غاية المرام في رجال البخاري إلى سيد الأنام

سليمان بن مهران الأعمش

          518 # سُلَيْمَانُ بنُ مِهْرانَ _بكسر الميم، وسكون الهاء_ أبو محمَّد، الأَسَدِيُّ، الكاهِليُّ، / التَّابعيُّ، الكوفيُّ، الأَعْمَشُ.
          ثقة، حافظ، عارف بالقرآن، ورع، لكنَّه قد يدلِّس. رأى بعض الصَّحابة، ولم يثبت له سَمَاع منهم، قاله الكرمانيُّ(1) ، قال يحيى القطَّان: كان الأعمش من النُّسَّاك، وكان عَلاَّمةَ الإسلام.
          وقال عيسى بن يونس: لم نر نحن، ولا القرنُ الذي قبله مثل الأعمش، وما رأيت السَّلاطين عند أحد أحقرَ منهم عند الأعمش مع فقره وحاجته.
          قال وكيع: راح الأعمش إلى الجمعة وقد قلب الفروة جلدها على جلده وصوفها إلى(2) خارج، وعلى كتفه منديل الخوان مكان الرداء، ورأى أبا بَكْرَةَ الثَّقفيَّ، وأخذ بركابه، فقال: يا بنيَّ، إنَّما أكرمت ربَّك ╡.
          قال إسحاق(3) بن راشد: قال لي الزُّهريُّ: بالعراق أحد يحدث؟ قلت: نعم، هل لك أن آتيك بحديث بعضهم؟ قال: نعم، فجئت بحديث الأعمش. فجعل ينظر فيها، ويقول: ما ظننت أنَّ بالعراق من يحدِّث مثل هذا. قال: قلت: وأزيدك أنَّه من مواليهم.
          وليس في المحدِّثين أثبت من الأعمش، ومن منصور بن المعتمر، وهو أفضل من الأعمش، وأعمش أعرف بالسُّنن(4) ، وأكثر مسنداً منه، وكان محدِّثَ أهل الكوفة في زمانه، ظهر له أربعة آلاف حديث، ولم يكن له كتاب، وكان رأساً في قراءة القرآن فصيحاً، لا يلحن حرفاً، عالماَ بالفرائض. قيل: إنه روى عن أنس حديثاً واحداً في دخول الخلاء(5) .
          قال شعبة: ما شفاني أحد في الحديث ما شفاني الأعمش. قال هشيم: ما رأيت بالكوفة أقرأ لكتاب الله تعالى من الأعمش، ولا أجود حديثاً، ولا أفهم، ولا أسرع إجابة لما يسأل (عنه). له نحو ألف وثلاث مئة حديث. قال أبو بكر بن عيَّاش: كنَّا نسمِّي الأعمش سيِّد المحدِّثين، وكنَّا نجيء إليه إذا فرغنا من الدَّوران، فيقول: عند من كنتم؟ فنقول: فلان. فيقول: طَبْلٌ مُخَرَّق. ثمَّ نقول [له] : عند فلان. فيقول: ريح(6) ، وعند من؟ فنقول: (فلان. فيقول): دون(7) . ويخرج إلينا شيئاً فنأكله، فقال (لنا) يوماً: لا يخرج إليكم الأعمش شيئاً إلا أكلتموه. قال: فأخرج لنا شيئاً فأكلناه، وأخرج [أيضاً فأكلناه، وأخرج] فتيتاً فشربنا، فدخل وأخرج قدحاً صغيراً وقَتَّاً، فقال: فعل الله بكم، أكلتم قوتي وقوت امرأتي، وشربتم فَتِيْتَهَا، هذا علف الشَّاة كلوه أيضاً. فمكثنا ثلاثين يوماً لا نقدر نأتيه؛ حتَّى سألنا شخصاً عطَّاراً كان يجلس إليه، فكلَّمه لنا.
