شواهد التوضيح والتصحيح لمشكلات الجامع الصحيح

وقوع الشرط مضارعًا والجواب ماضيًا

          ░2▒
          ومنها قولُ النَّبيِّ صلعم: «مَنْ يَقُمْ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ». [خ¦35]
          وقولُ عائشة أُمِّ المؤمنين ♦: «إنَّ أبَا بَكْرٍ رجلٌ أَسِيفٌ، متى يَقُمْ مَقامَكَ رَقَّ». [خ¦3384]
          قال: تَضَمَّنَ هذانِ الحديثانِ وقوعَ الشَّرطِ مضارعاً والجوابِ(1) ماضياً لفظاً لا معنًى، والنَّحويونَ يَستضعفونَ ذلكَ(2)، ويراهُ بعضُهم مخصوصاً بالضَّرورةِ. والصَّحيحُ الحكمُ بجوازِهِ مطلقاً؛ لثبوتِهِ في كلامِ أفصحِ الفصحاءِ، وكثرةِ ورودِهِ عن فحولِ الشُّعراءِ، كقولِ نَهْشَلِ بنِ ضَمْرَة:
يا فارسَ الحيِّ يومَ الرَّوعِ قدْ عَلِموا                     ومِدْرَهَ الخَصْمِ لا نِكْساً ولا وَرَعَا(3) /
ومُدْرِكَ التَّبْلِ(4) في الأعداءِ يطلبُهُ                     وَمَا يَشَأْ عِنْدَه مِنْ تَبْلهم مَنَعَا /
          وكقولِ أعشى قيسٍ:
وَمَا يُرِدْ مِنْ جميعٍ بعدُ فَرَّقَه                     وَمَا يُرِدْ بعدُ مِنْ ذِي فُرْقَةٍ جَمَعا
          وكقولِ حاتمٍ:
وإنَّكَ مهما تُعْطِ بَطْنكَ سُؤْلَه                     وفَرْجَكَ نَالَا مُنْتهى الذَّمِّ أجمعَا
          وكقولِ رُؤْبَـــةَ:
ما يُلْقَ في أشداقِهِ تَلَهَّما                     إذا أَعَادَ الزَّأْرَ(5) أَوْ تَنَهَّمَا
          ومثله:
إنْ يَسْمَعُوا سُبَّةً(6) طاروا بها فرحاً                     عَنِّي وما يَسْمَعُوا مِنْ صالحٍ دَفَنُوا
          ومثله:
إنْ تَستجيروا أجرْنَاكم وإنْ تهنوا                     فعندنا لكم الإِنجادُ مبذُولا
          ومثله:
متى تأتِهِ ألفيتَهُ مُتكفِّلاً                     بنصرةِ مذعورٍ وترفيه بائِسِ/ /
          ومثله:
إنْ تصرمُونَا وصلناكم وإنْ تصلوا                     مَلأْتُم أَنْفُسَ الأعداءِ إرْهَابَا
          وممَّا يؤيدُ هذا الاستعمالَ قولُه تعالى: {إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِم مِّن السَّمَاء آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ}[الشعراء:4]. فعطفَ على الجوابِ الذي هو (نُنَزِّلُ): (ظَلَّت) وهو ماضي اللفظِ، ولا يُعطفُ على الشيءِ غالباً إلَّا ما يجوزُ أَنْ يَحُلَّ محلَّه، وتقديرُ حلولِ (ظَلَّت) محلَ (نُنَزِّلُ): إنْ نشأ ظَلَّتْ أعناقُهم لِمَا نُنَزِّلُ(7) خاضعينَ.
          ولهذا الاستعمالِ أيضاً مُؤَيِّدٌ مِنَ القياسِ؛ وذلكَ أنَّ محلَّ الشرطِ مختصٌّ بما يتأثرُ بأداةِ الشَّرطِ لفظاً أو تقديراً، واللفظيُّ أصلٌ للتقديري(8)، ومحلُّ الجوابِ محلٌّ غيرُ مختصٍّ بذلكَ؛ لجوازِ أنْ يقعَ فيه جملةٌ اسميةٌ، وفعلُ أمرٍ أو دعاءٍ، أو فعلٌ مقرونٌ بـ: (قد)، أو حرفِ تنفيسٍ، أو بـ: (لن)، أو بـ: (ما) النافية.
          فإذا كانَ الشَّرطُ/ والجوابُ مضارعينِ وافقا(9) الأصلَ؛ لأنَّ المرادَ منهما الاستقبالُ، ودلالةُ المضارعِ عليه موافقةٌ للوضْعِ، ودلالةُ الماضي عليهِ مخالفةٌ للوضْعِ، وما وافقَ الوضعَ أصلٌ لما خالفَه، وإذا كانا ماضيينِ خالفا الأصلَ، / وحَسَّنَهُما وجودُ التَّشاكلِ.
          وإذا كانَ أحدُهما مضارعًا والآخرُ ماضيًا حصلتِ الموافقةُ منْ وجهٍ والمخالفةُ من وجهٍ. وتقديمُ الموافقِ أولى منْ تقديمِ المُخالفِ؛ لأنَّ المخالِفَ نائبٌ عن(10) غيرِهِ، والموافقَ ليس نائباً، ولأنَّ المضارعَ بعد أداةِ الشَّرطِ غيرُ مصروفٍ عمَّا وُضعَ لهُ؛ إذْ هو باقٍ على الاستقبالِ، والماضي بعدَها مصروفٌ عمَّا وُضِعَ له؛ إذْ هو(11) ماضي اللفظِ مستقبلُ المعنى، فهو ذُو تغـــيُّـــرٍ في اللفظِ دُونَ المعنى، على تقديرِ كونِهِ في الأصلِ مضارعًا، فردَّته الأداةُ ماضيَ اللفظِ ولم تُـــغَـــيِّـــر(12) معناه. وهذا مذهب الـمُبَـــرَِّد.
          أو هو ذُو تغيُّرٍ في المعنى/ دونَ اللَّفظِ، على تقديرِ كونِهِ في الأصلِ ماضيَ اللَّفظِ والمعنى فغَيَّرتِ الأداةُ معناه دُونَ لفظِهِ، وهذا هو المذهبُ المُخْتَارُ.
          وإذا كانَ ذا تغيُّرٍ فالتأخرُّ أولى بِهِ منَ التَّقدمِ؛ لأنَّ تغييرَ الأواخرِ أكثرُ منْ تغييرِ الأوائلِ. /


[1] في (ج): والجزاء.
[2] (ذلك): ساقط من (ج).
[3] بهامش الأصول جميعاً: المِدْرة: لسان القوم الذي يعتمدون عليه فيما يريدون من القول. والوَرِع: الرجل الضعيف، يُقال: وَرُعَ فهو ورع.
[4] بهامش الأصل و(ج): التَّبل: الدَّخْلُ. زاد في هـامش (ج): أعني الحقد.
[5] في (ج): «الزاد» بالدال.
[6] في (ج): «سوءةً»، وفي الأصل: «سيئة»، والمثبت من (ب).
[7] في (ج): (ينزل) بالياء التحتية.
[8] في (ج): (أصلُ التقديري) بإسقاط اللام.
[9] في (ج): (وافق) وأشار إليها في هامش الأصل.
[10] في (ج): (من) تحريف.
[11] «إذ هو»: ساقط من (ج).
[12] في (ج): «يغير» بالياء التحتيه.