التلويح إلى معرفة ما في الجامع الصَّحيح

باب القرعة في المشكلات

          ░30▒ (باب القُرْعَةِ فِي المُشْكِلاَتِ، وَقَوْلِهِ ╡: {إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ}[آل عمران:44]، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أقَرَعُوا فَجَرَت الأَقْلاَمُ مَعَ الجِرْيَةِ، وَعَالَ قَلَمُ زَكَرِيَّاءَ الجِرْيَةَ فَكَفَلَهَا) كانوا إذا أرادوا الإقراع يلقون الأقلام في النهر، فمن علا قلمه كان الحظ له، وعلا أي: ارتفع، والجِرية بكسر الجيم للنوع، جرت الأقلام جرى الماء إلى أسفل، وعال قلم زكريا أي: ارتفع على الماء، والقلم: القدح والسهم الذي يُتقارع به، وسُمي قلمًا؛ لأنَّه يبرى كبري القلم، وقِيلَ: قلم الكتابة الذي كان يكتب به التوراة، قال ابن قتيبة فيما حكاه ابن جريج: كانت مريم ابنة إمامهم وسيِّدهم، فتشاحَّ عليها بنو إسرائيل أيهم يكفلها، فأقرعوا فيها بسهامهم فقرعهم زكريا، وكان زوج أختها، فضمها إليه، وقال مقاتل في تفسيره: لما وضعت حِنَّةُ مريمَ خشيت أن لا تقبَل الأنثى محررة، فلفَّتها في خرقة، ووضعتها في بيت المقدس عند المحراب حيث يتدارسون القراءة، فقال زكريا وهو رئيس الأحبار: أنا أحقُّ بها؛ لأنَّ أختها عندي، فقالت القراء: لو تُركت لأحقِّ الناس بها لتُركت لأمِّها، لكنَّها محررة، وهلمَّ نتساهم، فأقرعوا ثلاث مرات بأقلامهم التي كانوا يكتبون بها الوحي، فقرعهم زكريا.
          قوله: ({فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ}[الصافات:141]) أي: المسهومين المعلومين، وحقيقة الدحض: الزلق عن مقام الظفر والغلبة، ذكر أهل التفسير: أنَّه كان لما دعى قومه أهل نينوى من بلاد الموصل على شاطئ دجلة للدخول في دينه أبطؤوا عليه، فدعا عليهم، فقيل له: إن قومك يأتيهم العذاب بعد ثلاث فخرج عنهم، فرأى قومه دخانًا ومقدمة العذاب، فآمنوا به وصدقوه، وتابوا إلى الله، وردُّوا المظالم حتَّى ردُّوا حجارة كانوا غصبوها وبنوا بها، وخرجوا طالبين يونس فلم يجدوه، ولم يزالوا كذلك حتَّى كشف الله عنهم العذاب، ثمَّ إن يونس ركب / سفينة، فلما لججوا البحر ركدت السفينة فلم تسر، فقالوا: إن فيكم لشرًا، فقال يونس: أنا صاحبكم فألقوني، فقالوا: لا حتَّى نضرب بالسهام، فطار عليه (1) السهم قيل: مرتين، وقِيلَ: ثلاث مرات، وذكر مقاتل: أنهم قارعوه ست مرات خوفًا عليه من أن يقذف في البحر، وفي كلِّها يخرج عليه، فألقوه في البحر، فأوحى الله إلى الحوت أن يلتقمه، ولا يكسر له عظمًا، واختُلف في مدة مقامه في بطن الحوت من يوم إلى أربعين يومًا. هذا حاصل ما ذكره أهل التفسير في قصته ملخصًا.
          قوله: (وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ عَرَضَ النَّبِيُّ صلعم الْيَمِينَ عَلَى قَوْمٍ فَأَسْرَعُوا فَأَمَرَ أَنْ يُسْهِمَ بَيْنَهُمْ أَيُّهُمْ يَحْلِفُ) هذا قد تقدَّم قريبًا مسندًا، وبوب له إذا تسارع قوم في اليمين فقال: حدَّثنا إسحاق بن نصر: حدَّثنا عبد الرزاق: أخبرنا معمر عن همَّام عن أبي هريرة، فذكره، و(يَحْلِفُ) نظير قوله: أيُّهم يكتبها أول، وتقدَّم في الصلاة.
          تنبيه: قوله: وقال ابن عبَّاس: أقرعوا فجرت الأقلام مع الجِرية، قال ابن التين: صوابه: أقرعوا أو قارعوا؛ لأنَّه رباعي، والجِرية بكسر الجيم مصدر، تقول: جرى الماء يجري جِرية وجِريًا وجِريانًا.
          قوله: (حَدَّثَنَا أَبُو اليَمَانِ) هو الحكم بن نافع البهراني الحمصي.
          قوله: (أَنَّ أُمَّ العَلاَءِ) هي بنت الحارث الأنصارية، يقال: هي زوجة زيد بن ثابت، وكان خارجة بن زيد الراوي عنها ابنها، روى لها البخاري والنَّسائي، قاله في «الكاشف»، ولها عن رسول الله صلعم ستة أحاديث، أخرج لها البخاري هذا الحديث الواحد، وباقي أحاديثها عند النَّسائي.
          قوله: (أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ مَظْعُونٍ) بظاء معجمة، وتقدَّم حديثه في الجنائز.
          قوله: (طَارَ لَهُ سَهْمُهُا) في بعضها: (طَارَ لَهُ سَهْمُهُ) يقال: طار له في سهمه كذا إذا خصَّه ذلك، وأصابه في سهمه.
          قوله: (لِعُثْمَانَ عَيْنًا تَجْرِي، فَأَخْبَرْتُ رسولَ اللهِ صلعم فَقَالَ: ذَاكِ عَمَلُهُ) إنَّما عبَّر صلعم العين الجارية لعثمان بالعمل، وجريانه تحريًا به؛ لأنَّ كلَّ ميت تمم عمله إلا المرابط إذا مات مرابطًا، فإنَّ عمله ينمو إلى يوم القيامة، وعثمان باعتبار موته في بلد هجرته كذلك.


[1] في الأصل:((عليهم)).