شواهد التوضيح والتصحيح لمشكلات الجامع الصحيح

دخول «من» الزائدة على «بَلْهِ»

          ░67▒
          ومنها قولُ النبيِّ صلعم: «يَقولُ اللهُ: أَعْدَدْتُ لعبادِي الصالحين ما لَا عينٌ رَأَتْ، ولا أُذُنٌ سَمِعَتْ، ولا خَطَرَ على قَلْبِ بَشَرٍ، مِنْ بَلْهِ مَا أُطْلِعْتُم(1) عليه». [خ¦4780]
          وقولُه صلعم: «رُويْدَكَ سَوْقَكَ بالقَوَارِيرِ». [خ¦6202]
          وقولُه صلعم: «وَلَا الذَّهَبَ بالذَّهَبِ إلَّا هَاءَ وَهَاءَ». [خ¦2134]
          وقولُ عائِشَةَ(2) ♦: (فدَخَلَ النبيُّ صلعم قال(3) : «أعِندَكم شيءٌ؟» قالت(4) :لا، إلَّا شيءٌ بَعَثتْ بهِ أُمُّ عَطِيَّةَ). [خ¦2579]
          وقولُها(5) : (أَقولُ ماذا(6) ؟). [خ¦4757]
          وقَولُ أبي مُوسى ☺: (أَتَيْنَا النبيَّ صلعم نَفَرٌ مِنَ الأَشْعَرِيِّينَ). [خ¦4385] /
          وقولُ عُمَرَ/ ☺: (إنِّي أُرَى لَوْ جَمَعْتُ هؤلاءِ على قارئٍ(7) واحدٍ لكان أَمْثَلَ). [خ¦2010]
          قلتُ: المعروفُ استعمالُ (بَلْهَ) اسْمَ فِعْلٍ بمعنى: اتْرُكْ، ناصبًا لِمَا يَلِيها بمُقتضَى المفعوليَّة، كقولِ الشاعر:
تَمْشِي القَطُوفُ إذا غَنَّى الحُدَاةُ بِهَا                     مَشْيَ الجَوَادِ فَبَلْهَ الجِلَّةَ النُجُبَا
          واستعمالُه(8) مصدرًا بمعنى (التَّرْكِ) مُضافًا إلى ما يَلِيه.
          والفتحة في الأَوَّل بِنَائيَّةٌ، وفي الثاني إِعرابِيَّةٌ.
          وهو مَصدرٌ مُهْمَلُ الفِعلِ مَمنوعُ التصَرُّفِ.
          ونَدَر دُخولُ (مِن)(9) عليه زائدةً، في(10) قولِه: «مِنْ بَلْهِ مَا أُطْلِعتُم(11) عليه».
          و(رُويدَ) من «رُوَيدَك سَوقَكَ بالقَوَارِيرِ» اسمُ فعلٍ بمعنى (أَرْوِدْ)؛ أَي(12) : أَمْهِلْ، والكافُ المتَّصلةُ به حَرفُ خِطَابٍ، وفتحةُ دالِه بِنَائيَّةٌ. /
          ولكَ أَنْ تَجعلَ (رُوَيدَ) مَصدرًا مُضافًا إلى الكافِ ناصبًا (سَوْقَكَ)، وفتحةُ دالِهِ على هذا إِعرابيَّةٌ./
          و(هَاءَ) أيضًا اسمُ فِعلٍ بمعنى: (خُذْ)، فحقُّه أَنْ لا(13) يَقَع بعدَ (إلَّا) كَمَا لا يَقَع بعدَها (خُذْ).
          وبعدَ أن وقعَ بعدَ (إلَّا) فيَجبُ تقديرُ قولٍ قَبلَه يكونُ به مَحكيًّا، فكأنَّه قِيلَ: ولا الذَّهَبَ بالذهبِ إلَّا مَقولًا عندَهُ مِنَ المتبايعَيْنِ: هَاءَ وهاءَ(14).
          وفي قولِ عائشةَ(15) ♦: (لا، إلَّا شيءٌ بَعَثتْ به أُمُّ عَطِيَّةَ) شاهدٌ على إبدال ما بعدَ (إلَّا) من مَحذوفٍ(16)؛ لأنَّ الأصلَ: لا شيءَ عندَنا، إلَّا شيءٌ بَعَثَتْ به(17) أُمُّ عطيَّةَ.
