شواهد التوضيح والتصحيح لمشكلات الجامع الصحيح

مواضع الحذف في الشرط والجواب

          ░49▒
          ومنها قولُ رسولِ الله(1) صلعم لسعدٍ: «إنَّكَ إنْ تركتَ ورثتَكَ أغنياءَ خيرٌ(2) من أَنْ تذرَهم عالَةً». [خ¦1295] [خ¦6733]
          وقوله صلعم لأُبَيِّ بن كَعبٍ: «فإنْ جَاءَ صَاحبُها، وإلَّا اسْتَمْتِعْ بها». [خ¦2437]
          وقوله صلعم لهِلَالِ بنِ أُمَيَّةَ: «الَبيِّنَةَ، وَإلَّا حَدٌّ في ظَهْرِكَ». [خ¦2671]
          قلتُ: تضمَّنَ الحديثُ/ الأولُ حَذْفَ الفاءِ والمبتدأِ معًا من جَوَاب الشَّرطِ؛ فإنَّ الأصلَ: إنْ تَرَكتَ ورثتَك أغنياءَ فهو خَيرٌ.
          وهو مِمَّا زَعَم النحويُّونَ أنَّه مَخصوصٌ بالضَّرورةِ، وليس مَخصوصًا بها، بل يَكثُرُ استعمالهُ في الشِّعر، ويَقِلُّ في غيرِه.
          فمِن وُرودِه في غير الشِّعر _مع ما تَضَمَّنَه الحديثُ المذكورُ_ قِراءةُ طَاوُسٍ: ▬وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاَحٌ إلَّيهُمْ خَيْرٌ↨ (3)؛ أَيْ: / أَصْلِحْ لَهُم فهو خيرٌ.
          وهذا وإنْ لم يُصرَّحْ فيه بأداة الشَّرطِ؛ فإنَّ الأمَر مُضَمَّنٌ معناها، فكانَ ذلك بمنزِلةِ التَّصريحِ بها في استحقاقِ جَوَابٍ، واستحقاقِ اقترانِه بالفاء؛ لكونِه جُملةً اسميَّةً.
          ومَنْ خَصَّ هذا الحذفَ بالشِّعر حادَ عن التَّحقيقِ، وضَيَّقَ حيثُ لا تَضْيِيقَ(4)، بَل هو في غَير الشِّعرِ قليلٌ، وهو فيه كَثيرٌ، ومن الشَّواهد الشِّعرية قولُ الشاعر:/
أَأُبَيُّ لا تَبْعُدْ فليسَ بخالدٍ                     حَيٌّ ومَنْ تُصِبِ المَنُونُ بَعِيدُ
          ومثلُه:
فهل أَنَا إلَّا مثلُ سَيِّقَةِ العِدَى                     إنِ اسْتَقْدَمَتْ نَحْرٌ(5) وإنْ جَبَأَتْ عَقْرُ
          ومثلُه: /
بَني(6) ثُعَلٍ لَا تَنْكِعُوا العَنْزَ شِرْبَها                     بني ثُعَلٍ مَنْ يَنْكَع(7) العَنزَ ظالمُ
          وإذا حُذِفتِ(8) الفاءُ والمبتدأُ معًا، ولم يُخَصَّ ذلك بالشِّعرِ؛ فحَذْفُ الفاءِ وَحْدَها(9) أَوْلَى بالجَوَازِ، وأَنْ لَا يُخَصَّ بالشِّعرِ، فلو قِيلَ في الكلام: (إنِ اسْتَعَنْتَ أَنتَ مُعَانٌ)، لم أَمنَعْه، إلَّا أَنَّه لم أَجِدْهُ مُسْتَعمَلًا(10) إلَّا في شِعرٍ، كقولِ الشاعر: /
مَنْ يَفْعَلِ الحَسَناتِ اللَّهُ يَشْكُرُها                     والشَّرُّ بالشَّرِّ عِندَ اللهِ مِثْلَانِ
          ومثلُ حَذْفِ المبتدأِ مقرونًا بفاءِ الجَوَاب(11) حَذْفُه مَقرونًا بواو الحالِ، كقول عُمَرَ بنِ أَبي سَلَمَةَ: (رَأَيتُ رسولُ اللهِ صلعم يُصَلِّي في ثَوبٍ مُشْتَمِلٌ(12) بهِ، في بَيتِ أُمِّ/ سَلَمَةَ) [خ¦356]، ثَبَتَ برَفْعِ (مُشتَمِل).
          وتَضَمَّن الحديثُ(13) الثاني حَذْفَ جَوَابِ (إنْ)(14) الأُوْلى، وحَذْفَ / شَرطِ (إنْ) الثانية، وحَذفَ الفاءِ مِن جَوَابِها؛ فإنَّ الأَصلَ: فإِنْ جاءَ صاحبُها أَخَذَها، وإنْ لا يَجِئْ فاسْتَمتِعْ بها.
          وتَضَمَّن الثالثُ(15) حَذْفَ فِعْلٍ ناصِبٍ (البيِّنةَ)، وحَذْفَ فعلِ الشَّرطِ بعدَ (إنْ لا)، وحَذفَ فاءِ الجوابِ والمبتدأِ معًا؛ فإنَّ الأصلَ: أَحْضِرِ البيِّنةَ، وإنْ لا تُحْضِرْهَا فجَزاؤُكَ حَدٌّ في ظَهرِكَ.
          والنحويُّون لا يَعتَرِفون بمِثلِ هذا الحَذفِ في غَير الشِّعرِ _أَعني حَذْفَ فاءِ الجوابِ_ إذا كان جُملةً اسميَّةً، أو جُملةً طَلَبيَّةً، وقد ثَبَتَ ذلك في هذين الحديثَين، فبطُلَ تخصيصُه بالشِّعرِ، لكنَّ الشِّعرَ به أَوْلى.
          وإذا(16) جَاز حَذفُ الفاءِ والمبتدأِ معًا؛ فحَذفُها والمبتدأُ غيرُ مَحذوفٍ أَولى بالجَوازِ، فلذلك قُلتُ قَبلَ هذا: (فلو قِيلَ في الكلامِ: إنِ اسْتَعَنتَ أنتَ مُعَانٌ، لم أَمنعْه).
          ومِن وُرُودِ الجَوابِ/ طَلَبًا عارِيًا من الفاءِ قولُ الشاعر:
إنْ تُدْعَ للخَيرِ كُنْ إيَّاهُ مُبْتَغِيًا(17)                      وَمَنْ دَعَاكَ لَهُ احْمَدْهُ(18) بِمَا فَعَلَا /


