التلقيح لفهم قارئ الصحيح

باب: في الحوض

          قوله: (بَابٌ فِي الحَوْضِ): تنبيهٌ: ذكر البُخاريُّ هنا الحوضَ بعد الصراط، وكذا ذكر صاحب «القوت» وغيرُه: أنَّ الحوضَ إنَّما هو بعد الصراط، والصحيح: أنَّ للنَّبيِّ صلعم حوضين؛ أحدهما: في الموقف قبل الصراط، والثاني: في الجنَّة، وكلاهما يُسَمَّى كوثرًا.
          واختُلِف أيضًا في الميزان والحوض؛ أيُّهما قبل الآخر؟ والصحيح الذي صحَّحه أبو الحسن القابسيُّ: أنَّ الحوضَ قبلُ، والمعنى يقتضيه، فإنَّ الناس يخرجون من قبورهم عطاشًا، فيَرِدُون الحوضَ مَن يَرِد منهم، وقال الغزاليُّ في «الكشف»: (وحكى بعضُ السَّلَف: أنَّ الحوضَ يُورَد بعد الصراط، وهو غلطٌ من قائله)، انتهى.
          فائدة: في «الغيلانيَّات» من حديث حُمَيد عن أنس ☺: قال رسول الله صلعم: «إنَّ لحوضي أربعةَ أركانٍ؛ فأوَّل ركنٍ منها في يد أبي بكر ☺، والركن الثاني في يد عمر ☺، والركن الثالث في يد عثمان ☺، والركن الرابعُ / في يد عليٍّ ☺، فمَن أحبَّ أبا بكر وأبغض عُمرَ؛ لم يَسْقِه أبو بكر، ومَن أحبَّ عُمرَ وأبغض أبا بكر؛ لم يَسْقِه عُمرُ، ومَن أحبَّ عثمانَ وأبغض عليًّا؛ لم يَسْقِه عثمانُ، ومَن أحبَّ عليًّا وأبغض عثمانَ؛ لم يَسْقِه عليٌّ...» الحديث.
          فائدةٌ ثانيةٌ: لكلِّ نبيٍّ حوضٌ في الموقف، واختصَّ نبيُّنا صلعم بحوضٍ آخَرَ في الجنَّة، كما تَقَدَّمَ قريبًا، ومستند أنَّ لكلِّ نبيٍّ حوضًا في الموقف ما رواه التِّرْمِذيُّ في «جامعه» من حديث سَمُرَة: قال رسول الله صلعم: «إنَّ لكلِّ نبيٍّ حوضًا...»؛ الحديث، قال التِّرْمِذيُّ: حديثٌ حسنٌ غريبٌ، ثُمَّ ذكر الاختلاف في وصله وإرساله، وأنَّ المرسَلَ أصحُّ، قال القرطبيُّ في «تذكرته»: (وقال البكريُّ المعروف بابن الواسطيِّ: ولكلِّ نبيٍّ حوضٌ إلَّا صالحًا، فإنَّ حوضه ضَرع ناقته، والله أعلم)، انتهى.
          تنبيهٌ: الظاهر أنَّ أصلَ كلامِ ابن الواسطيِّ ما ذكره الذَّهَبيُّ في «ميزانه» في ترجمة عبد الكريم بن كيسان _وهو من المجاهيل_ قال: (وحديثُه منكرٌ، ذكره العقيليُّ: أبو عاصم العبَّادانيُّ: حدَّثنا عبد الكريم بن كيسان عن سويد بن عُمير(1) قال: قال رسول الله صلعم: «حوضي أشربُ منه يوم القيامة ومن اتَّبعني من الأنبياء، ويبعث الله ناقةَ ثمودَ لصالحٍ، فيحلبها، فيشربها والذين آمنوا معه حتَّى يوافيَ بها الموقفَ ولها رُغاء، وابنتي فاطمةُ على العضباء، وأنا على البُراق»، رواه العقيليُّ: حدَّثنا صالحٌ: حدَّثنا أُمَيَّة بن بِسطام: حدَّثنا أبو عاصم، قال الذَّهَبيُّ: قلتُ: موضوعٌ، والله أعلم)، انتهى، وقد رأيته في «موضوعات ابن الجوزيِّ» في (كتاب البعث وأهوال القيامة) من حديث سويد بن عمير: قال رسولُ الله صلعم...؛ فذكره، ثُمَّ قال: (موضوعٌ لا أصلَ له، قال العُقيليُّ: عبد الكريم مجهولٌ، وحديثُه غيرُ محفوظٍ)، انتهى.
          تنبيهٌ: قال القاضي عياض: (أحاديث الحوض صحيحةٌ، والإيمان به فرضٌ، والتصديق به من الإيمان، وهو على ظاهره عند أهل السُّنَّة والجماعة، ولا يُتَأوَّل، ولا يُختَلَف فيه، قال القاضي: حديثُه متواترُ النقل، رواه خلائقُ من الصَّحَابة، فذكره مسلمٌ من رواية ابن عمر، وأبي سعيد، وسهل بن سعد، وجندب، وعبد الله بن عمرو بن العاصي، وعائشة، وأمِّ سلمة، وعقبة بن عامر، وابن مسعود، وحذيفة، وحارثة بن وهب، والمستورد، وأبي ذرٍّ، وأنس، وجابر ابن سَمُرة)، انتهى.
          وفي «مسلم» أيضًا هو من حديث ثوبان، وكذا حدَّث به أبو هريرة في «البُخاريِّ» و«مسلمٍ» [خ¦2367]، ولم أرَ هذين في «شرح مسلم»، وقد استدرك النَّوَويُّ الثاني على القاضي، قال القاضي: (ورواه غيرُ مسلم من رواية أبي بكر الصِّدِّيق، وزيدِ بن أرقم، وأبي أمامة، وعبدِ الله بن زيد، وأبي بَرزة، وسُويدِ بن غَفَلة، وعبدِ الله الصنابحيِّ، والبراء بن عازب، وأسماءَ بنتِ أبي بكر، وخولةَ بنتِ قيس، وغيرِهم)، قال الشيخ محيي الدين النَّوَويُّ: (ورواه البُخاريُّ ومسلمٌ أيضًا من رواية أبي هريرة)، انتهى، وقد روى حديثَ ابنِ عمر البُخاريُّ [خ¦6577]، وكذا حديث أبي سعيد [خ¦7050]، وسهل بن سعد [خ¦6583]، وجندب [خ¦6589]، وعبد الله بن عمرو بن العاصي [خ¦6579]، وعقبة ابن عامر [خ¦1344]، وابن مسعود [خ¦6575]، وحذيفة [خ¦6576] _لكنَّه أخرجه في (الرقائق) تعليقًا_ وحارثة بن وهب [خ¦6591]، والمستورد تعليقًا في الحوض [خ¦6591]، وأنس [خ¦6580]، والله أعلم.
          قال النَّوَويُّ: (ورواه غيرُهما _يعني: غيرَ البُخاريِّ ومسلم_ من رواية عمر بن الخَطَّاب، وعائذ بن عمرو، وآخرين، ♥، قال: وقد جمع ذلك كلَّه الإمام أبو بكر البيهقيُّ في كتابه «البعث والنشور» بأسانيده وطرقه المتكاثراتِ، قال القاضي: وفي بعض هذا ما يقتضي كونَ الحديث متواترًا)، انتهى، وقد جمع طرقَه أيضًا وأفردها بالتأليف الحافظُ ضياء الدين المقدسيُّ، وفي بعض طرقه: «وماؤه أحلى من السُّكَّر».
          قال ابن إمام الجوزيَّة الحافظُ شمسُ الدين في «الهَدْيِ» في (حرف القاف): (جاء في بعض ألفاظ السُّنَّة الصحيحةِ في الحوض: «وماؤه أحلى من السُّكَّر»، ولا أعرف السُّكَّر في الحديث إلَّا في هذا الموضع)، انتهى، وقوله: (في الحديث)؛ يعني: الصحيحَ، وإلَّا؛ فقد جاء ذكره في حديثٍ آخَرَ في النِّثَار، وقد أفرد حديثَ النِّثَار بالتأليف(2) شيخُنا وصاحبُنا الإمامُ الحافظ صدر الدين سليمانُ الياسوفيُّ ثُمَّ الدِّمَشْقيُّ، وهو عندي بخطِّه، سمَّاه: «منادمة المُحدَّث المُبصَّر بحديث اللوز والسُّكَّر»، وقد رأيتُ أنا حديثًا آخرَ ذكره التِّرْمِذيُّ، وفيه: «ألسنتهم أحلى من السُّكَّر، وقلوبهم قلوب الذئاب..»؛ الحديث، وعقَّبه بأنَّه غريبٌ، وقد رأيتُ هذا الحديثَ في «الزهد والرقائق» لابن المبارك من حديث أبي هريرة ☺، ولكنَّ لفظَه: «أحلى من العسل».