          قال يحيى بن معين: كان جرير إذا حدَّث عن الأعمش قال: حدَّثنا الديباجُ / الخُسْرُوَانِيُّ. وكان شعبة إذا ذكر الأعمش قال: قال لي المصحف. سمَّاه المصحف لصدقه، وكان أبوه من سبي الدَّيْلَم، وكان فيه تشيِّع، وكان يسمَّى بسيِّد المحدِّثين. قاله الكرمانيُّ(8) ، وقال أبو نصر: كان أبوه حَميلاً(9) ، بالحاء المهملة. سمع سعيد بن جبير، والشَّعبيَّ، وإبراهيم بن يزيد النَّخعيَّ، وإبراهيم التَّيميَّ، وعمرو بن مُرَّة، وأبا وائل، ومجاهداً(10) ، وأبا صالح، ومسلماً البطين. روى عنه شعبة، والثَّوريُّ، وابن عيينة، وأبو عوانة، وأبو معاوية، وحفص بن غياث، وجرير، وأبو نُعيم الفَضْلُ. نقل عنه البخاريُّ بالواسطة في مواضع، أوَّلها: في باب ظلم دون ظلم، من كتاب الإيمان [خ¦32] .
          قيل للأعمش: لِمَ لَمْ(11) تستكثر من الشَّعبيِّ؟ فقال: كان يحتقرني، وكنت آتيه مع إبراهيم، فيترحَّب به، ويقول لي: اقعد ثَمَّ(12) أيُّها العبد، ثمَّ يقول: لا ترفع العبد فوق سننه ما دنا منَّا بأرضنا شريف.
          قال ابن خلِّكان: كان ثقة عالماً فاضلاً، وأبوه من دُنْبَاوَنْدَ _بضمِّ المهملة، وإسكان النُّون، ثمَّ باء موحَّدة، وواو مفتوحة بعد ألف، ثمَّ نون ساكنة آخرها مهملة_ ضيعة من رُسْتَاق الرَّي، وقدم الكوفة وامرأته حامل بالأعمش، فولدته بها، وكان الأعمش يقارَن بالزُّهريِّ في الحجاز، ورأى أنس بن مالك وكلَّمه، لكن لم يرزق السَّماع عليه، وما يرويه عن أنس فهو إرسال.
          وروى عن عبد الله بن أبي أوفى حديثاً واحداً. قال وكيع: كان الأعمش قريباً من سبعين سنة لم تفته التَّكبيرة الأولى. قال: واختلفتُ إليه قريباً من سنتين ما رأيته يقضي ركعة، وكان لطيف الخُلُق مَزَّاحاً، جاءه أصحاب الحديث ليسمعوا عليه، فخرج إليهم، وقال: لولا أنَّ في منزلي من هو أبغض إليَّ منكم ما خرجت إليكم. وجرى بينه وبين زوجته يوماً كلام، فدعا رجلاً ليصلح بينهما، فقال لها الرَّجل: يا فلانة، لا تنظري إلى عَمَشِ عينيه، وحُمُوشة ساقيه، فإنَّه إمام، وله قَدْر. فقال له: جزاك الله خيراً، ما أردَت إلَّا أن تعِّرفها عيوبي، لا لتصلح.
          قال جرير: طلبنا الأعمش يوماً، فوجدناه في ناحية، فجلسنا في ناحية أخرى، وفي الموضع خليج من ماء المطر، فجاء رجل عليه سواد، فلمَّا بَصُرَ بالأعمش _وعليه فروة حقيرة_ قال(13) : قم حماري، عَبِّرْني في هذا الخليج. وجذب بيده، فأقامه وركبه، وقال: { سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ } [الزخرف:13] فمضى به الأعمش / حتَّى توسَّط به الخليج، ثمَّ رمى به، وقال: { وَقُل رَّبِّ أَنزِلْنِي مُنزَلًا مُّبَارَكًا وَأَنتَ خَيْرُ الْمُنزِلِينَ } [المؤمنون:29] وترك الرَّجل يتخبَّط في الماء، وله نوادر كثيرة.
