الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب: الرهن مركوب ومحلوب

          ░4▒ (بابٌ) بالتَّنوينِ (الرَّهْنُ) أي: المرهُونُ (مَرْكُوبٌ وَمَحْلُوبٌ) بالحاء المهملةِ، هذهِ التَّرجمةُ لفظُ حدِيثٍ أخرجَهُ الحاكمُ وصحَّحهُ عن أبي هُريرةَ مرفُوعاً، قال الحاكمُ: لم يُخرجهُ الشَّيخانِ؛ لأنَّ سفيَانَ وغيرُهُ وقفوهُ على الأعمشِ، كذا في ((الفتح)).
          وفيه: أنَّ الشَّيخينِ خرَّجاهُ مرفُوعاً إلَّا أن يُريد لم يخرجَاهُ بلفظِ ما في التَّرجمةِ فتدبَّر، وذكر الدَّارقُطنيُّ الاختلافَ على الأعمشِ وغيرِهِ في رفعهِ ووقفهِ، ورجَّحَ الوقفَ وبه جزمَ التِّرمذيُّ وهو مسَاوٍ لحديثِ البابِ في المعنَى، لكن في حديثِ البابِ زيادةٌ بنفقَتهِ، وأخرجهُ ابنُ عَدي في ((الكامل)) والبيهقيُّ والدَّارقطنيُّ في ((سننهما)) عن أبي هُريرةَ بلفظِ قال: قال رسُولُ اللهِ صلعم: ((الرَّهْنُ محلُوبٌ ومَركُوبٌ)).
          وقال في ((التوضيح)) و((العمدة)): وعندَ ابن حزمٍ عن أبي هُريرةَ مرفُوعاً بلفظِ: ((إذا كانَتِ الدَّابَّةُ مرهُونةً فعَلَى المرتهنِ علفُهَا ولَبنُ الدُّرِّ يشرَبُ وعلى الَّذي يشرَبُ نفقَتهُ ويُركبُ))، والواوُ في قولهِ ومحلُوبٌ للتَّقسيمِ والمعنَى يركبُ المرتهنُ الرَّهنَ إذا كانَ من شأنِهِ أن يركبَ ويحلبَ إذا كانَ من شأنهِ ذلكَ، وقالَ شيخُ الإسلامِ: أي: يجوزُ كونُ الرَّهنِ حيوَاناً مَركُوباً ومحلُوباً، وقالَ الشَّافعيُّ: في معنَى الحدِيثِ يُشبهُ أن يكُونَ / المرادُ من رهنَ ذاتَ درٍّ وظهرٍ لم يمنعِ الرَّهنَ درها وظهرَهَا عليهِ؛ لأنَّ له رقبَتَها، انتهى.
          ومَا قالهُ الشَّافعيُّ هو القياسُ والمنقُولُ عن الجمهُورِ، لكن قد يدُلُّ للمعنَى الأوَّل قولُهُ.
          (وَقَالَ مُغِيرَةُ) أي: ابن مِقسَم _بكسرِ الميمِ_، وقالَ شيخُ الإسلامِ: كالعينيِّ مُغِيرَة _بضمِّ الميمِ وكسرِهَا_ وبلامِ التَّعريفِ ودُونهَا، انتهى.
          (عَنْ إِبْرَاهِيمَ) أي: النَّخعيِّ (تُرْكَبُ) بالفوقيَّةِ مبنيًّا للمفعُولِ (الضَّالَّةُ) أي: ما يضلُّ من الدَّوابِ ذَكراً كان أو أُنثَى (بِقَدْرِ عَلَفِهَا) بفتح اللام؛ أي: بقدرِ قيمَةِ علفِهَا الَّذِي تعلِفُه.
          (وَتُحْلَبُ بِقَدْرِ عَلَفِهَا) قال في ((الفتح)): ووقعَ في روايَةِ الكُشميهنيِّ بقدرِ عملِهَا والأوَّلُ أصوبُ، انتهى.
          ونسَبَ هذهِ الرِّوايةَ القسطَلانيُّ لأبي ذرٍّ في نسخَةٍ عن الكُشميهَنيِّ، وقولُ ((الفتح)) والأوَّلُ أصوَبُ يقتَضِي أنَّ الثَّانيةَ صوابٌ ولعلَّهُ غيرُ مرادٍ فتأمَّل، وأثرُ المغيرَةِ وصلهُ سعيدُ بن منصُورٍ عن هُشيمٍ عن مغيرَةَ به، قالَهُ في ((الفتح)).
          (وَالرَّهْنُ مِثْلُهُ) أي: مثلُ ما ذكرَ في الحُكمِ من أنَّ الضَّالَّة تركَبُ... إلخ.
