الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب: إن أحال دين الميت على رجل جاز

          ░3▒ (باب إِذَا أَحَالَ) أي: حوَّلَ الشخصُ، وفي بعض النُّسَخ: <إن أحال> وكلاهما للشَّرطِ، لكن أصل: <إنْ> للشكِّ والجزم، و((إذا)) للتحقيقِ وعدمِ الجزمِ (دَيْنَ الْمَيِّتِ) وفي بعضِها: <بدَينِ الميِّتِ> أي: الدَّينَ الذي على الميِّتِ (عَلَى رَجُلٍ) ومثلُه المرأةُ (جَازَ) جوابُ: ((إذا)) أي: صحَّ هذا الفعلُ؛ وهو الحوالةُ، وزاد أبو ذرٍّ في التَّرجمة: <وإذا أحالَ على مليٍّ> والتَّرجمةُ الثانية مقدَّمةٌ عند غيره على البابِ في بابٍ مفردٍ، قاله في ((الفتح)).
          وتسميةُ ما ذُكرَ حوالةً شرعيةً فيها تجوُّزٌ، لكن أجازها الشارعُ لطفاً بالميِّتِ، وسيأتي كيفيَّتُها.
          قال ابنُ بطَّالٍ: إنَّما ترجمَ البُخاريُّ بالحوالةِ، ثم أدخَلَ حديثَ سلَمةَ وهو في الضَّمانِ؛ لأنَّ الحوالةَ والضمانَ متقاربان، وإليه ذهبَ أبو ثورٍ؛ لأنَّهما ينتظِمانِ في كونِ كلٍّ منهما نقلاً من ذمَّةٍ إلى ذمَّةٍ، والضمانُ في هذا الحديث: نقلُ ما في ذمَّةِ الميِّتِ إلى ذمَّةِ الضامن، فصار كالحوالةِ، انتهى.
          والحَمَالة _بفتح الحاء المهملة وتخفيف الميم_ بمعنى: الضَّمانِ، وقال ابنُ الملقِّنِ كابنِ بطَّالٍ: واختلف العلماءُ في الرجلِ يضمَنُ دَيناً معلوماً عن ميتٍ بعد موتِه ولم يترُكْ وفاءً، فقالت طائفةٌ: الضمانُ له لازمٌ، ترَكَ الميِّتُ شيئاً أم لا، هذا قولُ ابن أبي ليلى، وبه قال مالكٌ والشافعيُّ.
          وقال أبو حنيفةَ: لا ضمانَ على الكفيلِ؛ لأنَّ الدَّينَ قد توِيَ، فإنْ ترَكَ شيئاً ضمِنَ الكفيلُ بقدْرِ ما ترَكَ، فإنْ ترَكَ وفاءً، فهو ضامنٌ لجميعِ ما تكفَّلَ به.
          قال ابنُ المنذر: فخالفَ الحديثَ، وفي امتناعِه عليه السَّلامُ أن يصلَّى عليه قبل ضمانِ أبي قَتادةَ وصلاتِه عليه بعده بيانٌ واضحٌ على صحَّةِ ضمانِه، وأنَّ مَن ضمِنَ عن ميِّتٍ ديناً، فهو لازمٌ له، ترك الميِّتُ شيئاً أم لا؛ لأنَّهم قالوا له: ما ترَكَ وفاءً، انتهى.
          وقال الكرمانيُّ: والحديثُ حُجَّةٌ على أبي حنيفةَ حيثُ قال: لا يصِحُّ الضمانُ عن الميِّتِ إذا لم يترُكْ وفاءً، / انتهى.
          واعترضهم العينيُّ فقال: هذا إساءةُ أدبٍ، وحاشا أبا حنيفةَ أن يخالفَ الحديثَ الثابتَ عن رسولِ الله صلعم عند وقوفِه عليه، وكان الأدبُ أن يقولَ: ترَكَ العمَلَ بهذا الحديثِ ثم ترَكَه، إمَّا لأنَّه لم يثبُتْ عنده، أو لم يقِفْ عليه، أو ظهَرَ عنده نسخُه، وحديثُ أبي هريرةَ الآتي بعد أربعةِ أبوابٍ يدلُّ على النسخِ، وهو قولُه صلعم: ((أنا أَولى بالمؤمنين من أنفُسِهم، فمن توُفِّيَ من المؤمنين، فتَركَ دَيناً، فعليَّ قضاؤه، ومَن ترَكَ مالاً فلورثتِه))، انتهى وأطال.