          وفي(18) : (أَقولُ ماذا؟) شاهدٌ على أنَّ (ما) الاستفهامية إذا رُكِّبتْ مع (ذا) تُفَارِقُ وُجوبَ التصدير، فيَعمَلُ فيها ما قَبلَها رفعًا ونصبًا، فالرفعُ كقولهم: (كان ماذا؟)، والنصبُ كقولِ أُمِّ المؤمنين(19) ♦: (أقولُ ماذا؟). /
          وأَجازَ بعضُ العلماءِ وُقُوعَها تَمييزًا، كقولِكَ _لِمَن قال: (عِندِي عِشرون)_: (عشرون ماذا؟).
          وفي قولِ أبي موسى ☺: (أَتَينا النبيَّ صلعم/ نَفَرٌ) شاهدٌ على ما ذَهَب إليه الأَخْفَشُ من جَواز أن يُبدَلَ من ضَمير الحاضر بدَلَ كُلٍّ من كُلٍّ فيما لا يَدُلُّ على إحاطةٍ(20)، وعليه حملَ الأخفشُ: {لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لاَ رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ}[الأنعام:12].
          وقَيَّدْتُ هذا المختَلَفَ فيه بكَونِه بدَلَ كُلٍّ مِنْ كُلٍّ؛ احتِرازًا مِنْ بَدَلَي البَعضِ والاشتِمالِ؛ فإنَّهما جائِزانِ بإجماعٍ، كقول الراجز(21) :
أَوْعَدَنِي بالسِّجْنِ والأَدَاهِمِ                     رِجْلي فَرِجْلي شَثْنَةُ المَنَاسِمِ (22)
          وكقول الشاعر(23) : /
ذَرِينِي إنَّ أَمْرَكِ لَنْ يُطَاعَا                     ومَا أَلْفَيْتِني حِلْمِي مُضَاعَا (24)
          وقيَّدتُه أيضًا بكونِه لا يَدُلُّ على الإحاطة؛ لأنَّ الدَّالَّ عليها جائزٌ بإجماعٍ، كقولِه تعالى: {تَكُونُ لَنَا عِيداً لِّأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا}[المائدة:114].
          وكقولِ أبي عُبَيْدَةَ(25) بنِ الحارِث ☺:/
فما بَرِحَتْ أقدامُنا في مَقَامِنَا                     ثَلَاثَتِنَا حتَّى أُزِيرُوا(26) المَنَائِيَا(27) /
          ويشهد لِصحَّة(28) ما ذَهَب إليه(29) الأَخْفَشُ قولُ الشاعر:
وشَوْهَاءَ تَعْدُو بِيِ إلى صَارِخِ الوَغَىَ                     بِمُسْتَلْئِمٍ مِثلَ الفَنِيقِ المُدَجَّلِ (30)
          وفي (أُرَى لَو جَمَعتُ) شاهدٌ على أنَّ (لو) قد تُعَلَّقُ(31) بها أفعالُ القلوب، ومنه قولُ رجلِ للنبيِّ صلعم: (إنَّ أُمِّي افْتُلِتَتْ نفسُها، وأظنُّ(32) لو تَكَلَّمَت تَصَدَّقَت، فهَل لها مِن أجرٍ إنْ تَصدَّقْتُ عنها؟) قال: «نعم». [خ¦1388] /


[1] ضبطت في الأصل و(ظ): (اطَّلَعتُم).
[2] كذا باتِّفاق الأصول، والحديث في صحيح البخاريِّ ░1494، 2579▒ مرويٌّ عن أمِّ عطيَّةَ ♦ من كلامها.
[3] في (ب): (رسولُ الله صلعم فقال).
[4] في (ظ): (قلت) وأشار بهامشها إلى ورود المثبَت في نسخةٍ.
[5] كذا باتِّفاق الأصول، وهو يوهم أنَّ الكلام للسيدة عائشة ♦، وليس كذلك؛ فالحديث المقصود وإن كان من روايتها إلَّا أنَّ الكلامَ المذكور هو من كلام أمِّها أُمِّ رُوْمانَ ☻.
[6] في (ج): (وماذا).
[7] في (ب): (قارٍ).
[8] تصحَّفت العبارة في (ج) إلى: (واستعمال ما).
[9] انقلبت العبارة في (ج) إلى: (وندر من دخول).
[10] في (ظ): (فمن).
[11] ضبطت في الأصل و(ظ): (اطَّلَعتُم).
[12] لفظة: (أي) ليست في (ج).
[13] في (ب): (ألَّا) بالإدغام.
