غاية المرام في رجال البخاري إلى سيد الأنام

سعيد بن المسيب

          470 # سَعِيْدُ بنُ المُسَيَّب، بضمِّ الميم، وفتح المهملة، وفتح المثنَّاة التَّحتيَّة، وقيل: بكسرها، آخرها موحَّدة. قال الكرمانيُّ(1) : كان يكره فتح ياء المسيَّب. قال ابن خلِّكان(2) : ونُقل عن سعيد أنَّه كان يكسر الياء، ويقول سيَّبَ الله من سيَّبَ أبي. وهو ابن حَزْن، بفتح المهملة، وسكون الزَّاي، آخره نون، أبو محمَّد القرشيُّ، المخزوميُّ، التابعيُّ، المدنيُّ.
          أحد العلماء الأثبات، والفقهاء السَّبعة، إمام التَّابعين، خَتَنُ أبي هريرة ابن بنته(3) .
          ولد لسنتين مضتا من خلافة عمر بن الخطَّاب، قال الإمام أحمد: سعيد أفضل التَّابعين، فقيل له: سعيد عن عمر حجَّة؟ فقال: هو حجَّة، قد سمع من عمر، فإذا لم يُقبل سعيد عن عمر، فمن يقبل؟ قلت: وإنَّما سئل عن ذلك، لا لطعنٍ فيه _حاشاه_ ولكن لصغر سنِّه، قيل: إنَّ سعيداً رأسُ مَنْ بالمدينة في دهره، المقدَّمُ عليهم في الفتوى. ويقال له: فقيه الفقهاء. قال النَّوويُّ(4) : قولهم: إنَّ سعيداً أفضل التَّابعين، فمرادهم أفضلهم في علوم الشَّرع، وإلَّا ففي صحيح مسلم [خ¦2542] عن عمر بن الخطَّاب قال: سمعت رسول الله صلعم يقول: «إنَّ خير التَّابعين رجل يقال له: أُويس وبه بياض، فليستغفر لكم».
          قال أبو حاتم: ليس في التَّابعين أنبلُ من ابن المسيَّب، وهو أثبتهم، وأبوه وجدُّه صحابيَّان، أسلما يوم الفتح. قاله الكرمانيُّ(5) ، وهو المرجَّح عند مُصعب الزُّبيريِّ، والأرجح عند ابن الأثير(6) وغيره أنَّهما من المهاجرين، وحضرا بيعة الرِّضوان، كما سيأتي في ترجمتهما، إن شاء الله تعالى.
          قال سليمان بن موسى: كان هو أفقه التَّابعين. قال ابن المدينيِّ: هو أجلُّ التَّابعين. قال سعيد: ما بقي أحد أعلمَ بكلِّ قضاء قضاه رسول الله صلعم، وكلِّ قضاء قضاه أبو بكر، وكلِّ قضاء قضاه عُمر، وكلِّ قضاء قضاه عثمان منِّي. قال ابن المدينيِّ: لا أعلم في التَّابعين أوسع علماً من سعيد، فإنِّي نظرت فيما روى عنه(7) الزُّهْرِيُّ وقَتادَة، ويحيى بن سعيد، وعبد الرَّحمن بن حَرْمَلَةَ، فإذا كلُّ واحد منهم لا يكاد يروي ما يرويه الآخر، ولا يشبهه، فعلمت أنَّ ذلك لسعة علمه، وكثرة روايته. قال أحمد بن عبد الله: كان صالحاً فقيهاً، حجَّ أربعين حجَّة، لا يأخذ العطاء، وكان له بضاعة أربع مئة دينار يتَّجر بها في الزَّيت، وقال قتيبة: إنَّ جدَّه حَزْناً أتى النبي صلعم فقال: «ما اسمك»؟ قال: حَزْن، قال: «بل أنت سَهْل». قال: بل أنا حَزْنٌ ثلاثاً، قال سعيد: فما زلنا نعرف الحزونة فينا. وكان جابر بن(8) الأسود / على المدينة، فدعا سعيداً إلى البيعة لابن الزُّبير، فأبى، فضربه ستِّين سوطاً، وطاف به المدينة، فلمَّا رأى وجوه النَّاس قال: هذه وجوه ما نظرت إليها من أربعين سنة؛ لأنَّه لم يخرج من المسجد، فبلغ الخبر ابن الزُّبير، فكتب إليه يلومه، ويقول: ما لنا ولسعيد؟ دعه، دعه. ثمَّ منع الوالي النَّاس من مجالسته، فتحاموه، فقال: اللَّهم (إنَّهم) جلدوني، ومنعوا النَّاس أن يجالسوني. وقيل: ضربه هشام بن إسماعيل _أيضاً_ حين امتنع من البيعة للوليد، وحبسه، وحلقه. قال ابن المدينيِّ: لا أعلم في التَّابعين أوسع علماً منه.