          تنبيه: ذكر فقهاؤنا هذه الحوالةَ، وأنها تفُكُّ عن الميِّتِ حبسَ روحِه عن مقامِها الكريم، قال العلَّامةُ ابنُ حجَرٍ المكيُّ في ((التحفة)) عند قولِ ((المنهاج)) للإمام النَّوويِّ: يبادَرُ بقضاءِ دينِ الميِّتِ ووصيَّتِه، انتهى.
          قال: مُسارَعةً لفكِّ نفسِه عن حبسِها بدَينِها عن مقامِها الكريمِ، كما صحَّ عنه صلعم، وإن قالَ جمعٌ: محَلُّه فيمَن لم يخلُفْ وفاءً، أو فيمَن عصى بالاستِدانةِ؛ فإنْ لم يكُنْ بالتَّرِكةِ جِنسُ الدينِ، أو كان ولم يسهُلِ القضاءُ منه فوراً فيما يظهَرُ سألَ ندباً الوليُّ غُرماءَه أن يحتالوا به عليه، وحينئذٍ فتبرَأُ ذِمَّةُ الميِّتِ بمجرَّدِ رضَاهم بمصيرِه في ذمَّةِ الوليِّ، وإن لم يحلِّلُوه كما يصرِّحُ به كلامُ الشافعيِّ والأصحابِ، بل صرَّح به كثيرٌ منهم للمصلحةِ للميِّتِ، وإن كان ذلك ليس على قاعدةِ الحوالةِ ولا الضَّمانِ، قاله في ((المجموع)).
          والأجنبيُّ في ذلك كالوَليِّ، كما قاله الزَّركشيُّ وغيرُه أخذاً من الحديث الصَّحيحِ أنه عليه السَّلامُ: ((امتنَعَ من الصَّلاةِ على مَدينٍ حتى قال أبو قَتادةَ: عليَّ دَينُه)) وفي روايةٍ صحيحةٍ: ((لمَّا ضمِنَ الدِّينارَين اللذَين عليه، جعَلَ النَّبيُّ صلعم يقول: هما عليك، والميِّتُ منهما بريءٌ، فقال أبو قَتادةَ: نعم، فصلَّى عليه النَّبيُّ)).
          ولا فرقَ في ذلك بين أن يخلُفَ ترِكةً أو لا، وينبغي لمَن فعَلَ ذلك أن يسألَ الدائنَ تحليلَ الميِّتِ تحليلاً صحيحاً ليبرَأَ بيقينٍ، وليخرُجَ من خلافِ مَن زعَمَ أنَّ ذلك التحمُّلَ والضمانَ لا يصِحُّ.
          قال جمعٌ: وصورةُ ما قاله الشافعيُّ والأصحابُ من الحوالة: أن يقولَ للدائنِ: أسقِطْ حقَّكَ عنه، أو: أبرِئْه وعليَّ عِوَضُه، فإذا فعل ذلك برِئَ الميِّتُ، ولزِمَ الملتزِمَ ما التزَمَه؛ لأنَّه استدعاءُ مالٍ لغرضٍ صحيحٍ، انتهى.
          وقولُهم: هذا مجرَّدُ تصويرٍ لما مرَّ عن ((المجموع)) أنَّ مجرَّدَ تراضيهما بمصير الدَّينِ في ذمَّةِ الوليِّ مثلاً يُبرئُ الميِّتَ، فيلزَمُه وفاؤه من مالِه وإن تلِفَتِ التَّركةُ، ولا ينقطعُ تعلُّقُ الدَّينِ بالتركةِ حتى يؤدَّى، كما قال بعضُهم؛ لما في ذلك من الاحتياطِ والمصلحةِ للميِّتِ، انتهى ملخَّصاً، فاعرِفْه.