الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

حديث: قضى رسول الله بالشفعة في كل ما لم يقسم

          2257- وبالسند قال: (حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ) قال: (حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ) أي: ابنُ زيادٍ، قال: (حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ) بفتح الميمين؛ أي: ابنُ راشدٍ (عَنِ الزُّهْرِيِّ) أي: محمدِ بنِ مسلِمٍ (عَنْ أَبِي سَلَمَةَ) بفتحات (ابْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) واختُلفَ على الزُّهريِّ في هذا الإسنادِ، فرواه الشافعيُّ وغيرُه عن مالكٍ عنه عن أبي سلَمةَ وابنِ المسيَّبِ مُرسلاً، والمحفوظُ روايتُه عن أبي سلَمةَ (عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ) ☻.
          (قَالَ: قَضَى النبيُّ) ولغيرِ أبوَي ذرٍّ والوقتِ: <رسولُ الله> (صلعم بِالشُّفْعَةِ فِي كُلِّ مَا لَمْ يُقْسَمْ) بسكون القاف مبنياً للمفعول، و((ما)) موصولةٌ، أو نكِرةٌ موصوفةٌ؛ أي: في كلِّ شيءٍ مُشترَكٍ مُشاعٍ قابلٍ للقِسمةِ لم يُقسَمْ، وتقدَّمَ في كتابِ البيوعِ في بابِ بيعِ الأرضِ الاختِلافَ في قولِه: ((كلِّ ما لم يُقسَمْ)) أو: ((كلِّ مالٍ لم يُقسَمْ)) مع الكلامِ على الحديث مستَوفًى.
          (فَإِذَا وَقَعَتِ) بالقاف؛ أي: حصلَت (الْحُدُودُ) جمعُ: حدٍّ، وهو هنا: ما تتميَّزُ به الأملاكُ بعد القِسمةِ، كمِرفَقٍ ومَطبَخٍ، وأصلُ الحدِّ: المنعُ؛ لمنعِه خروجَ شيءٍ من المحدودِ، ودخولَ غيرِه فيه.
          (وَصُرِفَتِ الطُّرُقُ) جمعُ: طريقٍ، و((صُرِفت)) بالصاد المهملة وتخفيف الراء على ما قاله القسطلانيُّ مبنياً للمفعول، والذي رأيتُه في أصولٍ كثيرةٍ صحيحةٍ: ضبْطَه بتشديدِ الراءِ؛ أي: خُلِّصَتْ وبيِّنَت مصارِفُها وشوارِعُها، مشتقٌّ من: الصَّرِفِ _بكسر الراء_؛ وهو: الخالصُ من كلِّ شيءٍ، فقيل فيه: صرَّفَ وتصرَّفَ كما قيل من المحضِ: محَّضَ وتمحَّضَ، قاله الزركشيُّ.
          (فَلاَ شُفْعَةَ) أي: للشريكِ القديمِ؛ لأنَّه لم يبقَ في المالِ اشتِراكٌ، وقال الكرمانيُّ: ((صُرِفَتْ)) أي: مُنِعَتِ الطُّرقُ أو غُيِّرَتْ، وقال: وفي الحديثِ أنه لا شُفعةَ إلا في العقارِ، وخُصَّتْ به؛ لأنَّ الحِكمةَ في ثبوتِها: إزالةُ الضَّررِ عن الشريكِ، وهو أكثرُ الأنواعِ ضرَراً؛ لأنَّه يُرادُ للتَّأبيدِ، وقال: قالوا: الأشياءُ ثلاثةُ أقسامٍ: ما تثبُتُ فيه الشُّفعةُ متبوعاً؛ كالأرضِ، وما تثبُتُ فيه تابعاً؛ كالنَّخلِ، وما لم يثبُتْ تابِعاً ولا متبوعاً كالطَّعامِ.
          وهذا الحديثُ _كما في ((الفتح)) وغيرِه_ أصلٌ في ثبوتِ الشُّفعةِ، وأخرجه مسلمٌ عن جابرٍ بلفظِ: ((قضى رسولُ الله صلعم بالشُّفعةِ في كلِّ شِرْكٍ لم يُقسَمْ؛ رَبْعةٍ أو حائطٍ، لا يحِلُّ له أن يبيعَ حتى يؤذِنَ شريكَه، فإن شاءَ أخَذَ، وإن شاءَ ترَكَ، فإذا باعَ ولم يؤذِنْه، فهو أحقُّ به)) وقولُه: ((رَبْعةٍ)) بفتح الراء، تأنيثُ: الرَّبْعِ؛ وهو: المنزِلُ، بدلٌ من: ((شِرْكٍ)) أو عطفُ بيانٍ، وقوله: ((أو حائطٍ)) أي: بستانٍ، عُطفَ عليه.