          ولد سنة ستِّين للهجرة، وقيل: يوم مقتل الحسين يوم عاشوراء سنة إحدى وستِّين. وكان أبوه حاضراً قتل الحسين، وهو ممَّن حملت به أمه سبعة أشهر. قال زائدة بن قدامة: تَبِعْتُ الأعمش يوماً فأتى المقابر، فدخل في قبر محفور، فاضطجع فيه، ثمَّ خرج منه، وهو ينفض التُّراب عن رأسه، ويقول: واضيق مسكناه.
          توفي سنة سبع أو ثمان أو تسع أو أربعين ومئة.
          لطيفة: ذكرها الدَّمِيْرِيُّ أوَّلَ الهبة(14) ، قال: لمَّا ولي الحَسَنُ بنُ عُمَارَةَ قاضي بغداد مظالم الكوفة(15) بلغ الأعمش ذلك، فقال: ظالم تولَّى مظالم. فبلغ ذلك الحسن، فأهدى إليه أثواباً ونفقة، فقال الأعمش: مثل هذا يصلح أن يولَّى علينا، يرحم صغيرنا، ويوقِّر كبيرنا، ويعود على فقيرنا. فقيل له: يا أبا محمَّد، بالأمس تقول كذا، واليوم تقول كذا! فقال: حدَّثني خيثمة، عن ابن مسعود أنَّ النَّبيَّ صلعم قال: «جُبلت القلوب على حبِّ من أحسن إليها» قال الدَّميريُّ: والأصحُّ وَقْفُهُ على ابن مسعود(16) .
          ذكر الغزاليُّ في إحيائه(17) أنَّ أبا حنيفة قال للأعمش: بلغني عن رسول الله صلعم أنَّ الله لم يكن يأخذ من أحد شيئاً إلَّا عَّوضه بخير منه، أو (كما) قال، وأنت ماذا عوَّض الله عليك لمَّا أخذ عينيك؟ قال: عوَّضني الله تعالى عدم النَّظر إلى الثُّقلاء وأنت منهم، أو كما قال.


[1] شرح البخاري:1/144.
[2] في غير (ن): (على).
[3] في (ه): (ابن إسحاق).
[4] في غير (ن): (بالمسند).
[5] الترمذي برقم (14) قال أبو عيسى: هكذا روى محمد بن ربيعة عن الأعمش عن أنس هذا الحديث، وروى وكيع وأبو يحيى الحِمَّاني عن الأعمش قال: قال ابن عمر: كان النبي صلعم إذا أراد الحاجة لم يرفع ثوبه حتى يدنو من الأرض، وكلا الحديثين مرسل، ويقال: لم يسمع الأعمش من أنس، ولا من أحد من أصحاب النبي صلعم، وقد نظر إلى أنس بن مالك قال: رأيته يصلي، فذكر عنه حكاية في الصلاة.
[6] كذا في النسخ كلها، وفي تهذيب الكمال:12/88، والسير للذهبي:11/307: طير طيار.
[7] في (ن): (دفٌّ).
[8] شرح البخاري:1/145.
[9] وجاء في (هـ) (وكان أبو حميلاً)، وفي (س): وكان حميلاً، والحميل: الولد في بطن أمه إذا أُخذت من أرض الشرك إلى بلاد الإسلام. (اللسان: جمل)، والقَتُّ: الفِصْفِصَة، وقول أبي نصر في الهداية والإرشاد:1/311.
[10] في (ن): (ومجاهد).
[11] في (ن): (لم لا).
[12] في غير (ن): (قم).
[13] في (ن): (وقال).
[14] النجم الوهاج:5/536.
[15] جاء في (ن) هنا زيادة: (يعني صار محتسباً لأن آلة المظالم) والظاهر أنها هامش مقحم.
[16] ذكره البيهقي في شعب الإيمان 11/306.
[17] الإحياء:3/179، وسقط من (د) قوله: فقيه المدينة إلى قوله: وقيل.