التلويح إلى معرفة ما في الجامع الصَّحيح

باب: إذا زكى رجل رجلًا كفاه

          ░16▒ (بَابٌ: إِذَا زَكَّى رَجُلٌ رَجُلًا كَفَاهُ).
          قوله: (وَقَالَ أَبُو جَمِيلَةَ) بفتح الجيم وكسر / الميم (وَجَدْتُ مَنْبُوذًا فَلَمَّا رَآنِي عُمَرُ، قَالَ: عَسَى الغُوَيْرُ، كَأَنَّهُ يَتَّهِمُنِي، قَالَ عَرِيفِي: إِنَّهُ رَجُلٌ صَالِحٌ، قَالَ: كَذَاكَ اذْهَبْ وَعَلَيْنَا نَفَقَتُهُ) هذا الأثر أسنده البخاري مرة عن إبراهيم بن موسى عن هشام عن معمر عن الزهري عن سنين أبي جميلة، وأنَّه أدرك النَّبي صلعم ، وخرج معه عام الفتح، وأنَّه التقط منبوذًا، فأتى عمر فسأل عنه، فأُثني عليه خير، فأنفق عليه من بيت المال، وجعل ولاءه له، وسُنين بضم السين المهملة وبنونين، وقال في «تاريخه»: كان ابن عيينة وسليمان بن كثير ينقلان سنينًا، وهذا قاله الداوودي وغيره، واقتصر عليه ابن التين، والذي قاله عبد الغني والدارقطني وابن ماكولا: أنَّه بالتخفيف، وتفرد عنه الزهري بالرواية، وله إدراك وحجَّ مع النَّبي صلعم . وقِيلَ: اسم أبي جميلة: ميسرة بن يعقوب الطُّهَري بضم الطاء وفتح الهاء، وقِيلَ: بسكونها، وقِيلَ: يفتحون الطاء مع سكون الهاء، ففيه ثلاث لغات، قاله الكرماني.
          والمنبوذ (1): اللقيط، و(الْغُوَيْرُ) تصغير الغار والأبؤس الداهية أو جمع البؤس، وانتصب على أنَّه خبر (عسى)، وقول عمر: (وَعَلَيْنَا نَفَقَتُهُ) أي: رضاعه ومؤنته من بيت المال، وأصل هذا المثل فيما يقال من قول (2) قالت لقومها عند رجوع قصير اللخمي من العراق إليها ومعه الرجال ثمَّ تبكت بهم الطريق المبلخ (3) واحد على الغوير، فسألت عن خبره، فأخبرت بذلك.
          وقِيلَ: كان الغوير على طريقه، أي: لعل الشر يأتيكم من قبل الغار، هكذا حُكيَ عن الميداني في «مجمع الأمثال» أن هذا أصل المثل، وقال الكرماني: إن أصل المثل: أن ناسًا كانوا في غار فانهار عليهم، أو أتاهم منه عدو فقتلوهم فصار مثلًا لكلِّ شيء يخاف أن يُؤتَى منه شر، وهكذا قال الأصمعي: إن هذا أصله، وقال الكلبي: غوير ماء لكلب معرف في ناحية السماوة، وقال ابن الأعرابي: الْغُوَيْرُ طريق كان قوم من العرب يعبرون فيه، وكانوا يتواصون بأن يحرسوه لئلا يؤتوا منه، وروى الحربي: أن الغُوَير نقب في حصن الرباء، وقال سفيان: أصله أنَّ ناسًا كان بينهم وبين آخرين حرب، فقالت لهم عجوز: احذروا واستعدوا من هؤلاء، فإنهم لا يأتونكم إلا سرًا، فلم يلبثوا أن جاءهم فزع، فقال العجوز: عسى / الغوير أبؤسًا، يعني: إنَّه أتاكم البأس من قبل الغوير وهو شعب، والعريف: العارف كالعليم والعالم، والعريف: النقيب وهو دون الرئيس.
          قال الكرماني: إن قلت: خبر (عسى) لا بُدَّ أن يكون فعلًا مضارعًا. قال : قلت تقديره عسى الغوير يكون أبؤسًا، أو عسى أن يأتي الغوير بشر ونحوه. انتهى.
          وقال ابن الأعرابي: عرَّض بالرجل أي: لعلك صاحب هذا اللقيط، قال: ونصب أبؤسًا على معنى: عسى الغوير يصير أبؤسًا، ويجوز أن تقدر عسى الغوير أن يكون أبؤسًا، وقال أبو علي: جعل عسى بمعنى كان ونزله منزلته، فضرب للرجل المثل، فقال: لعلَّ أنس جاء من قبلك.
          قال ابن بطَّال: اتهمه عمر أن يكون ولده أتى به ليفرض له في بيت المال، ويحتمل أن يكون ظن أنَّه يريد أن يفرض له (4) ويلي أمره، ويضع به ما شاء فلما قال له عريفه: إنَّه رجل صالح صدقه.
          وفيه أنَّه يباح للإنسان مدح نفسه، وأن يخبر بالصلاح إذا احتاج إلى ذلك، وهكذا رواه مالك في «الموطأ» فقال عمر: أكذلك؟ قال _ أي الرجل _: نعم.
          تنبيه: سمي اللقيط منبوذًا؛ لأنَّ أمه تنبذه، أي: ترميه على الطريق، وقوله: (فَلَمَّا رَآنِي عُمَرُ) كذا هو لبعضهم: (رآني) بالنون، والوجه ما عند الأصيلي: (رأى) بفتح الراء وفاعله مضمر، وهو عريفي المذكور بعد، وعند الهمداني: (قَالَ عَسَى الْغُوَيْرُ أَبْؤُسًا كَأَنَّهُ يَتَّهِمُنِي فقَالَ عَرِيفِي) وهذا أبين وأتم كلامًا.


[1] في الأصل:((النبوذ)).
[2] كلمة غير مفهومة في الأصل.
[3] حروفها مهملة في الأصل.
[4] كلمة غير مفهومة في الأصل.