          قال الشَّافعيُّ(9) : تتبَّعت مراسيل ابن المُسَيَّبِ، فوجدتها مسانيد. قلت: فلذا لم يعمل الشَّافعيُّ بمراسيل التَّابعين سوى مراسيل سعيد؛ لأنَّها في الحقيقة مسانيد، واتَّفقوا على أنَّ مراسيله أصحُّ المراسيل.
          كان سيَّد التَّابعين، من الطِّراز الأوَّل. جمع بين الحديث والفقه والزُّهد، والعبادة والورع، ولمَّا مات العبادلة أعني: عبد الله بن عُمَر، وابن عبَّاس، وابن عَمْرو، وابن الزُّبير، صار الفقه في جميع البلدان إلى الموالي، فكان فقيه أهل مكَّة عطاء بن أبي رباح، وفقيه أهل اليمن طاووس، وفقيه أهل اليمامة يحيى بن أبي كَثير، وفقيه أهل البصرة الحسن البصريُّ، وفقيه الشام مكحول، وفقيه خراسان عطاء الخراسانيُّ، إلَّا المدينة، فإَّن الله تعالى خصَّها بقرشيٍّ، فكان فقيه أهل المدينة سعيد بن المُسَيَّب غير مدافع، وكان قد لقي جماعة من الصَّحابة، وسمع منهم، ودخل على أزواج النَّبيِّ صلعم، وأخذ عنهنَّ(10) ، وأكثر الرِّواية عن أبي هريرة، وسئل الزُّهريُّ ومكحول: مَنْ أفقه من أدركتما؟ فقالا: سعيد بن المسيَّب.
          روي عنه أنَّه قال: ما فاتتني الصَّلاة في(11) الجماعة منذ أربعين سنة، وما أذَّن المؤذِّن منذ ثلاثين سنة إلَّا وأنا في المسجد، وما نظرت إلى قفا رجل في الصَّلاة منذ أربعين سنة؛ لمحافظته على الصَّف الأوَّل، وعن سعيد أنَّه مكث أربعين سنة ما لقي النَّاس خارجين من المسجد وهو داخل، وكان يسرد الصَّوم سرداً، فكانت نفسه أهونَ عليه في ذات الله تعالى من نفس ذُباب، وكان يقول: ما أكرم العبد نفسه بمثل طاعة الله، ولا(12) أهان نفسه بمثل معصية الله. وكان أكثر كلامه: رَبِّ سلِّم، رب سلِّم، وكانت إحدى عينيه ذهبت، وهو ابن أربع وثمانين سنة، وهو يعيش بالأخرى، وقال: ما شيء أخوف عليَّ من النِّساء. يعني فتنتهنَّ. قيل: لمَّا نزل(13) الماء في عين سعيد بن المسيَّب، قيل له: اقْدَحْهَا. قال: فعلى من أفتحها؟
          وكان من تواضعه ☺ أنَّه زوَّج ابنته بدرهمين من أبي وَدَاعَةَ، قال أبو وداعة: كنت أجالس سعيداً، ففقدني أيَّاماً، فلما جئته قال: أين كنت؟ قلت: توفِّيت أهلي، فاشتغلت. قال: هلاَّ أخبرتنا، فشهدنا. فلمَّا أردتُ أن أقوم قال: استحدثت غيرها؟ / فقلت: يرحمك الله، ومن يزوِّجني؟ وما أملك إلَّا درهمين، أو ثلاثة. قال سعيد: أنا أزوِّجك بدرهمين. قلت: وتفعل؟ قال: نعم. ثمَّ حمد الله تعالى، وصلَّى على النَّبيِّ محمَّد وآله، وزوَّجني بنته بدرهمين، قال: فقمت، وما أدري ما أصنع من الفرح؟ فصرت إلى منزلي، وجعلت أتفكَّر في ضُرِّي وفاقتي، فصليت المغرب، وشعلت السِّراج، وكنت صائماً وحيداً، فقدَّمت فطوري خبزاً وزيتاً، وإذا بالباب(14) يُقرع، فقلت: من هذا؟ قال: سعيد. فتفكَّرت في كلِّ إنسان اسمه سعيد إلَّا سعيدَ بنَ المسيَّب، فإنَّه لم يُر أربعين سنة خارج المسجد، فقمت، ففتحت الباب، فإذا هو، فظننت أنَّه قد بدا له، فقلت: أبا محمَّد، ألا أرسلتَ إليَّ فآتيك؟ قال: لا، أنت أحقُّ أن تُقصد. قلت: فما تأمرني؟ قال: إنَّك كنت رجلاً عَزَباً، فتزوَّجت، وكرهتُ أن أبيِّتك اللَّيلة وحدك، وهذه امرأتك. فإذا هي قائمةٌ من خَلْفِه، وهي قدر قامته، ثمَّ أخذ بيدها، فقدَّمها إلى الباب، فدفعها لي، وردَّ الباب ومضى، فسقطت المرأة على وجهها من فَرْطِ الحياء، قال: فوضعتُ القصعة التي فيها الخبز والزيت في ظل السِّراج كي لا تراها، ثمَّ صعدت إلى السَّطح، فأعلمت الجيران، فجاؤوني، وقالوا: ما شأنك؟ قلت: زوَّجني سعيدُ بنُ المسيَّبِ بنته اليوم، وقد جاءني بها في غفلة. فقالوا متعجِّبين(15) : سعيد زَوَّجَك؟ قلت: نعم، وها هي في بيتي. قال: فنزل الجيران إليها، وبلغ أمِّي الخبر، فجاءت، وقالت: وجهي من وجهك حرام إن مَسِسْتَهَا قبل أن أصلحها في ثلاثة أيَّام. قال: فأقمتُ ثلاثة أيَّام، ثمَّ دخلت بها، فإذا هي من أجمل النِّساء، وأحفظهم لكتاب الله، وأعلمهم بسنَّة رسول الله صلعم، وأعلمهم بحقِّ الزَّوج، قال: فمكثت شهراً لا آتي سعيداً، ثمَّ أتيته، وهو في حَلْقَتِه، فسلَّمت عليه، فردَّ عليَّ السَّلام، ولم يكلِّمني حتَّى تفرَّق أهل المسجد(16) ، ولم يبق غيري، (ثمَّ) قال: ما حال ذاك الإنسان؟ قلت: بخير يا أبا محمَّد، على ما يحبُّ الصَّديق، ويكره العدوُّ. قال: فإن رابك شيء فالعصا. فانصرفت إلى منزلي، فوجَّه إلي بعشرين ألف درهم، وكان عبد الملك بن مروان قد خَطَب بنت سعيد لابنه الوليد، فأبى، فاحتال على سعيد حتَّى ضربه مئة سوط في يوم بارد(17) ، وصبَّ عليه جَرَّةَ ماء، وألبسه جبَّة صوف، وعن بعض أهل المدينة، كما قال ابن خلِّكان(18) : لمَّا كانت بيعة سليمان بن عبد الملك مع بيعة الوليد، كره سعيد / بن المسيَّب أن يبايع بيعتين، فكتب صاحب المدينة إلى عبد الملك يخبره أنَّ سعيداً كره أن يبايع لهما جميعاً. فكتب عبد الملك إلى صاحب المدينة: وما كان حاجتك إلى رفع هذا عن سعيد بن المسيب؟ ما كنا نخاف منه، فأمَّا إذا ظهر ذلك، وانتشر في النَّاس، فادْعُه إلى ما دخل فيه من دخل في هذه البيعة، فإن أبى، فاجلده مئة سوط، واحلق رأسه ولحيته، وألبسه ثياباً من شعر، ووقِّفه على النَّاس في سوق المسلمين؛ لئلَّا يجترئ علينا غيره.
