غاية المرام في رجال البخاري إلى سيد الأنام

سفيان بن سعيد

          483 # سُفْيَانُ بنُ سَعِيْد بن مَسْرُوق _المذكور قبل ترجمة سفيان_ هو الثَّوريُّ، الكوفيُّ، أبو عبد الله.
          ثقة، حافظ، فقيه، عابد، إمام، حجَّة، وربَّما كان يدلِّس، إمام أهل الكوفة، دفين البصرة.
          مولده سنة خمس وتسعين، في إمارة سليمان بن عبد الملك، فلمَّا قعد بنو العباس، راوده المنصور على أن يلي الحكم، فأبى، وخرج من الكوفة هارباً للنِّصف من ذي القعدة سنة خمس وخمسين ومئة، ثمَّ لم يرجع إليها حتَّى مات بالبصرة في دار عبد الرَّحمن بن مهديٍّ، في شعبان سنة إحدى وستِّين ومئة، وهو ابن ستٍّ وستِّين سنة، وقبره في مقبرة بني كُلَيب بالبصرة.
          وكان من سادات زمانه، علماً، وورعاً، وحفظاً، وإتقاناً(1) ، شمائله في الصَّلاح والورع أشهر من أن تحتاج إلى ذكر، وله إخوة ثلاثة، المبارك، وحبيب، وعمر بنو سعيد. قاله ابن السَّمعانيِّ(2) .
          قال الكرمانيُّ: هو الإمام / الكبير، العالم الرَّبَّانيُّ، أحد أصحاب المذاهب المتبوعة، المتَّفق على ارتفاع منزلته، وكثرة علومه، وصلابة دينه، القائم بالحقِّ غير خائف في الله لومة لائم.
           منسوب إلى أحد أجداده المسمَّى(3) بثور، وهو من تابعي التَّابعين.
          قال شعبة، وابن عاصم: سفيان أمير المؤمنين في الحديث.
          قال ابن المبارك: كتبت على ألف شيخ ومئة شيخ، ما كتبت على أفضل من الثَّوريِّ.
          وقال ابن معين: كلُّ من خالف الثَّوريَّ، فالقول قول الثَّوريِّ.
          وقال ابن عيينة: أنا من غلمان الثَّوريِّ، وكان وُهَيْب يقدِّم سفيان في الحفظ على مالك.
          صاحبُ الكرامات الواضحة.
روي أنَّ أبا جعفر الخليفة بعث الخشَّابين قدَّامه(4) إلى مكَّة حين خرج إليها، وقال: إذا رأيتم سفيان فاصلبوه. فوصل النَّجَّارون إلى مكَّة، ونصبوا الخشب، فنودي سفيان: فإذا رأسه في حجر الفُضيل بن عِيَاض، ورجله في حجر سفيان بن عيينة، فقالوا: يا أبا عبد الله، لا تشمت بنا الأعداء. فتقدَّم إلى أستار الكعبة فأخذها، وقال: برئت منها إن دخل أبو جعفر. فمات أبو جعفر قبل أن يدخل مكَّة، فانتقل سفيان إلى البصرة، فمات فيها(5) متوارياً عن سلطانها، ودفن عِشَاءً.
          قال ابن خلِّكان(6) : أجمع النَّاس على دينه، وزهده، وورعه، وثقته، وهو أحد الأئمَّة المجتهدين، ويقال: إنَّ الشَّيخ أبا القاسم الجُنيد كان على مذهبه على اختلاف فيه.
          قال سفيان بن عيينة: ما رأيت رجلاً أعلم بالحلال والحرام من سفيان الثَّوريِّ. وقال ابن المبارك: لا يُعلم على وجه الأرض أعلم من سفيان الثَّوريِّ. ويقال: كان عمر بن الخطَّاب على زمانه رأسَ النَّاس، وبعده عبد الله بن عبَّاس، وبعده الشَّعبيُّ، وبعده سفيان الثَّوريُّ.
