِ عُمَر بن عبد العزيز عن كلامِهِ والعادَةُ تقديمُ الإسناد؟
          قلت: قالَ الكَرْمَانِيُّ: للفَرْقِ بين إسنادِ الأَثَرِ وبين إسنادِ الخبَرِ، وفيه نَظَرٌ؛ لأنَّهُ غَير مُطَّرِدٍ، ويحْتَملُ أَنْ يكونَ قَدْ ظَفرَ بإسنادِهِ بعد وضعِ هذا الكلام، فأَلْحَقَهُ بالأخيرِ، على أنَّا قلنا: إنَّ هذا الإسنادَ ليسَ بِموجودٍ عند جَماعَةٍ.
          وأمّا (العَلَاءُ بْنُ عَبْدِ الجَبَّارِ) فَهو أبو الحسن البصريُّ الْعَطَّار الأنصاريُّ مولاهُم، سَكَنَ مَكَّةَ، أخرجَ البُخَاريُّ من روايةِ أَبِي إِسْحاق وأبي الْهَيثمِ في (العلمِ) عنه عن عبد العزيز، وهو هذا الأثر، لم يُخرِّج عنه غيرهُ، قال أبو حاتمٍ: صَالِحُ الْحَديثِ، وقال العِجْلِي: ثِقَةٌ، توفِّي سَنَةَ اثنتَي عَشْرَةَ ومِئتين، وروى التِّرْمِذيُّ والنَّسائيُّ وابنُ ماجَه عن رَجلٍ عنهُ، ولم يُخرِّج له مُسلِمٌ شيئًا.
          و(عَبْدُ العَزِيزِ بْنُ مُسْلِمٍ) القَسْمَلِيُّ مولاهم، أخو المغيرة بن مسلمٍ، الخراسانيُّ الْمِرْوزِيُّ، نسبةً إلى القَسامِلَة، وقيل لهم ذلك؛ لأنَّهم مِنْ وَلَدِ قَسْمَلَةَ، واسمُهُ معاويَة بن عَمْرو بن مالك بن فَهْم بن غَنْم بن دَوْس بن عدنان، ولهم مَحلَّةٌ بالبَصْرَةِ معروفة بالقَسَامِل، وقيل: نَزِلَ فيهم، فَنُسِبَ إليهم، وأخرَجَ له البُخَاريُّ في (التَّعبيرِ) و(الذبائح) و(كتاب الْمَرْضى) وغير مَوضعٍ عن مُسلمِ بن إسماعيل عنه، عن عبد اللَّه بن دينارَ، وحُصَين، والأعمش، وأخرجَ له هذا الأثرَ عن العلاءِ عنهُ، قال يَحيى بن مَعينٍ وأبو حاتمٍ: ثِقَةٌ، وقال يَحيى بن إِسْحاق: حدَّثنا عبد العزيز بن مُسلمٍ، وكانَ مِنَ الأبدال، قال عَمْرو بن عليٍّ: ماتَ سَنَةَ سَبعٍ وستِّين ومئة، روى له الجماعَةُ إلَّا ابنَ ماجَه.
          وأمّا (عَبْدُ اللَّه بْنُ دِينَارٍ) القُرَشِيُّ الْمَدنِيُّ مولى ابن عُمر؛ فقد مَرَّ في (باب أُمور الإيمانِ).