          قال أبو نصر(19) : سمع عليَّ بنَ أبي طالب، وعثمانَ بنَ عفَّان، وحَكِيْمَ بن حِزَام، [وعبد الله بن عمرو، وأبا هريرة، وأبا سعيد الخدري، وعائشة، وأباه المسيب. روى عنه: الزُّهريُّ، وقتادة] ، وعَمْرو بن مُرَّة، وطارق بن عبد الرَّحمن. نقل عنه البخاريُّ بالواسطة، في مواضع أوَّلها: في باب من قال: إن الإيمان هو العمل(20) ، من كتاب الإيمان [خ¦26] .
          توفِّي سنة أربع، أو خمس، أو ثنتين(21) ، أو ثلاث وتسعين، عن ثمانين سنة. واحتلم في مقتل عثمان، ☺. قال عمرو بن دينار: لمَّا سمع ابن عبَّاس موت زيد بن ثابت قال: هكذا يذهب العلم. ولمَّا مات ابن عبَّاس قال ابن المسيَّب: هكذا يذهب العلم. وأقول أنا لمَّا مات سعيد: هكذا يذهب العلم.
          وكانوا يسمُّون سعيداً راوية عمر؛ لأنَّه كان أحفظَ النَّاس لأحكامه، وسئل عبد الله بن عمر عن مسألة، فقال للسَّائل: سل سعيد بن المسيَّب، ثمَّ أخبرني. ففعل، فقال: ألم أخبرك أنَّه أحد العلماء؟!
          وكان من أعلم النَّاس بتعبير الرُّؤيا. قال له رجل: رأيت كأنَّ عبد الملك بن مروان يبول في قبلة مسجد رسول الله صلعم أربع مرَّات. قال: إن صدقت رؤياك قام فيه من صُلْبِه أربعة من الخلفاء. وكان كذلك، وقال رجل: رأيت كأنِّي أخذت عبد الملك بن مروان، وأوتدت في ظهره أربعة أوتاد. فقال له: لم تر أنت هذا. قال، بلى. قال: لا، أخبرني لأخبرك. قال: إنَّ عبد الله بن الزبير رآها. قال: لئن(22) صدقت رؤياه(23) ليقتلنَّه عبد الملك، ويخرج من صلب عبد الملك أربعة كلُّهم خلفاء.
          وحجَّ عبد الملك، فلمَّا كان بالمدينة طلب من يحدِّثه من أهل العلم، فخرج الحاجب إلى المسجد، فقال: أجب أمير المؤمنين، فقد طلب من يحدِّثه. فقال: لست من حُدَّاثِه. فعاد الحاجب، فأخبره، فقال: دعه، ذاك سعيد بن المسيَّب.
          تتمَّة:
          سيأتي ذكر والد سعيد وجدِّه أيضاً في ترجمة المسيِّب، فليُضرَبْ عنه صَفْحاً.


[1] شرح البخاري:1/125- 126.
[2] وفيات الأعيان 2/378، وأخباره فيه.
[3] في غير (ن): (ببنته).
[4] شرح النووي على مسلم:16/95.
[5] شرح البخاري:1/126.
[6] أسد الغابة:5/172.
[7] في غير (ن): (روي عن).
[8] في (ن) تصحيفاً: (جابرن).
[9] انظر المجموع للنووي:1/61، 11/201. طبعة دار الفكر.
[10] في غير (ن): (عنهم).
[11] في غير (ن): (مع).
[12] في (ن) تصحيفاً: (ولو).
[13] في غير (ن): (نزلت).
[14] في غير (ن): (بابي).
[15] في غير (ن): (فبقوا متعجبين فقالوا).
[16] في غير (ن): (المجلس).
[17] في (ن): (باردة).
[18] وفيات الأعيان:2/377، وأخباره فيه.
[19] الهداية والإرشاد:1/292، وما بين حاصرتين مستدرك منه، وقد سقط من الأصول كلها.
[20] في (ن) (باب من قال لا يجوز).
[21] في غير (ن): (اثنين).
[22] في غير (ن): (إن).
[23] في (ن) تصحيفاً: (رؤياك) وجاء فيها (ليقتله).