عمدة القاري في شرح صحيح البخاري

باب الاعتكاف في العشر الأواخر
  
              

          ░1▒ (ص) باب الاِعْتِكَافِ فِي الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ.
          (ش) أي: هذا باب في بيان الاعتكاف في العشر الأواخر مِن رمضان، وقد ورد الاعتكافُ بلفظ المجاورة، ففي «الصحيح» من حديث أبي سعيدٍ: كان رسولُ الله صلعم يُجَاوِرُ في العَشْرِ الأوسط مِن رمضان... الحديث، وفي «الصحيح» في قصَّة بَدء الوحي: أنَّهُ كان يجاور بحِرَاء.
          وقد اختلفوا: هل المجاورة الاعتكاف أو غيره؟ فقال عَمْرو بن دِينار: الجوارُ والاعتكافُ واحدٌ، وسُئِل عطاء بن أبي رَبَاح: أرأيت الجوار والاعتكاف؛ أمختلفان هما أو شيء واحد؟ وقال: بل هما مختلفان، كانت بيوتُ النَّبِيِّ صلعم في المسجد، فلمَّا اعتكف في شهر رمضان خرج مِن بيوته إلى بطن المسجد، فاعتكف فيه، قلت له: فإن قال إنسانٌ: عَلَيَّ اعتكاف أيَّامٍ؛ ففي جوفِه لا بدَّ؟ قال: / نعم، وإن قال: عليَّ جوار أيَّام؛ فبابه أو في جوفه إن شاء، هكذا رواه عبدُ الرَّزَّاق في «المصنَّف» عنهما، قال شيخُنا: وقولُ عَمْرِو بنِ دِينار هو الموافقُ للأحاديث، ولمَّا ذكر صاحبُ «الإكمال» حدَّ الاعتكاف قال: ويُسمَّى أيضًا جِوارًا.
          (ص) والاعْتِكافِ فِي المَسَاجِدِ كُلِّهَا؛ لِقَوْلِهِ تَعالَى: {وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ الله فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ}[البقرة:187].
          (ش) (وَالاعْتِكَافِ) بالجرِّ عطفًا على لفظ (الاعتكاف) الأَوَّل، وقيَّده بـ(المَسَاجِد) لأنَّه لا يصحُّ في غير المساجد، وجمع (المَسَاجِد) وأكَّدَها بلفظ (كُلِّهَا) إشارةً إلى أنَّ الاعتكاف لا يختصُّ بمسجدٍ دون مسجدٍ، وفيه خلافٌ؛ فقال حذيفةُ: لا اعتكافَ إلَّا في المساجد الثلاثة: مسجد مكَّة والمدينة والأقصى، وقال سعيدُ بن المُسَيَِّبِ: لا اعتكافَ إلَّا في مسجد نبيٍّ، وفي «الصوم» لابن أبي عاصمٍ بإسناده إلى حذيفةَ: لا اعتكافَ إلَّا في مسجدِ رسول الله صلعم ، وروى الحارث عن عليٍّ ☺ : لا اعتكاف إلَّا في المسجد الحرام ومسجد المدينة.
          وذهب هؤلاء إلى أنَّ الآيةَ خرجت على نوعٍ مِنَ المساجد، وهو ما بناه نبيٌّ؛ لأنَّ الآيةَ نزلت على رسول الله صلعم ، وهو معتكفٌ في مسجده، فكان القصد والإشارة إلى نوع تلك المساجد مِمَّا بناه نبيٌّ، وذهب طائفةٌ إلى أنَّهُ لا يصحُّ الاعتكافَ إلَّا في مسجدٍ تُقامُ فيه الجمعة، رُوِيَ عن عليٍّ وابن مسعودٍ وعروة وعطاء والحسنِ والزُّهْريِّ، وهو قول مالكٍ في «المدوَّنة» قال: أَمَّا مَن تلزمه الجمعة فلا يعتكف إلَّا في الجامع، وقالت طائفةٌ: الاعتكاف يَصحُّ في كلِّ مسجدٍ، رُوِيَ ذلك عنِ النَّخَعِيِّ وأبي سَلَمَةَ والشعبيِّ، وهو قول أبي حَنيفة والثَّوْريِّ والشَّافِعِيِّ _في الجديد_ وأحمد وإسحاق وأبي ثورٍ وداود، وهو قول مالكٍ في «الموطَّأ»، وهو قول الجمهور والبُخَاريِّ أيضًا؛ حيث استدلَّ بعموم الآية في سائر المساجد، وقال صاحب «الهداية»: الاعتكاف لا يصحُّ إلَّا في مسجدِ الجماعة، وعن أبي حنيفة ☺ : أنَّهُ لا يصحُّ إلَّا في مسجد يُصلَّى فيه الصلوات الخمس، وقال الزُّهْريُّ والحَكَم وحمَّاد: هو مخصوصٌ بالمساجد التي يُجمَّع فيها، وفي «الذخيرة» للمالكيَّة: قال مالكٌ: يعتكف في المسجد، سواءٌ أُقيمَ فيه الجمعة أم لا، وفي «المنتقى» عن أبي يوسف: الاعتكاف الواجبُ لا يجوز أداؤه في غيرِ مسجد الجماعة، والنفل يجوز أداؤه في غير مسجد الجماعة، وفي «الينابيع»: لا يجوز الاعتكاف الواجبُ إلَّا في مسجدٍ له إمامٌ ومؤذِّنٌ معلوم، يُصَلَّى فيه خمس صلوات، ورواه الحسن عن أبي حنيفة.
