شواهد التوضيح والتصحيح لمشكلات الجامع الصحيح

توجيه قول السيدة عائشة: فإذا بقي من قراءته نحوًا

          ░47▒
          ومنها قولُ عائشةَ ♦: (كان يُصلِّي جالِسًا، فيَقرَأُ وهو جالسٌ، فإذا بَقِيَ مِن قِراءَتِه نَحْوًا مِنْ كَذَا). [خ¦1119]
          قلتُ/: مَن رَوَى: (نحوٌ مِن كذا) بالرفع؛ فلا إشكالَ في روايته، وإنَّما الإِشكالُ في رِواية مَنْ رَوَى: (نحوًا) بالنصب، وفيه وجهان:
          أحدُهما: أن تَكونَ (مِنْ) زائدةً، ويَكون التقديرُ: فإذا بَقِيَ قِراءتُه نحوًا، فـ: (قِراءَته) فاعلُ (بَقِيَ)، وهو مَصدَرٌ مُضافٌ إلى الفاعلِ، ناصبٌ (نحوًا) بمقتضَى المفعوليَّة.
          وزيادةُ (مِنْ) على هذا الوجهِ لا يَرَاها سِيْبَوَيهِ؛ لأنهْ يَشتَرِطُ(1) في زيادتِها شرطَين:
          أحدُهما: تَقَدُّمُ نَفْيٍ أَو نَهيٍ أو استفهامٍ.
          والثاني: كونُ المجرورِ بها نَكِرةً. /
          والأَخْفَشُ لا يَشتَرِطُ ذلك، وبِقولِه أقولُ: لثبوتِ زيادتِها دونَ الشرطَين نثرًا ونَظمًا:
          فمن النثر: قولُه تعالى: {يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ} [الكهف:31]، {وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ} [الأحقاف:31[ {وَيُكَفِّرُ عَنكُم مِّن سَيِّئَاتِكُمْ} [البقرة:271]، {تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ}[البقرة:25] ](2)، ومنه قولُ عائشةَ ♦ في روايةِ مَنْ نَصَبَ (نحوًا).
          ومن ثُبوت ذلك نظمًا قولُ عُمَرَ بن أبي رَبِيعةَ(3) :/
ويَنْمِي لَهَا حُبُّها عِندَنَا                     فمَا قَالَ مِنْ كاشِحٍ لَم يَضِرْ
          وقولُ جَريرٍ(4) :
لَمَّا بَلَغْنَا إمَامَ العَدْلِ قلتُ لَهُم                     قَد كَانَ مِنْ طُولِ إدْلَاجٍ وتَهْجِيرِ
          ومثلُه:
وكنتُ أَرَى كالموتِ مِنْ بَيْنِ ساعةٍ                     فكيفَ بِبَيْنٍ كان موعدَُه الحَشْرُ
          ومثلُه: /
يَظَلُّ به الحِرْباءُ(5) يَمْثُلُ قائمًا                     ويَكثُرُ فيه مِنْ حَنينِ الأَبَاعِرِ
          والوجه الثاني: أنْ يجعلَ (مِنْ قراءتِه) صِفةً لفاعلِ (بَقِيَ) قامت مَقامَه لفظًا ونَوَى ثُبُوتَه(6)، ويجعل (نحوًا) منصوبًا على الحال، والتقديرُ: فإذا بَقِيَ بَاقٍ من قراءته نحوًا مِن كذا.
          وهذا الحذفُ يَكثُرُ قَبلَ (مِنْ)؛ لدلالتها على التبعيض، ومنه قولُ النبيِّ صلعم: «حَتَّى يَكونَ(7) مِنْهُنَّ ثلاثًا وثَلاثِينَ». [خ¦843]
          ومنه _على أَجودِ الوَجهَين_ قولُه تعالى/: {وَلَقدْ جَاءكَ مِن نَّبَإِ الْمُرْسَلِينَ} [الأنعام:34[أي:ولقد جاءكَ جاءٍ مِنْ نَبَأَ المرسَلين ](8).
          وأشرتُ بقولي: (على أَجودِ الوجهَين) إلى جَعْلِ الأَخْفَشِ (مِنْ) زائدةً. /
          وتقديرُ الفاعلِ المحذوفِ باسمِ فاعلِ الفِعلِ _كـ: (بَاقٍ) بعدَ (بَقِيَ)، و(جاءٍ) بعدَ (جَاءَ)_ أَولَى مِن تقديرِ غيرِه؛ لدلالةِ الفعل عليه معنىً ولفظًا.
          ولا يُفعَلُ هذا الحذفُ غالبًا دُونَ صِفةٍ مَقرونةٍ بـ: (مِن) إلَّا بعدَ نَفيٍ أو نَهيٍ.
          وقد تقدَّم في هذا المجموعِ(9) الاستشهادُ على وُقوعِ ذلك بعدَ النهيِ في قِراءةِ هِشَامٍ: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتًا}[آل عمران:169[وأنَّ معناهُ: ولا يَحسَبنَّ حَاسِبٌ الذين قُتِلوا في سَبيلِ اللهِ أَمواتًا] (10).
          ومثلُ قراءَةِ هِشَامٍ قولُ النبيِّ صلعم: «وَلَا تَنَاجَشُوا، ولا يَزِيدَنَّ على بيعِ أَخيه، ولا يَخْطُبَنَّ(11) على خِطْبَتِهِ» [خ¦2723]، ومثلُه _وإنْ لم يَكن بصِيغة النَّهيِ_ : (نَهَى رسولُ اللهِ صلعم أَنْ يُقِيمَ الرَّجلَ من مَجلِسِه ويَجلِسَ فيهِ)، ومثلُه: (نَهَى رسولُ اللهِ صلعم عَن بَيعتَين: عن اللِّمَاسِ، والنِّباذِ،/ وأَنْ يَشْتَمِلَ / الصَّمَّاءَ، وأَن يَحتَبِيَ في ثَوبٍ وَاحِدٍ). [خ¦368]
          ومِن حَذْفِ الفاعلِ بعدَ النَّفيِ قولُ النبيِّ صلعم: «لَا يَزني الزَّاني حِينَ يَزني وهو مُؤمنٌ، ولا يَشْرَبُ الخمرَ(12) حينَ يَشْرَبُها وهو مُؤْمِنٌ». [خ¦5578] /


