التلقيح لفهم قارئ الصحيح

باب ذكر الجن وثوابهم وعقابهم

          قوله: (ذِكْرِ الْجِنِّ وَثَوَابِهِمْ وَعِقَابِهِمْ): اعلم أنَّ الجنَّ ولدُ إبليسَ، والكافر منهم شيطانٌ، ولهم ثوابٌ وعقابٌ، واختُلِف في دخولهم الجنَّة، والعُمومات تقتضي دخولهم، وبه قال الشَّافِعيُّ وغيره، وأمَّا أبو حنيفة؛ فعنه روايتان؛ الأولى: التردُّد، وقال: لا أدري أين مصيرهم؟ الثانية: يصيرون يوم القيامة ترابًا.
          [وقيل: ليسوا بشياطين]، ومنهم كافرٌ ومؤمنٌ، ويموتون، والشياطين ليسوا بمؤمنين، ولا يموتون إلَّا مع إبليس، والله أعلم.
          ويُروَى عن وهب بن مُنَبِّه أنَّه قال: (الجنُّ أجناس؛ فخالص الجنِّ لا يأكلون، ولا يشربون، ولا يتناكحون، ومنهم من يأكل، ويشرب، وينكح، ويُولَد له، ومِن هذا: الغِيلان، والسعالي، والقطاربة)، ذكر ذلك المحبُّ الطَّبَريُّ عن وهب، انتهى.
          وقد اختُلِف؛ هل يأكلون حقيقة أم لا؟ فزعم بعضهم: أنَّهم يتغذَّون بالشَّمِّ، ويردُّ هذا ما في الحديث: «يصير العظم كأوفر ما كان لحمًا، والروث لدوابِّهم»، ولا يصير كذلك إلَّا للأكل حقيقة، وهو المرجَّح عند جماعة العلماء، ومنهم من قال: هم طائفتان؛ طائفة تشمُّ، وطائفة تأكل.
          قوله(1) تعالى: ({يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ(2) }[الأنعام:130]): اعلم أنَّ ظاهر هذه الآية أنَّ من الجنِّ رُسُلًا، وهذه المسألة فيها خلافٌ: قيل: بعث الله رسولًا واحدًا من الجنِّ اسمه يوسف.
          وقيل: رسلُ الجنِّ هم رسلُ الإنس، فهم رسلُ الله بواسطةٍ؛ إذ هم رُسُلُ(3) رُسُلِه، ويؤيِّده قوله: {وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ}[الأحقاف:29]، قاله ابن عَبَّاس والضَّحَّاك، ورُوِيَ: أنَّ قومًا من الجنِّ استمعوا إلى الأنبياء، ثمَّ عادوا إلى قومهم فأخبروهم؛ كما جرى لهم مع رسول الله صلعم، فيقال لهم: (رسل الله) وإن لم يكونوا رسلَه حقيقةً.
          وعلى هذين القولين يكون الضمير عائدًا إلى الجنِّ والإنس.
          وقد تعلَّق قومٌ بهذا الظاهر فقالوا: بعث الله إلى الجنِّ رُسُلًا منهم، ولم يفرِّقوا بين مكلَّفين ومكلَّفين إلى أن يُبعَث إليهم رسولٌ من جنسهم؛ لأنَّهم به آنسُ وآلفُ، وقال مجاهد والضَّحَّاك وابن جُرَيجٍ والجمهور: الرسل من الإنس دون الجنِّ، ولكن لمَّا كان النداء لهما والتوبيخُ معًا؛ جرى الخطاب عليهما على سبيل التجوُّز المعهود في كلام العرب؛ تغليبًا للإنس؛ لشرفهم، وتأوَّله الفرَّاء على حذف مضاف؛ أي: مِن أحدكم؛ كقوله: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ}[الرَّحْمَن:22]: أي: مِن أحدهما، وهو المَلِح، وكقوله: {جَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا}[نوح:16]: أي: في إحداهنَّ، وهي سماء الدنيا، {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ}[الحج:28]: أراد بالذكر: التكبير، والأيَّام المعلومات: العَشْر؛ أي: في أحد أيَّام العشر؛ وهو يوم النحر، وقال الكلبيُّ: كانت الرسل يُبعَثون إلى الإنس، وبُعِثَ مُحَمَّدٌ صلعم إلى الجنِّ والإنس، ورُويَ هذا أيضًا عن ابن عَبَّاس، [وسيأتي قريبًا جدًّا نصُّه(4)](5).
          وقال بعض المفسِّرين في قوله تعالى: {وَلَقَدْ جَاءكُمْ يُوسُفُ مِن قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ}[غافر:34]: (إنَّه يوسف هذا الذي بعثه الله إلى الجنِّ، وقيل: إنَّه غيره)، وفي «البزَّار» _في «مسنده»_ [عن ابن عبَّاس ☻]، عنه ╕: «كان النَّبيُّ يُبعَث(6) إلى قومه، وبُعِثتُ إلى الجنِّ والإنس».