          قال القَعْقَاع بن حكيم: كنت عند المهديِّ، وأتى سفيان الثَّوريُّ، فلمَّا دخل عليه، سلَّم تسليم العامَّة، ولم يسلِّم بالخلافة، والرَّبيع قائم على رأسه، متَّكئ على سيفه، يرقب أمره، فأقبل عليه المهديُّ بوجه طَلْق، وقال: يا سفيان، تفرُّ منَّا ههنا وهاهنا، وتظنُّ أنَّا لو أردناك بسوء لم نقدر عليك، فقد قدرنا عليك الآن، أفما تخشى أن نحكم فيك بهوانا؟ قال سفيان: إن تحكم فيَّ بهواك يحكم فيك مَلِكٌ قادر يفرق بين الحقِّ والباطل. فقال له الرَّبيع: يا أمير المؤمنين، ألهذا الجاهل أن يستقبلك بمثل هذا؟ ائذن لي أن / أضرب عنقه. فقال له المهديُّ: اسكت ويحك، وهل يريد هذا وأمثاله إلَّا أن نقتلهم؟ فنشقى بسعادتهم، اكتبوا عهده على قضاء الكوفة على أن لا يعترض عليه في حكم. فكتب عهده، ودفع إليه، فأخذه وخرج، فرمى به في دِجْلَةَ وهرب، فطلب في كلِّ بلد، فلم يوجد، ولم يُعْقِب الثَّوريُّ، ⌂.
          قال أبو نصر(7) : سمع سفيان: أبا إسحاق السَّبِيْعِيَّ، وأبا إسحاق الشَّيبانيَّ: اسمه سليمان بن فيروز، وإسماعيل بن أبي خالد، وحُميداً الطَّويل، ومنصوراً، والأعمش، وعمرو بن دينار، وأبا الزِّنَاد، وحَبيب بن أبي ثابت، [وعاصم بن سليمان، وعبد الله بن دينار] .
          روى عنه عبد الله بن المبارك، ويحيى القطَّان، ووكيع، وخَلاَّد بن يحيى، وقَبْيَصة، ومحمَّد بن كَثير.
          روى عنه البخاريُّ بالواسطة في مواضع، أوَّلها: في باب علامات النِّفاق، من كتاب الإيمان [خ¦34] .
          قال الكلاباذيُّ: وقدم سفيان بُخَارَى في سنة خمس عشرة ومئة، وهو ابن ثمان عشرة سنة، قال أبو نعيم الأصفهاني في الحلية، في ترجمة سفيان(8) : كانت له النُّكت الرَّائقة، والأفكار الفائقة، مسلَّم له الإمامة، ومثبت به الرِّعاية(9) ، العلم حليفه، والزُّهد أليفه. قال عبد الرَّحمن بن مهديٍّ(10) : أدركت من النَّاس الأئمَّة منهم أربعة: مالك بن أنس، وحمَّاد بن زيد، وسفيان بن سعيد، وعبد الله بن المبارك.
          قال أبو أسامة: كنت بالبصرة حين مات سفيان الثَّوريُّ، فلقيت يزيدَ بن إبراهيم صبيحةَ التي مات فيها سفيان، فقال: قيل لي اللَّيلة في منامي: مات أمير المؤمنين. فقلت للذي يقول لي في المنام: مات سفيان الثَّوريُّ؟ فقال: قد مات اللَّيلة. وكان قد مات تلك اللَّيلة، ولم يعلم.
          قال محمَّد بن عُبيد الطَّنافسيُّ: لا أذكر الثَّوريَّ إلَّا وهو يفتي من خمسين(11) سنة، ونحن بالكُتَّاب تمرُّ بنا المرأة والرَّجل فيسترشدوننا إلى سفيان؛ ليستفتوه فيفتيهم.
          قال بشر بن الحارث الحافي: كان الثَّوريُّ عندي إمام النَّاس.
          قال مبارك بن سعيد: رأيت عاصم بن أبي النَّجُود يجيء إلى الثَّوريِّ فيستفتيه، ويقول: أتيناك يا سفيان صغيراً، وأتيناك كبيراً.
          قال ابن عُيينة: ما رأيت أحداً أفضل من سفيان، ولا رأى سفيان مثل نفسه.
          قال الأوزاعيُّ: لو قيل: اختر رجلاً يقوم بكتاب الله وسنَّة نبيِّه لاخترت سفيان.
          قال فُضيلُ بن عِيَاض: إنَّ هؤلاء شربت قلوبُهم حبَّ أبي حنيفة، وأفرطوا فيه، حتَّى لا يرون [أنَّ] أحداً كان أعلم منه، كما أفرطت الشِّيعة / في حب عليٍّ، وكان سفيان _واللَّهِ_ أعلمَ منه.
          قال إبراهيم بن محمَّد: قلت لابن المبارك: رأيت مثل الثَّوريِّ؟ فقال: وهل رأى الثَّوريُّ مثل نفسه؟!.