          قال في ((الفتح)): وصَلهُ سعيدُ بن منصُورٍ بالإسنَادِ المذكُورِ قال: ولفظُهُ الدَّابَّةُ إذا كانَتْ مرهُونَةً تركَبُ بقدرِ علفِهَا وإذا كانَ لها لبَنٌ يشرَبُ منه بقدرِ علفِهَا، قال: وروَاهُ حمَّادُ بن سلمَةَ في ((جامعه)) عن حمَّادِ بن أبِي سليمانَ عن إبراهِيم بأوضحَ من هذا، ولفظُهُ: إذا ارتهَنَ شَاةً شرِبَ المرتهِنُ من لبنِهَا بقَدرِ ثمنِ علفِهَا فإن استفضَلَ من اللَّبنِ بعد ثمنِ العَلفِ فهُو ربًا، انتهى.
          ومثلُ ما ذكر الحديثَانِ المرفُوعَان في البابِ، ولعلَّ هذا مذهَبُ البُخاريِّ وجَرى عليه جماعَةٌ منهم أحمدُ وإسحَاقُ وطائفةٌ.
          قال الكرمانيُّ: ذهبَ الأكثرُ إلى أنَّ منفعةَ الرَّهنِ للرَّاهنِ ونفقتهُ عليه؛ لأنَّ الغنمَ بالغرمِ، وقال أحمَدُ: للمُرتَهنِ أن ينتفِعَ بالحَلبِ والرُّكُوبِ دون غيرِهِما بقدرِ النَّفقَةِ، فإنَّه دلَّ الحديثُ بمنطُوقِهِ على إباحَةِ الانتفَاعِ بالإنفَاقِ وانتفَاعُ الرَّاهنِ ليس كذلكَ، بل إباحَتُهُ من ملكِ الرَّقبةِ لا من الإنفَاقِ، ودلَّ بمفهُومِهِ على أنَّ جوازَ الانتفَاعِ مقصُورٌ على هذينِ النَّوعينِ من المنفَعةِ، وانتفَاعُ الرَّاهنِ غيرُ مقصُورٍ عليهمَا.
          وأجيبُ: بأنَّه منسُوخٌ بآيةِ الرِّبا فإنَّهُ يُؤدِّي إلى انتفَاعِ المرتَهنِ بدينِهِ وكلُّ قَرضٍ جرَّ منفَعةً فهو ربًا، قالَ: والأولَى أن يُجابَ بأنَّ الباقِي بنفقتِهِ ليسَت للبَدلِ بل للمعيَّةِ، والمعنَى: أنَّ الظَّهرَ يركَبُ ويُنفَقُ عليه، وبأنَّ مثلَ هذا المفهُومِ لا اعتبَارَ له، قال: والحقُّ أنَّ الحديثَ مجمَلٌ متنَاولٌ لكُلٍّ من الرَّاهنِ والمرتَهنِ فلا يُحمَلُ على أحدهِما إلَّا بدَليلٍ، انتهى.
          وقال ابنُ عبدِ البرِّ كمَا في ((الفتح)) وغيرُهُ: هذا الحدِيثُ عند جمهُورِ الفقهَاءِ القَائلينَ بأنَّ المرتَهنَ لا ينتَفعُ من المرهُونِ بشيءٍ يردُّهُ أصولٌ مجمَعٌ عليها وآثارٌ ثابتةٌ لا يختلفُ في صحَّتِها، ويدُلُّ على نسخِهِ حديثُ ابن عُمرَ المارِّ في المظالمِ بلفظِ: لا تحلَبُ ماشيةُ امرئٍ بغيرِ إذنِهِ، وما مرَّ في معنَاهُ وتعليلُهُ عن الشَّافعيِّ وإن اعترضَهُ الطَّحاويُّ بما مرَّ آنفاً من حديثِ الدَّابَّة إذا كانَتْ مرهُونةً... إلخ فإنَّه عيَّنَ فيه أنَّ المرادَ المرتهِنُ؛ لأنَّهُ أجابَ عنه بأنَّه محمُولٌ على ما كانَ قبلَ تحرِيمِ الرِّبا، أمَّا بعدَهُ فارتفَعَ به ما أُبيحَ فيه للمُرتهنِ.
          وتُعقِّب: بأنَّ النَّسخَ لا يثبُتُ بالاحتمَالِ والتَّاريخُ في هذا متعذِّرٌ، والجمعُ بين الأحاديثِ / ممكنٌ وذهبَ الأوزاعِيُّ واللَّيثُ وأبو ثورٍ إلى حملِهِ على ما إذا امتنعَ الرَّاهنُ من الإنفَاقِ على المرهونِ، فيُباحُ حينئذٍ للمُرتهنِ الإنفَاقُ على الحيوَانِ حفظاً لحياتِهِ ولإبقَاءِ الماليَّةِ فيه، وجعلَ له في مقَابلَةِ نفقتِهِ الانتفَاعَ بالرُّكوبِ أو بشُربِ اللَّبنِ بشرطِ أن لا يزيدَ قدرُ ذلك أو قيمَتُه على قدرِ علفِهِ وهي من جُملةِ مسائلِ الظَّفرِ.