شواهد التوضيح والتصحيح لمشكلات الجامع الصحيح

عود ضمير مؤنث على مذكر

          ░27▒
          ومنها قولُ النَّبي صلعم: «أَسْرِعُوا بالجنازة، فإنْ تَكُ صالحةً فخيرٌ تُقدِّمُونَها إليها، وإنْ تكُ سِوَى ذلك فشرٌ تَضَعُونَه عن رِقَابِكم» (1).
          قال: موضعُ الإشكال في هذا الحديث قوله: «فخيرٌ تُقدِّمُونَها إليها» فأنَّثَ الضميرَ العائدَ على (الخير) وهو مذكر، فكان(2) ينبغي أن يقولَ: فخير تقدمونها إليه(3)./
          لكنَّ المذكَّر يجوز تأنيثُه إذا أُوِّلَ بمؤنث، كتأويل (الخير) الذي تُقَدَّمُ إليه النفسُ الصالحةُ بالرحمة أو بالحسنى أو باليُسرى، كقوله تعالى: {لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى}[يونس:26]، وكقوله تعالى: {فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى}[الليل:7].
          ومن إعطاء المذكر حُكْمَ المؤنث باعتبار التأويل قولُ النبي صلعم في إحدى الروايتين: «فإنَّ في إحدى جناحيه داءً والأخرى شِفَاءً» [خ¦3320](4). والجناحُ مذكرٌ، ولكنه من الطائر بمنزلة اليد، فجاز تأنيثهُ مُؤَوَّلاً بها.
          ومن تأنيث المُذَكَّر لتأويله بمؤنث قوله تعالى: {مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُأَمْثَالِهَا}[الانعام:160] / فأَنَّث عدد الأمثال وهي مذكرة لتأويلها بحسناتٍ.
          ومثله قراءة أبي العالية: ▬لا تَنفَعُ نفساً إيمانُها↨ بالتاء، والفعلُ مسنَدٌ إلى (الإيمان) لكنه في المعنى طاعةٌ وإنَابَةٌ، فكان ذلك سبباً اقتضى تأنيث فعله.
          ولا يجوز أن يكونَ تأنيثُ فعلِ الإيمان؛ لكون الإيمان سرى إليه تأنيثٌ من المضاف إليه، كما سرى من (الرياح) إلى (المرِّ) في قول الشاعر:/
مَشَيْنَ كما اهتزَّتْ رماحٌ تَسَفَّهَتْ                     أعاليَها مَرُّ الرياحِ النواسمِ
          لأنَّ سريانَ التأنيث من المضاف إليه إلى المضاف مشروطٌ بصحة الاستغناء به عنه، كاستغنائك بالرياح عن الـمَرِّ، في قولك: تسفهت أعاليَها الرياحُ، وذلك لا يتأتَّى في {لاَ يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا} [الأنعام:158]؛ لأنَّك لو حذفت (الإيمان) وأسندتَ (تنفع) إلى المضاف إليه لزم إسنادُ الفعل إلى ضمير مفعوله، وذلك لا يجوز بإجماعٍ؛ لأنه بمنزلة قولك: (زيداً ظَلَمَ)؛ تريد: ظلم زيدٌ نفسَه(5)، فتجعلُ(6) فاعلَ (ظلم) ضميراً(7) لا مُفسِّرَ له إلَّا مفعولُ / فِعْلِه، فتصيرُ العمدةُ مفتقرةً إلى الفَضْلة افتقاراً لازماً، وذلك فاسدٌ، وما أفضى إلى الفاسد فاسِدٌ.
          وقد خفي هذا المعنى على ابن جني، فأجاز في (المحتسب) أن تكون قراءةُ أبي العالية من جنس (تسفهت أعاليَها مَرُّ اَلرياح) وهو خطأ بيِّنٌ، والتنبيه عليه مُـــتَـــعَـــيِّـــنٌ.
          وقد/ يصحُّ قولُ ابن جني بأن يُجعلَ لسريانِ التَّأنيثِ منَ المضافِ إليهِ إلى المضافِ سببٌ آخرُ، وهو كونُ المضافِ شبيهاً بما يُسْتغنى عنه، فالإيمان وإنْ لم يُسْتَغَنَ عنه في {لاَ يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا} [الأنعام:158]، قد يستغنى عنه(8) في (سَرَّتني إيمانُ الجارية)، فسرى إليه التأنيث بوجودِ الشَّبَه، كما يسري إليه بصحة الاستغناء عنه، ويؤيدُ ذلك قولُ ابن عباس(9) ☻: (اجتمع عند البيت قرشيانِ وثقفي، أو ثقفيان وقرشي، كثيرةٌ شحمُ بطونهم، قليلةٌ فِقْهُ قلوبهم) [خ¦4817]، فسرى تأنيث البطون والقلوب(10) إلى الشحم والفقه، مع أنهما لا يُسْتَغنى عنهما بما أُضِيفَا إليهما، لكنهما شبيهان بما يُستغنى عنه، نحو: أعجبتني شحمُ بطون الغنم، ونفعتِ الرجالَ فِقْهُ قلوبهم.
          وقد يكون تأنيثُ (كثيرةٌ) و(قليلةٌ) لتأوُّلِ (الشحم) بالشحوم، و(الفقه) بالفهوم. /
          ومن/ إعطاء المذكر حكمَ المؤنث لمجرد التأويل ما رَوى أبو عمرو من قول رجل من اليمن: (فلان لَغُوبٌ جاءتهُ كتابي فاحتقرها). قال: فقلت: أتقول: جاءته كتابي؟ قال: نعم، أليس بصحيفة؟!. /


[1] الحديث في النسخة اليونينية من صحيح البخاري 2/86، دون قوله: «إليها»، وفي نسخة ابن حجر والعيني برواية: «إليه»، وعليهما فلا إشكال في الحديث، لكن ذكر ابن حجر والعيني رواية: «إليها» عن ابن مالك، انظر فتح الباري 3/236، وعمدة القاري 7/22.
[2] قوله: (فكان) ليس في (ج).
[3] في الأصل و(ج): (أن يقول: فخير قدمتموها إليه).
[4] في (ج): (في إحدى جناحيه دواء والأخرى شذا) وهو تصحيف.
[5] قوله: (تريد: ظلم زيدٌ) ليس في (ج).
[6] في (ج): (فيجعل) بياء المضارعة.
[7] في (ج): (ضمير زيد).
[8] قوله: (فالإيمان... قد يستغنى عنه): ليس في (ج).
[9] في (ج): (فيسري).
[10] في (ب): (فسرى تأنيث القلوب والبطون).