[1] في (أ) علامة تشبه علامة الضبَّة: (ضـ)، وكذا في الموضع اللاحق، ولعلَّه يريد بها الدلالة على انقطاع السند، ولم أقف على ترجمة لسويد بن عمير، وفي «ميزان الاعتدال» قال: (سويد بن عمر)، وكذا لم أقف على ترجمة لـ (سويد بن عمر) بين الصحابة، وذكر الحافظ ابن حجر في «الإصابة» ░2/99▒ ترجمة لـ (سويد بن عامر) وذكر فيها هذا الحديث، فقد قال: (سويد بن عامر استدركه ابن فتحون، وأخرج من طريق الباوردي ثم من رواية عبد العزيز بن كيسان عن سويد بن عامر قال: قال رسول الله صلعم: «حوضي أشرب منه يوم القيامة...») الحديث، وقد ذكر أبو عمر سويدَ بن عامر مختصرًا في «الاستيعاب» [(ص318▒]، فإن لم يكن هذا هو؛ فقد بينت في القسم الأخير أنَّه لا صحبةَ له، وأنَّ حديثَه مرسلٌ، وقد ذكر ابن أبي خيثمة في الصحابة سويد بن عامر الأنصاري وقال: لا أدري هو والد عقبة أم لا)، وعبارة ابن خيثمة في «التاريخ» [980]: (لا أدري من أي الأنصار هو)، ثم ذكر أنَّ ابن مندَه ذكره في «معرفة الصحابة» وقال: (لا تُعرف له صحبة).
[2] في (أ): (بالتألف)، ولعلَّ المثبت هو المعتاد.