[14] في (ظ): (هَاْ وهَاْ) بلا همزٍ، وأشار بهامشها إلى ورود المثبَت في نسخةٍ، وانظر شرح الكافية الشافية للمؤلِّف: 3/ 1385، وشرح صحيح مسلم للنووي: 11/ 12، وفتح الباري: 4/ 378.
[15] كذا باتِّفاق الأصول، والصواب أنه من كلام أمِّ عطيَّةَ ♦، كما سبق التنبيه عليه.
[16] العبارة في (ج): (... ما بعد (إلَّا) بحذف) وفيها خلل بيِّنٌ.
[17] لفظة: (به) ليست في (ج).
[18] بهامش الأصل بخطٍّ متأخِّر زيادة: (قولها)، وفي (ظ) زيادة: (قول عائشة)، وهو خطأ تقدَّم بيانُ صوابه أوَّل الفصل.
[19] كذا باتِّفاق الأصول، وهو خطأ، وصوابه أنه من كلام أمِّها أُمِّ رُوْمان ☻، كما تقدَّم بيانُه أول الفصل.
[20] في (ظ): (الإحاطة)، وانظر رأي الأَخْفَش في إعراب القرآن لابن سِيْدَه: 3/ 203 و7/ 181، وشرح الأشموني: 3/ 77، وشرح التسهيل لابن مالك: 3/ 334، والارتشاف: 4/ 1965، والبحر المحيط: 7/ 449.
[21] في (ب): (الشاعر الراجز). والرجز للعُدَيْل بن الفُرْخِ العِجْليِّ في المفصل: 3/70، وخزانة الأدب: 5/ 190، والتاج (دهم).
[22] بهامش (ج): (حاشية: المَنْسِم بكسر السين: خدُّ [كذا وصوابه: خُفُّ] البعير) ا ه، وبهامش الأصل بخطٍّ متأخِّر: (هامش: الشَّثنة: الغليظة من أثر العمل، والمَنْسِم: الظفر الذي يكون في خفِّ البعير، وهو أيضًا الظفر إذا عظُم من الآدميِّ) ا ه.
[23] في (ب): (الراجز).
[24] في (ظ): (حُكْمِي مُطَاعا) وأشار بهامشها إلى وُرود المثبَت في نسخةٍ.
[25] كذا باتِّفاق الأصول، وبهامش الأصل بخطِّ متأخِّر تعليقًا على لفظة (أبي): (لعلَّها زائدة، وهي ساقطة في بعض النسخ) ا ه. وقد وَرَد في بعض الروايات تسميته بأبي عُبَيدة كما في صحيح البخاريِّ برقم: ░3965▒، والمعروف أنه (عُبَيْدةَ _بلا كُنية_ بن الحارث بن المُطَّلِب القُرَشي) ☺ استُشهد يومَ بَدرٍ من أثر جرحٍ أصابه في المبارَزة المشهورة (وهي المُشار إليها في البيت المذكور)، وانظر لترجمته الإصابة في تمييز الصحابة: 4/ 424. والبيت له في السيرة النبوية: 3/ 25، وشرح التسهيل للمؤلِّف: 3/ 334، ومعجم شواهد العربية: 1/ 423.
[26] في الأصل: (أُزيرَ).
[27] في (ظ) زيادة: (ومثلُه:
~نُطَوِّفُ ما نُطَوِّفُ ثُمَّ يَأْوِيذَوُو الآمَالِ مِنَّا والعَدِيمُ
~إلى حُفَرٍ أَسَافِلُهُنَّ خَوْفٌوأَعْلَاهُنَّ صُفَّاحٌ مُقِيمُ) ا هـ.
[28] في الأصل: (بصحَّة).
[29] في (ظ): (لصحَّة ما قالَه).
[30] ضُبطت في (ظ): (المُرَحَّل) بالراء والحاء المهملة، وهو البَعير الذي وُضع عليه رَحلُه وأُرسل مندَفِعًا في تحرُّكه. والمثبَت موافقٌ لِما في الديوان، والمُدَجَّل: المَطليُّ بالقَطِران. والشَّوهاء: الفَرَس الطويلة الحديدة النفس. والفَنِيق: الفحل المكرم عند أهله، وبدله في الديوان: (البعير) وهو بمعناه.
[31] في (ج): (يعلَّق) بالياء.
[32] في (ظ): (وأظنُّها)، وهو موافقٌ لما في صحيح البخاريِّ.