التلويح إلى معرفة ما في الجامع الصَّحيح

حديث: يا نساء المسلمات لا تحقرن جارة لجارتها

          2566- قوله: (حَدَّثَنَا عَاصِمُ بْنُ عَلِيٍّ) يعني: ابن عاصم بن صهيب أبو الحسين، ويقال: أبو الحسن الواسطي مولى أبي بكر روى عنه البخاري، وروى هو والترمذي وابن ماجه عن رجل عنه، مات لثلاث عشر خلت من رجب، ويقال: في النصف منه، ويقال: في آخره سنة إحدى وعشرين ومائتين.
          قوله: (حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ) هو أبو الحارث محمَّد بن عبد / الرَّحمن بن أبي ذئب.
          قوله: (عَنِ المَقْبُرِيِّ) هو سعيد بن أبي سعيد المقبري، واسم أبي سعيد: كيسان.
          قوله صلعم : (يَا نِسَاءَ المُسْلِمَاتِ) اختلف في إعرابه على أوجه ذكرها القاضي عياض:
          أصحها وأشهرها نصب النساء (1) وخفض (الْمُسْلِمَاتِ) على الإضافة قال الباجي: وبهذا رويناه عن جميع شيوخنا بالمشرق، وهو من باب إضافة الشيء إلى نفسه، والموصوف إلى صفته والأعم إلى الأخص، كمسجد الجامع وجانب الغربي، وكدار الآخرة.
          وهو عند الكوفيين جار على ظاهره، وعند البصريين يقدرون فيه محذوفًا، أي: مسجد المكان الجامع، وجانب المكان الغربي، ودار الحياة الآخرة، ويقدر هنا: يا نساء الأنفس المسلمات أو الجماعات، وقِيلَ: تقديره: يا فاضلات المسلمات كما يقال: هؤلاء رجال القوم، أي: ساداتهم وأفاضلهم.
          والوجه الثاني: رفعهما على معنى النداء والصفة، أي: يا أيها النِّساء المسلمات، قال الباجي: كذا يرويه أهل بلادنا.
          والوجه الثالث: رفع النِّساء وكسر التاء من (المسلمات) على أنَّه منصوب على الصفة على المحل كما يقال: يا زيد العاقل برفع زيد ونصب العاقل، واقتصر ابن التين على أنَّه من باب إضافة الشيء إلى نفسه، و{وَحَبَّ الْحَصِيدِ}[ق:9]، وقال ابن بطَّال: هو غير الإضافة، التقدير: يا أيها النِّساء المسلمات، ومثله: يا رجال الكرام، فالمنادى هنا محذوف وهو أيها، والنِّساء في تقدير النعت لا بها، والمؤمنات نعت النساء، وحكى سيبويه: يا فاسق الخبيث، ومذهبه أي فاسق وشبهه يعرف بتاء كتعريف زيد في النداء، وكذلك: يا نساء ههنا، فيخرج على مذهبه أنَّه يجوز نصب نعته كما جاء: يا زيد العاقل، فيجوز على هذا: يا نساء المسلمات، ومن رواه بالإضافة ونصب النِّساء فيجب أن يكون (المسلمات) هنا من صفات النساء؛ لأنَّ الشيء لا يضاف إلى نفسه، وإنَّما يضاف إلى غير ما ينسبه به ويضمه إليه، ومحال أن ينسبه بنفسه أو يضمه إليه، هذا مذهب البصريين.