[1] في (ظ): (النَّبيِّ).
[2] في (ظ): (في نسخة زيادة: لكَ).
[3] ضبط ابنُ جِنِّي في المحتسب قراءةَ طاوُسٍ: {أَصْلِحْ إلَيهِم}، وتبعه د. طه محسن في تحقيقه لشواهد التوضيح (ص192) مصرِّحًا بمخالفته لما اتَّفقت عليه النُّسخ المعتمَدة في التحقيق، وليس بجيِّد؛ فما أثبتناه باتِّفاق الأصول موافقٌ لضبط ابن خالَوَيه، وهو موافقٌ أيضًا لما نقله الحافظ ابن حجر في فتح الباري ░5/ 366▒ عن المؤلِّف.
[4] في (ج): (لا يَضيق)، وهو موافقٌ لما نقله الملَّا علي القاري في مرقاة المفاتيح ░6/ 230▒ عن المؤلِّف.
[5] تصحَّفت في (ج) إلى: (بحر) بالباء بدل النون، والسَيِّقة: الطليعة، وجَبَأَت: جَبُنت وتأخَّرت.
[6] بهامش (ظ): (في نسخة: بنو)، وتصحَّفت (ثُعَل) في (ج) إلى: (ثغل) بالغين المعجمة في الموضعين.
[7] بهامش (ظ) حاشية: (النَّكع: الإعجال) ا ه، وهذا أحد معاني الكلمة الواردة في المراجع اللغوية، وليس مرادًا في هذا البيت بلا شكٍّ، بل المرادُ: المَنع والحبسُ، وهو ظاهرٌ بيِّنٌ.
[8] في (ظ): (حُذف)، وأشار بهامشها إلى ورود المثبت في نسخة.
[9] تصحَّفت في (ج) إلى: (وخَبَرها).
[10] زاد في هامش الأصل بخطٍّ متأخِّر: والمبتدأُ مَذكورٌ. اهـ.
[11] لفظة: (الجواب) ليست في (ب).
[12] في (ظ) زيادة: (أي: وهو مُشتَمِلٌ)، ولعلَّها حاشيةٌ أَقحَمَها الناسخُ سَهوًا في الأصل.
[13] في (ج): (هذا الحديث)، وهو خطأٌ محضٌ.
[14] تصحَّفت العبارة في (ب) إلى: (... الثاني جوازَ حَذْفِ إن).
[15] في (ج): (الحديث الثالث).
[16] في (ظ): (فإذا).
[17] بهامش (ج): (في نسخة: مُتَّبِعًا)، وهو المثبَت في (ظ).
[18] في (ظ): (أَنْعِمْ)، وأشار بهامشها إلى ورود المثبَت في نسخةٍ.