          فائدةٌ: سمعت شيخنا العلَّامة الحافظ شيخ مذهب الشَّافِعيِّ بالبلاد الإسلاميَّة أبا حفص البُلْقينيَّ حين ذكر ما يتعلَّق بالجنِّ، فقال: هل يدخلون الجنَّة أم لا؟ ورجَّح أنَّهم(7) يدخلون، ثمَّ نقل عن الحارث بن أسد المحاسبيِّ: (أنَّهم يدخلون الجنَّة ويكونون في أسفلها، وأنَّنا نراهم ولا يروننا، عكس الدنيا)، والله أعلم، ورأيت أنا في «تذكرة القرطبيِّ» في (باب ما جاء أنَّ للجنَّة ربضًا وريحًا وكلامًا): (عن الزُّهْرِيِّ والكلبيِّ ومجاهد: أنَّ مؤمني الجنِّ حول الجنَّة في رُبض ورحاب، وليسوا فيها)، انتهى.
          ورأيت في فتوى سُئِل عنها أبو العَبَّاس ابن تيمية، وفيها ما لفظه: (ورُويَ في حديثٍ رواه الطَّبَرانيُّ: أنَّهم _يعني: الجانَّ المؤمنين_ يكونون في رَبَض الجنَّة، يراهم الإنس من حيث لا يرونهم)، قال: (وذهب أبو حنيفة _فيما نُقِلَ عنه_ إلى أنَّ المطيعين منهم يصيرون كالبهائم، ويكون ثوابهم النجاةَ مِنَ النار)، قال: (وهل فيهم رسلٌ أم ليس فيهم إلَّا نُذُر؟ على قولين؛ فقيل: منهم رسل؛ لقوله تعالى: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ}[الأنعام:130]، وقيل: الرسل مِنَ الإنس خاصَّةً، والجنُّ فيهم النُّذُر، وهذا أشهر...) إلى أن قال: (وأمَّا التكليف بالأمر والنهي، والتحليل والتحريم؛ فدلائله كثيرةٌ...) إلى أن قال: (وما في الأحاديث والآثار [مِن] كونِ الجنِّ يحجُّون، ويصلُّون، ويجاهدون، وأنَّهم يُعاقَبُون على الذنب؛ كثيرٌ(8) جدًّا...) إلى آخر كلامه.
          قوله: (وَأُمَّهَاتُهُنَّ بَنَاتُ سَرَوَاتِ الْجِنِّ): (السَّرَوات)؛ بفتح السين والراء: السَّادات والأشراف، و(سَرَوات): جمع (سراة)، و(سراة): جمع (سريٍّ)، وللسُّهيليِّ في «روضه» في قول الناس: («سَرَاةُ الناس» واحدهم: سَرِيٌّ)، فأنكر أن يكون (سريٌّ) مفرد (سراة)، لا على قياسٍ ولا غيره، قال: (والعجب كيف خَفِيَ هذا على النَّحْويِّين، قلَّد الخالف منهم السالف، فقالوا: «سراة»: جمع «سريٍّ»، ويا سبحان الله! كيف يكون جمعًا له وهم يقولون في جمع «سَرَاة»: «سَرَوات»؛ مثل: قَطَاة وقَطَوات؟! يقال: هؤلاء من سَرَوات الناس، كما يقال: من رؤوس الناس)، وأنشد بيتًا لقيس ابن الخَطيم، ثمَّ قال: (ولو كان «السَّرَاة» جمعًا؛ ما جُمِع؛ لأنَّه على وزن «فَعَلة»، ومثل هذا البناء في الجموع لا يُجمَع، وإنَّما «سريٌّ» «فعيل»، من «السّرو»؛ وهو الشَّرَف، وإن جُمِع على لفظه؛ قيل: سَرِيٍّ وأسرياء؛ مثل: غنيٍّ وأغنياء، ولكنَّه قليلٌ وجوده، وقلَّة وجوده لا تدفع القياسَ فيه، وقد حكاه سيبويه).
          قوله: (سَتُحْضَرُ لِلْحِسَابِ): (تُحضَر): مَبْنيٌّ لِما لمْ يُسَمَّ فاعِلُهُ؛ بضَمِّ التاء، وفتح الضاد، وهذا ظاهِرٌ، ويُعرَف من قوله: {مُّحْضَرُونَ}[يس:75]؛ لأنَّه اسم مفعول، ولكنَّ الخشية ممَّن لا يعرف.


[1] زيد في (ب): (قوله).
[2] {مِّنكُمْ}: ليس في (ب).
[3] (رسل): سقط من (ب).
[4] في (ب): (بقيَّة)، وهي محتملة في (أ)، وزيد في النسختين: (منه)، ولعلَّ المثبت هو الصواب.
[5] ما بين معقوفين جاء في النسختين -وهو مستدرك في (أ)- لاحقًا بعد قوله: (إلى الجن والإنس).
[6] في (ب): (يبعثه).
[7] في (أ): (أنَّه).
[8] في (ب): (كثيرة)، وهي في (أ) محتملة للمثبت.