[1] في (ظ): (شَرَط) وأشار إلى ورود المثبَت في نسخةٍ.
[2] ما بين المعقَّفتين ليس في الأصل، وعدم إيراده موافقٌ لما في النسخة القادرية، وإثباتُها موافقٌ لسياق الأدلَّة عندَ المؤلِّف في نفس القضية في شرحه على التسهيل: 3/ 138.
[3] في (ج) زيادة: (☺)! والبيت في ديوان ابن أبي ربيعة: ص175.
[4] في (ظ): (الآخَر) وأشار إلى ورود المثبَت في نسخةٍ، والبيت في ديوان جرير: ص256.
[5] ضُبطت في (ظ) بضبطَين: المثيَت، والثاني: (الجَرباءُ) بالجيم المفتوحة بدَل الحاء المهملة المكسورة، وبالثاني ضُبطت اللفظة في (ج)، وتصحَّفت (يَمثُل) في (ب) إلى: (لمثل).
[6] في (ج): (بثبوته) بزيادة الباء الجارَّة، وفي (ظ): (ونُوِيَ ثُبوتُه) بالبناء للمفعول.
[7] لفظة: (يكون) ليست في (ج).
[8] ما بين معقفين استدرك في الأصل بخطٍّ متأخِّر، وهو في باقي النسخ.
[9] لم يتقدَّم في هذا الكتاب كلامٌ للمؤلِّف متعلِّق بما أشار إليه، فلعلَّ تعليقاته كانت في كُنَّاشةٍ استَخلَصَ منها مادَّة هذا الكتاب، والله أعلم.
[10] ما بين معقفين استدرك في الأصل بخطٍّ متأخِّر، وهو في باقي النسخ.
[11] في (ظ) زيادة: (أَيْ: خاطبٌ)، ولعلَّها حاشيةٌ أقحمها الناسخ سهوًا في الأصل.
[12] في (ظ) زيادة: (أَيْ: شارِبٌ)، ولعلَّها حاشيةٌ أقحمها الناسخ سهوًا في الأصل.