          قال أبو بكر بن عَيَّاش: إنِّي لأرى الرَّجل يحدِّث عن سفيان، فينبُل في عيني، وإنِّي لأرى الرَّجل يصحب سفيان، فيعظم في عيني.
          قال ابن المبارك: إنِّي ليعجبني مجالسة سفيان، كنت إذا شئت(12) رأيته في الورع، وإذا شئت رأيت(13) مصليّاً، وإذا شئت رأيت غائصاً(14) في الفقه. قال مؤمِّل: ما رأيت عالماً يعمل بعلمه إلَّا سفيان. قال أيوب بن سُويد: ما سألنا سفيان عن شيء إلَّا وجدنا عنده أثراً ماضياً، أو أثراً من عالِم قبله. قال أحمد بن يونس: ما رأيت أحداً أعلم، ولا أورع، ولا أفقه، ولا أزهد من سفيان. قال يحيى بن سعيد: ما كتبت عن سفيان عن الأعمش أحبُّ إلي ممَّا سمعت من الأعمش.
          قال أبو أسامة: من أخبرك بأنَّه رأى بعينه مثل سفيان الثَّوريِّ فلا تصدِّقه. قال سهل بن عاصم: سمعت ثابتاً أو إسماعيل الزَّاهد يقول: رحم الله سفيان، يا زين الفقهاء، يا سيِّد العلماء، يا قرَّة(15) العيون، تبكي العيون لفقده، يا واصل(16) الأرحام. ثمَّ قال: أصيب(17) المسلمون بعمر بن الخطَّاب في زمانه، وأصبنا بسفيان في زماننا.
          قال يحيى بن سعيد _وسألوه عن سفيان وشعبة_ فقال: ليس الأمر بالمحاباة، فلو كان [الأمر] بالمحاباة لقدَّمنا شعبة، سفيانُ مقدَّم، سفيان يرجع إلى كتاب، وشعبة لا يرجع إلى كتاب، وسفيان أحفظهما، فقد رأيناهما يختلفان، فوجدنا الأمر على ما قال سفيان.
          قال شريك: إنَّ الله لا يدع الأرض من حُجَّة يكون لله على عباده، يقول: ما منعكم أن تكونوا مثل فلان؟ قال شريك: ونرى أنَّ سفيان منهم.
          قال أبو المثنَّى: سمعت النَّاس بمرو يقولون: جاء الثَّوريُّ، جاء الثَّوريُّ، فخرجت أنظر إليه، فإذا هو غلام قد نبتت لحية وجهه(18) .
          قال أيُّوب(19) السَّخْتِيانيُّ: ما قدم علينا الكوفة أفضل من سفيان الثَّوريِّ. قال عثمان بن زائدة: ما رأيت مثل سفيان قطُّ، بسفيان أقتدي، وعليه أبكي(20) .
          قال سفيان الثَّوريُّ: كان الرَّجل إذا أراد أن يكتب الحديث تأدَّب وتعبَّد قبل ذلك بعشرين سنة. وقال: زيِّنوا العلم بأنفسكم، ولا تَزَيَّنُوا بالعلم. وقال: الأعمال السَّيِّئة داء، والعلماء دواء، فإذا فسد العلماء، فمن يشفي الدَّاء؟ والعالم طبيب الدِّين، والدِّرهم داء الدِّين، فإذا اجترَّ(21) الطَّبيب الدَّاء إلى نفسه، فمن يداوي غيره؟ وما أطاق أحد / العبادة إلَّا بشدة الخوف، وإنَّما يُطلب العلم ليُتَّقَى الله (به)، فمن ثَمَّ(22) فَضُل، ولولا ذلك لكان كسائر الأشياء، وحسن الأدب يطفىء غضب الرَّبِّ.
          وقال: تعلَّموا هذا العلم، واكظموا عليه، ولا تخلطوه بضحك و [لا] لعب، فتمجُّه القلوب، وإنَّما هو طلبه، ثمَّ حفظه، ثمَّ العمل به، ثمَّ نشره. قال: وكان يقال: أوَّل العلم الصَّمت له، الثَّاني الاستماع له وحفظه، الثَّالث العمل به، الرابع نشره وتعليمه، ومن حدَّث قبل أن يحتاج إليه ذلَّ، وليس عملٌ بعد الفرائض أفضل من طلب العلم، ولا نزال نتعلَّم ما وجدنا من يعلِّمنا، والحديث أكثر من الذَّهب والفضَّة، وليس يدرك، وفتنة الحديث أشدُّ من فتنة الذَّهب والفضَّة، ومن ازداد علماً ازداد وجعاً، وودت أن أنجو من هذا الأمر كفافاً لا عليَّ ولا لي.