          وتضمَّنَ ثبوتَ الشُّفعةِ في المشاعِ، وصدرُه يُشعِرُ بثُبوتِها في المنقولاتِ، وسياقُه يُشعِرُ باختصَاصِها بالعَقارِ وبما فيه، وأخذَ بعمومِها في كلِّ شيءٍ مالكٌ في روايةٍ، وهو قولُ عطاءٍ، ومشهورُ مذهبِ مالكٍ: تخصيصُها بالعقارِ، وعن أحمدَ: تثبُتُ في الحيَواناتِ أيضاً دون باقي المنقولاتِ، واستَدلَّ مَن قال بعُمومِها في كلِّ شيءٍ بما رواه البَيهَقيُّ عن ابنِ عبَّاسٍ رفعَه: ((الشُّفعةُ في كلِّ شيءٍ)).
          قال في ((الفتح)): ورجالُه ثِقاتٌ، / إلا أنَّه أُعلَّ بالإرسالِ وأخرجَ الطَّحاويُّ له شاهداً من حديثِ جابرٍ بإسنادٍ لا بأسَ به.
          قال القاضي عياضٌ: لو اقتصَرَ في الحديثِ على القطعةِ الأولى لكانت فيه دلالةٌ على سقوطِ شُفعةِ الجِوارِ، ولكن أضافَ إليها صَرْفَ الطُّرقِ، والمرتَّبُ على أمرَين لا يلزَمُ منه ترتُّبُه على أحدِهما، واستُدلَّ بالحديثِ على ثبوتِ الشُّفعةِ لكلِّ شريكٍ، وعلى عدمِ دخولِها فيما لا يقبَلُ القِسمةَ أصلاً، أو يقبَلُها بضررٍ بيِّنٍ؛ كحمَّامٍ صغيرٍ، وعن أحمدَ: لا شُفعةَ لذمِّيٍّ، وعن الشعبيِّ: لا شُفعةَ لمَن لم يسكُنِ المِصرَ.
          وقال ابنُ الملقِّنِ كابنِ بطَّالٍ: واتَّفقَ مالكٌ وأبو حنيفةَ والشافعيُّ على أنَّ المسلِمَ والذِّميَّ في أخذِ الشُّفعةِ سَواءٌ. وعن الشعبيِّ: أنه لا شُفعةَ لذمِّيٍّ؛ لأنَّه صاغِرٌ، وهو قولُ الثوريِّ وأحمدَ، وحجَّةُ الأوَّلين: عُمومُ الحديثِ، والشُّفعةُ حقٌّ يتعلَّقُ بالمالِ وُضِعَ لإزالةِ الضَّررِ؛ كالردِّ بالعَيبِ، فما وجبَ للمسلمِ فيه وجَبَ للذِّميِّ مثلُه، وليس الصَّغارُ مما يدُلُّ على بطلانِ حقِّه؛ لأنَّه لا فرقَ بين المسلمِ والذِّميِّ في الحقوقِ المتعلِّقةِ بالأموالِ؛ كخِيارِ الشَّرطِ في الأجلِ وإمساكِ الرَّهنِ، انتهى.
          تنبيهان: الأولُ: قال في ((الفتح)) وغيرِه: حكى ابنُ أبي حاتِمٍ عن أبيه أنَّ قولَه: ((فإذا وقعَتِ الحدودُ...)) إلخ، مُدرَجٌ من كلامِ جابرٍ، قال: لأنَّ الأولَ كلامٌ تامٌّ.
          والثانيَ: مستقِلٌّ، ولو كان الثاني مرفوعاً لَقال: وقال: إذا وقعَتِ الحدودُ، واعترَضَه في ((الفتح)): بأنَّ الأصلَ أنَّ كلَّ ما ذُكرَ في الحديثِ فهو منه حتى يثبُتَ الإدراجُ بدليلٍ، وقد نقلَ صالحُ بنُ أحمدَ عن أبيه أنَّه رجَّحَ رَفعَها، انتهى.
          واعترضَه العينيُّ فقال: ((قولُه: كلُّ ما ذُكرَ في الحديثِ... إلخ)) غيرُ مسلَّمٍ؛ لأنَّ أشياءَ كثيرةً تقَعُ في الحديثِ وليست منه، وأبو حاتمٍ إمامٌ ثِقةٌ، ولو لم يثبُتْ عنده الإدراجُ فيه لَما أقدَمَ على الحُكمِ به.