          ثُمَّ أفضل الاعتكاف ما كان في المسجد الحرام، ثُمَّ في مسجد النَّبِيِّ صلعم ، ثُمَّ في بيتِ المقدس، ثُمَّ في المسجد الجامع، ثُمَّ في المساجد التي يكثر أهلُها وتعظم، وقال: النَّوَوِيُّ: ويصحُّ في سطح المسجد ورحبته؛ كقولنا؛ لأنَّهما مِنَ المسجد.
          وقال أيضًا: المرأةُ لا يصحُّ اعتكافها إلَّا في المسجد كالرجلِ، وقال ابن بَطَّالٍ: قال الشَّافِعِيُّ: تعتكف المرأة والعبد والمسافر حيث شاؤوا، وقال أصحابنا: المرأة تعتكف في مسجدِ بيتها، وبه قال النَّخَعِيُّ والثَّوْريُّ وابن عُلَيَّةَ، ولا تعتكف في مسجد جماعةٍ، ذكره في الأصل، وفي «مُنية المفتي»: لو اعتكفت في المسجد جاز، وفي «المحيط»: رَوَى الحسن عن أبي حنيفة جوازه وكراهته في المسجدِ، وفي «البدائع»: لها أن تعتكفَ في مسجد الجماعة في رواية الحسنِ عن أبي حنيفة، ومسجد بيتها أفضلُ لها مِن مسجد حَيِّها، ومسجد حَيِّها أفضل لها مِنَ المسجد الأعظم.
          قوله: (لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ...}) الآية، وجه الدلالة مِنَ الآية: أنَّهُ لو صحَّ في غير المسجد لم يختصَّ تحريم المباشرة به؛ لأنَّ الِجماع منافٍ للاعتكاف بالإجماع، فعُلِم مِن ذكر {المَسَاجِدِ} أنَّ المراد أنَّ الاعتكاف لا يكون إلَّا فيها، ونقل ابن المُنذر الإجماع على أنَّ المرادَ بالمباشرةِ في الآية الجماعَ، وقال عليُّ بن طلحة عن ابن عَبَّاسٍ: هذا في الرجل يعتكفُ في المسجد في رمضانَ أو في غير رمضان، يَحرُم عليه أن ينكح النساء ليلًا أو / نهارًا، حَتَّى يقضيَ اعتكافه، وقال الضحَّاك: كان الرجلُ إذا اعتكف فخرج مِنَ المسجد جامع إن شاء، فقال الله تعالى: {وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} أي: لا تقربوهنَّ ما دمتم عاكفين في المسجد ولا في غيره، وكذا قال مجاهدٌ وقتادة وغير واحدٍ: إنَّهم كانوا يفعلون ذلك حَتَّى نزلت هذه الآية، وقال ابن أبي حاتم: ورُوِيَ عن ابن مسعود ومُحَمَّد بن كعب ومجاهد وعطاء والحسن وقتادة والضحَّاك والسُّدِّيُّ والربيع بن أنسٍ ومقاتل قالوا: لا يقربها وهو معتكفٌ، وهذا الذي حكاه عن هؤلاء هو الأمرُ المتَّفق عليه عند العلماء: أنَّ المعتكف يَحرُم عليه النساء ما دام معتكفًا في مسجده، ولو ذهب إلى منزله لحاجةٍ لا بدَّ منها؛ فلا يحل له أن يلبث فيه إلَّا بمقدارِ ما يفرغُ مِن حاجته تلك؛ مِن: غائطٍ أو بولٍ أو أكلٍ، وليس له أن يُقبِّل امرأته، ولا يضمَّها إليه، ولا يشتغل بشيءٍ سوى اعتكافه، ولا يعود المريضَ، لكن يسأل عنه، وهو مارٌّ في طريقه.
          قوله: ({تِلْكَ حُدُودُ الله}) أي: هذا الذي بَيَّنَّاهُ وفَرضناه وحدَّدناه في الصيام وأحكامِه وما أبحنا فيه وما حَرَّمنا وما ذكرنا غاياتِه ورُخَصَه وعزائمَه حُدُودُ الله، ({فَلَا تَقْرَبُوهَا}) أي: تجاوزوها أو تَعْتَدوها، وكان الضحَّاك ومقاتل يقولان في قوله: {تِلْكَ حُدُودُ الله} أي: المباشرة في الاعتكاف.
          وقوله: ({كَذَلِكَ يُبَيِّنُ الله آيَاتِهِ}) أي: كذلك يُبيِّن الله سائرَ أحكامِهِ على لسان نَبِيِّه مُحَمَّد صلعم {لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} أي: يعرفون كيف يهتدون وكيف يُطيعون.