          قيل: إنَّه رؤي سفيان يبكي، وهو جالس بين كتبه، فقيل له: ما يبكيك؟ قال: خوف الله تعالى. قيل: أتخاف، وهذا العلم، وهذه الكتب حجَّتك؟ قال: وبكائي من ذلك، أخاف أن يكون حجَّة عليَّ لا لي. وكان قد جفَّ جلده على عظمه من الخوف، ولمَّا مرض أُخذ بوله إلى طبيب نصرانيٍّ لينظر في أمره، فلمَّا رأى قال: ما كنت أظنُّ في [أنَّ] الحنيفيَّة مثله، هذا رجل قد قطَّع الخوف كبده.
          قال عبد الرَّحمن بن مهديٍّ: كنَّا عند سفيان وهو يحدِّثنا، ثمَّ وثب، فقال: إنَّ النَّهار يعمل عمله.
          قال يحيى بن يمان(23) : ما سمعت سفيان يعيب العلم قطُّ، ولا من يطلبه. قالوا: ليس لهم نيَّة. قال: طلبهم العلم نيَّة.
          قال عيسى بن يونس: مات سفيان مستخفياً، قد جعل قميصه خريطة قد ملأها كتباً. قال سفيان: من رَقَّ وجهه، رق علمه، وليس طلب الحديث من عدَّة الموت، لكنَّه يتشاغل به الرَّجل. وقال: أكثروا من الأحاديث، فإنَّها سلاح.
          قال حمَّاد بن دليل(24) : ما كنَّا نأتي سفيان إلا في خُلْقَانِ(25) ثيابنا.
          وقال قَبيصة: ما رأيت الأغنياء أذلَّ منهم في مجلس الثَّوريِّ، ولا الفقراء(26) أعزَّ منهم في مجلسه، وكان يقول لأصحاب الحديث: تقدَّموا يا معشر الضُّعفاء.
          قال زيد بن الحُبَاب: سمعت سفيان، وقد سأله شيخ عن حديث فلم يجبه، فجلس الشَّيخ يبكي، فقال: يا هذا، تريد ما أخذته في أربعين سنة تأخذه في يوم واحد.


[1] في غير (ن): (عالماً ورعاً حافظاً متقناً).
[2] الأنساب:1/517.
[3] في غير (ن): (المشهور).
[4] في غير (ن): (قدومه).
[5] في غير (ن): (بها).
[6] وفيات الأعيان 2/386.
[7] الهداية والإرشاد:1/329.
[8] 3/134.
[9] في (ن): (ومشيت به الدعامة) وفي غيرها (ثبت له الزعامة) والمثبت من الحلية.
[10] في غير (ن): (المهدي).
[11] في غير (ن): (سبعين) وكذا هو في الحلية وهو خطأ لأنه سبق أن الثوري عاش ستاً وستين سنة فقط.
[12] في غير (ن): (شئته).
[13] في غير (ن): (رأيتهأ) وكذلك ما بعده.
[14] في غير (ن): (غامضاً) وغمض هنا بمعنى غاص فيه، يقال غمض فلان في الأرض، إذا ذهب فيها. (اللسان: غمض).
[15] في غير (ن): (يا قرير).
[16] في غير (ن): (على واصل).
[17] في غير (ن): (ما أصيب).
[18] في غير (ن): (قد بقل وجهه).
[19] في (ن) تصحيفاً: (أبو أيوب).
[20] في غير (ن): (نبكي).
[21] في غير (ن): (جرَّ).
[22] في غير (ن): (فمن عمل).
[23] في غير (ن): (سليمان) وهو تصحيف.
[24] في (ن) تصحيفاً: (حماد بن زيد) وإنَّما هو أبو زيد، قاضي المدائن، من أصحاب أبي حنيفة، وثقه ابن معين، وقال أبو داود: ليس به بأس، وذكره ابن حبان في الثقات، تهذيب الكمال:7/238.
[25] في (ن) تصحيفاً: (خلقات).
[26] في غير (ن): (القراء).