          التنبيهُ الثاني: يُستفادُ من حديثِ مسلمٍ الذي ذكرناه آنفاً أنه لا شُفعةَ للجارِ ولو ملاصِقاً، وهو مذهبُ الجُمهورِ خِلافاً للحنفيَّة، فإنَّهم أثبَتُوها للجارِ الملاصِقِ، أيضاً ولو في السِّكَّةِ النافذةِ، وللجارِ المقابلِ أيضاً في السِّكَّةِ الغيرِ النافذةِ، أمَّا المقابِلُ في السِّكَّةِ النافذةِ فلا شُفعةَ له اتِّفاقاً، واستُدلَّ لهم بما رواه أبو داودَ والترمذيُّ من قولِه عليه الصَّلاة والسَّلام: ((الجارُ أحقُّ بشُفعةِ جارِه يُنتظَرُ بها وإن كان غائباً، إذا كان طريقُهما واحداً)).
          وقال الكرمانيُّ: قال الشافعيُّ: الشُّفعةُ إنَّما هي للشَّريكِ، وأبو حنيفةَ: للجارِ، وهذا الحديثُ حجَّةٌ عليه بالبداية، وهو أنَّ الشُّفعةَ فيما لم يُقسَمْ، وبالنِّهايةِ؛ وهو حيثُ قال: ((إذا وقعَتِ الحدودُ)).
          وأمَّا حديثُ: ((الجارُ أحقُّ بصَقَبِه)) فلا دلالةَ فيه إذ لم يقُلْ: أحقُّ بشُفعتِه، بل قال: ((أحقُّ بصَقَبِه)) لأنَّه يحتمِلُ أن يُرادَ منه: بما يليه ويقرُبُ منه؛ أي: أحقُّ بأن يتعهَّدَه ويتصدَّقَ عليه، أو يُرادَ بالجارِ: الشَّريكُ، فقد قال ابنُ بطَّالٍ: أراد أبو رافعٍ _وهو راوي الحديثِ_ بالجارِ الشَّريكَ؛ لأنَّ بيتَه في دارِ سَعدٍ، وقد سلَّمَه الحاضرون وهم أهلُ العربيةِ، وأيضاً يقالُ لامرأةِ الرجلِ: جارةٌ؛ لِما بينهما من الاختِلاطِ، فالجارُ هو الخَليطُ)).
          وقال الكرمانيُّ: ويجبُ الحملُ عليه جَمعاً بين مقتضَى الحديثَينِ مع أنَّ هذا الحديثَ متروكُ الظاهرِ؛ لأنَّه يستلزِمُ أن يكونَ الجارُ أحقَّ من الشريكِ، وهو خلافُ حكمةِ الشُّفعةِ ومذهبُ الحنفيِّ، انتهى.
          واعترضه العينيُّ بما لا ينبغي / ولا يرِدُ للمتأمِّلِ، إلا قولَه: وقد وقَعَ في بعضِ ألفاظِ أحمدَ والطبرانيِّ وابنِ أبي شَيبةَ: ((جارُ الدارِ أحقُّ بشُفعةِ الدارِ))، وقولَه: وروى أحمدُ وأبو داودَ والترمذيُّ عن سمُرةَ، وقال الترمذيُّ حديثٌ حسَنٌ: ((جارُ الدَّارِ أحقُّ بالدَّار))، انتهى.
          وقد يُجابُ أيضاً عن هذَين الحديثَين بأنَّ الأحقيَّةَ بمعنى الأولويَّةِ؛ أي: الجارُ أَولى وأحقُّ بدارِ جارِه من الأجنبيِّ، فينبغي لجارِه أن لا يبيَعها لغيرِه، فتأمَّله، على أنَّ الحديثَ متكلَّمٌ فيه، فقد نقل شيخُ الإسلامِ زكريَّا عن السُّبكيِّ: وأما خبرُ أبي داودَ وغيرِه: ((الجارُ أحقُّ بشُفعتِه)) فاستغرَبَه الترمذيُّ بعد تحسينِهِ له، وأنكرَه غيرُه كأحمدَ وابنِ مَعينٍ وغيرِهما، انتهى.
          ومطابقةُ حديثِ البابِ للتَّرجمةِ ظاهرة، وسبقَ الحديثُ في بابِ بيعِ الشريكِ من شريكِه.