          وأجاز الكوفيون إضافة الشيء إلى نفسه، واحتجوا بآيات يتخرج معانيها على غير تأويلهم، فمن ذلك قوله تعالى: {وَلَدَارُ الْآخِرَةِ}[يوسف:109] و{دِينُ الْقَيِّمَةِ}[البينة:5]، وقال الزجاج وغيره: معناه: دار الحال الآخرة؛ لأنَّ للناس حالتين: حال الدنيا وحال الآخرة، ومثله: صلاة الأولى، والمراد: صلاة الفريضة الأولى، والساعة الأولى؛ لأنَّها أوَّل ما فرض منها، ومعنى {دِينُ الْقَيِّمَةِ}[البينة:5]: دين الملة القيمة / ولهذا وقع التأنيث، لكن يتخرج يا نساء المسلمات على تقدير بعيد، وهو أن يجعل نعتًا لشيء محذوف كما تقدَّم، كأنَّه قال: يا نساء الأنفس المسلمات، والمراد بالأنفس: الرجال، وفيه بعد لفساد المعنى؛ لأنَّه ╕ إنَّما خاطب بذلك على وجه الفضيلة لهن والتخصيص، وعلى هذا الوجه لا فضل لهن في ذلك، إلا أن يراد بالأنفس: الرجال والنِّساء معًا، فيكون تقديره: يا نساء من الأنفس المؤمنات على تقدير إضافة البعض إلى الكل، كما تقول: أخذت دراهم مال زيد، ومال زيد واقع على الدراهم وغيرها قاله ابن الملقِّن.
          وقال السهيلي وغيره: روي (يا نساءُ المؤمنات) برفع الهمزة، وهو المختار على أنَّه منادى مفرد نحو: يا زيد، وإنَّه يجوز في المسلمات الرفع صفة على اللفظ، والنصب صفة على الموضع، كقولك: يا زيدُ العاقل ويا زيدَ العاقل، إلا أن المؤمنات تجر علامة للنصب؛ لأنَّ جمع المؤنث يستوي نصبه وجره على ما هو مقرر في صناعة العربية، ولا يستحيل ارتفاع المنادى وإن كان غير علم بالإقبال كما قال تعالى: {يَاجِبَالُ أَوِّبِي}[سبأ:10]، وأمَّا من روى (يا نساءَ) بالنصب؛ فعلى أنَّه منادى مضاف، وجر (المؤمناتِ) بالإضافة، كقولهم: مسجد الجامع، ما أضيف فيه الموصوف إلى الصفة في اللفظ، فالبصريون يتأولونه على حذف الموصوف وإقامة صفة مقامه، أي: يا نساء الجماعات المسلمات، والكوفيون لا يقدرون محذوفًا، ويكتفون باختلاف الألفاظ في المغايرة، ووجه ابن رشيد ذلك بأن الخطاب توجه إلى نساء بأعيانهن أقبل بندائه عليهن، فصحب الإضافة على معنى المدح لهن، فالمعنى: يا خيرات المؤمنات، وعن ابن عبد البر إنكار الإضافة، قال ابن السيد: وليس بصحيح؛ لأنَّه قد نقلته الرواة، وتساعده اللغة، قال: وتوجيه ابن رشيد يقال فيه: إنَّه وإن خاطب نساء بأعيانهن، فلم يقصد تخصيصهن به، بل غيرهن كذلك، فالخطاب على العموم.
          قوله صلعم : (لاَ تَحْقِرَنَّ جَارَةٌ لِجَارَتِهَا) متعلق بمحذوف، أي: لا تحقرن جارة هديَّة مهداة لجارتها، ولو أن تهدي لها فرسنًا مبالغة في ذكر أحقر الأشياء من أبغض البغيض إذا حمل لفظ الجارة على الضرة، والفِرْسن بكسر الفاء والسين المهملة وإسكان الراء هو من البعير بمنزلة الحافر من الدَّابَّة والظلف من الشاة والقدم من الإنسان، وربما يستعار للشاة، وجمع الفرسن: فراسن، قال ابن دريد: وهو ظاهر الخف، وقال ابن سيده: هو طرف خف البعير، والنون / زائدة.
          وقِيلَ: أصلية، أشار بذلك إلى المبالغة في إهداء القليل وفي قبوله، وأن لا يحتقر وإن كان كالفرسن في الحقارة، لا إلى إعطاء الفرسن؛ لأنَّ أحدًا لا يهديه، وهذا النهي للمعطية المهدية، أي: لا تمتنع جارة من الهديَّة لجارتها لاستعلائها واحتقارها للموجود عندها، بل تجود بما تيسر وإن كان قليلًا كفرسن الشاة، فهو خير من العدم، ويحتمل أن يكون نهيًا للمعطاة عن الاحتقار.


[1] في الأصل:((نصيب أنفسنا)).