التلقيح لفهم قارئ الصحيح

باب فضل الفقر

          قوله: (بَابُ فَضْلِ الفَقْرِ): فائدةٌ: حديث: «الفقر فخري...»؛ الحديث، وكذا حديثُ: «اتَّخِذوا مع الفقراءِ أياديَ»، قال أبو العَبَّاس ابن تيمية فيما رأيتُه عنه: (كلاهما كَذِبٌ)، انتهى، وقال شيخُنا المؤلِّف في «تخريج أحاديث الرافعيِّ» _التخريج المختصَر_ فيما قرأته عليه قال فيه: (غريبٌ)، وقاعدته: إذا قال: غريبٌ؛ أنَّه لا يُعرَف مَن رواه، ثُمَّ قال: (وقال بعض الحُفَّاظ المُتَأخِّرين: كَذِبٌ، ولا نعرفه في شيءٍ من كتب المسلمين المعروفةِ)، انتهى، وما أظنُّ قائلَ ذلك إلَّا ابنَ تيمية أبا العَبَّاس، والله أعلم.
          وقد رأيتُ شيخَنا الحافظ العِرَاقيَّ قال في «تخريج أحاديث الإحياء»: (ذكر حديث: «أكثروا معرفة الفقراء، واتَّخذوا عندهم الأياديَ، فإنَّ لهم دولة...»؛ الحديث أبو نُعَيم في «الحِلية» من حديث الحسين بن عليٍّ بسندٍ ضعيفٍ: «اتَّخِذوا عند الفقراء أياديَ، فإنَّ لهم دولة يوم القيامة، وإذا كان يوم القيامة؛ نادى منادٍ: سيروا إلى الفقراء، فيُعتَذَر إليهم كما يَعتَذِر أحدُكم إلى أخيه في الدنيا»)، انتهى.
          تنبيهٌ: حديث: «كاد الفقر أن يكون كُفرًا» ضعيفٌ، أخرجه أبو مسلم الكَجِّيُّ في «سننه»، والبيهقيُّ في «شعب الإيمان» [خ¦6188] من حديث أنسٍ ☺، وفيه: يزيدُ الرَّقاشيُّ عنه، وهو ضعيفٌ، ورواه الطَّبَرانيُّ في «الأوسط» من وجهٍ آخرَ بلفظ: «كادت الحاجة أن تكون كفرًا»، وفيه ضعفٌ أيضًا.
          تنبيهٌ آخَرُ: اختلف الناس في تفضيل الفقر على الغنى؛ فذهب قومٌ إلى تفضيله على الغنى، وممَّن ألَّفَ فيه ابن الفخار، وذهب آخرون إلى تفضيل الغنى، وممَّن ألَّف فيه ابنُ قُتَيْبَة، وقد فضَّل قومٌ الكفافَ؛ وهو الذي سأله رسولُ الله صلعم، فقال: «اللهمَّ؛ اجعل رزقَ آلِ مُحَمَّدٍ قوتًا»، وهو أعلى من الدرجتَين اللَّتَين قبلَه، قال شيخُنا: (المختار عندنا: أنَّ الغنيَّ الشاكرَ أفضلُ من الفقيرِ الصابرِ؛ لأنَّ الغنى [هي] الحالةُ التي تُوُفِّيَ عنها الشارع، وهي أكملُ الحالات)، ثُمَّ ذكر كلام أبي عليٍّ الدَّقَّاق في ترجيح الغنيِّ الشاكرِ على الفقيرِ الصابرِ، ثُمَّ قال: (وأمَّا الكَفاف؛ فهي الدرجة الرفيعة؛ لأنَّه ◙ لا يَسأل إلَّا أفضلَ الأحوال)، ثُمَّ ذكر كلام القرطبيِّ في تفضيل الكفاف، وقد رأيته في «التذكرة» قبل ذلك.
          واعلم أنَّ الغنيَّ الشاكرَ قد عرَّفه النَّوَويُّ في «رياضه» بأنَّه (مَن أخذَ المال من وجوهه، وصرفه في وجوهه المأمورِ بها)، انتهى، ومحلُّ الخلاف في الغنيِّ الشاكر والفقير الصابر ذكره الشيخُ تقيُّ الدين ابن دقيق العيد، فقال بعد أن ذكر بعضَ أدلَّة المَأْخَذَيْن للغنيِّ الشاكر والفقير الصابر، ثُمَّ قال: (وإنَّما النظرُ إذا تساوَيا(1) في أداء الواجب فقط، وانفرد كلُّ واحدٍ بمصلحةِ ما هو فيه، وإذا كانت المصالحُ متقابلةً؛ ففي ذلك نظرٌ يرجع إلى تفسير الأفضل، فإن فُسِّر بزيادة الثواب؛ فالقياس يقتضي أنَّ المصالحَ المتعدِّيةَ أفضلُ من القاصرة، وإذا كان الأفضل بمعنى: الأشرف بالنسبة إلى صفات النفس؛ فالذي يحصل للنفس من التطهير للأخلاق والرياضة لسوء الطباع بسبب الفقر أشرفُ، فيترجَّح الفقر، ولهذا المعنى ذهب الجمهور من الصوفيَّة إلى ترجيح الفقيرِ الصابرِ؛ لأنَّ مدارَ الطريق على تهذيب النفس ورياضتها، وذلك مع الفقر أكثرُ منه مع الغنى، فكأنَّ أفضلَ بمعنى: أشرف)، انتهى، ذكره في «شرح العمدة»، ذكره في حديث: «ذهب أهل الدثور...»؛ الحديث في (الذِّكْرِ عقيب الصلاة).
          وأجاب أبو العَبَّاس ابن تيمية، فقال: (أفضلهما: أتقاهما لله، فإن استويا في التقوى؛ استويا في الدرجة)، انتهى، والله أعلم.


[1] في (أ): (تساووا)، والمثبت من مصدره.