غاية المرام في رجال البخاري إلى سيد الأنام

سعد بن معاذ

          438 # سَعْدُ بنُ مُعَاذ بن النُّعْمَان بنِ امرىءِ القَيْس الأنصاريُّ، الأَوْسِيُّ، ثمَّ الأَشْهَلِيُّ، الصَّحابيُّ أبو عَمرو، وأمُّه كَبْشَةُ بنتُ رافع الصحابية، ♦.
          أسلم سعد على يد مُصْعَب بن عُمير، وقد ذكرنا القصَّة في ترجمة أُسَيْدِ بنِ حُضَيْر، فراجعها، وكان إسلامه لمَّا بعث رسول الله صلعم مُصْعَباً إلى المدينة يعلِّم المسلمين القرآن، فلمَّا أسلم قال لبني عبد الأشهل: كلام رجالكم ونسائكم عليَّ حرام حتَّى تسلموا. فأسلموا، فكان من أعظم الناس بركة في الإسلام، وشهد بدراً، وأحداً، والخندق.
          عن عائشة أنَّها كانت في حصن بني حارثة يوم الخندق، وكانت أمُّ سعد بن معاذ معها، وذلك قبل أن يُضْرَبَ الحِجَاب، وكان صلعم حين خرجوا إلى الخندق أمرهم فرفعوا الذَّراري والنِّساء في الحصون مخافةً عليهم، (وآمنَ) من العدو. قالت عائشة: فمرَّ سعدٌ وعليه درع مُقلَّصة، قد خرجت منها ذراعه، وفي يده حربة، وهو يرتجز، فقالت أمُّه: الْحق يا بنيَّ، فقد تأخَّرت. فقالت عائشة: يا أمَّ سعد! لوددت أنَّ درع سعد أسبغ ممَّا هي. فخافت عليه من حيث أصيب السَّهم منه.
          قال يونس: عن ابن إسحاق، فرماه حِبَّانُ بن العَرِقَة _وهو من بني عامر بن لؤيٍّ_ فقطع أكحله(1) ، فلمَّا رماه قال: خذها منِّي وأنا ابن العَرِقَة. فقال سعد: عرَّق الله وجهك في النَّار، اللَّهم إن كنتَ أبقيت من حرب قريش شيئاً فأبقني لها، / فإنَّه لا قومَ أحبُّ إلي أن [أجاهد] من قوم آذَوا رسولك، وكذَّبوه وأخرجوه، وإن كنت وضعت الحرب بيننا وبينهم فاجعله لي شهادة، ولا تمتني حتَّى تقرَّ عيني من بني قريظة.
          وهذا حِبَّان بكسر المهملة. سُمِّي ابنَ العَرِقَة؛ لأنَّ أمَّه كانت طيِّبة الرِّيح، وهي من بني سَهْم، لكن قال كعب بن مالك: ما أصاب سعداً بالسَّهم إلَّا أبو أسامة الجُشَمِيُّ، قال: وكان رسول الله صلعم حين أصاب سعداً السَّهمُ أمر أن يُجعل في خيمة رَفِيْدَةَ السُّلَميَّة في المسجد ليعود من قريب(2) ، فلمَّا حصر رسول الله صلعم قريظة، وأذعنوا أن ينزلوا على حكم سعد، فأرسل رسول الله صلعم إليه ليحضره، ويحكم فيهم، فأقبل على حمار، فلمَّا دنا من النَّبيِّ صلعم قال: «قوموا إلى سيِّدكم(3) أو قال خيركم». فقاموا إليه، فقالوا: يا أبا عَمْرو! قد ولَّاك رسول الله صلعم أمر مواليك لتحكم فيهم. فقال سعد: عليكم بذلك عهد الله وميثاقه؟ قالوا: نعم. قال: وعلى من هاهنا؟ من النَّاحية التي فيها رسول الله صلعم ومن معه، وهو معرض عن رسول الله صلعم إجلالاً له، قال رسول الله صلعم: نعم. فقال سعد: أحكم أن يقتل الرِّجال، وتقسم الأموال، وتسبى الذَّراري. فقال صلعم: «لقد حكمت بحكم الملك من فوق سبعة أرقعة».(4) وكان سعد لمَّا جُرح ودعا انقطع الدَّم، فلمَّا حكم في قريظة انفجر(5) عرقهُ، وكان صلعم يعوده، وأبو بكر، وعمر، والمسلمون، قالت عائشة: فوالذي نفسي بيده! إنِّي لأعرف بكاء أبي بكر من بكاء عمر. قال عَمْرو بن شُرَحْبِيْل: لمَّا انفجر جرح سعد احتضنه رسول الله صلعم، فجعلت الدِّماء تسيل على رسول الله صلعم، فجاء أبو بكر، فقال: وانكسار ظهراه! فقال له النَّبيُّ صلعم: «مَه». فقال أبو بكر: إنَّا لله وإنَّا إليه راجعون(6) .
          وروي أنَّ جبريل نزل إلى النَّبيِّ صلعم وهو معتجر بعمامة من إستبرق، فقال: يا نبيَّ الله! من هذا الذي فتحت له أبواب السَّماء، واهتزَّ له العرش؟ فخرج صلعم سريعاً يجرُّ ثوبه، فوجد سعداً قد قبض، فلمَّا دفن، وانصرف صلعم من جنازته جعلت دموعه تنحدر على لحيته ويده في لحيته، ولمَّا ندبته أمُّه قال رسول الله صلعم: «كلُّ نادبة كاذبة إلَّا نادبةَ سعد»(7) .
          عن جابر قال: سمعت رسول الله صلعم يقول: «اهتزَّ عرش الرَّحمن لموت سعد بن معاذ». فقيل لجابر: إنَّ البراء يقول: اهتزَّ (السَّرير. فقال جابر: إنَّه كان / بين هذين الحيَّين الأوس والخزرج ضغائن، سمعته صلعم يقول: «اهتزَّ) عرش الرَّحمن لموت سعد بن معاذ».(8)
          قال البراء: أهدي لرسول الله صلعم ثوب حرير، فجعلوا يتعجَّبون من لينه، فقال صلعم: «أتعجبون من هذا؟ لمناديلُ سعدٍ في الجنَّة ألينُ من هذا وأحسن»(9) . قلت: هذا الثَّوب الذي كان لأخي أُكيدرِ دُومةِ الجَنْدل، [اسمه حسَّان،] قتله خالد بن الوليد، وبعثه(10) إلى رسول الله صلعم وكان مخوَّصاً [بالذَّهب] ، وقد ذكرنا قصَّته في خالد بن الوليد.
          [قال ابن سيِّد النَّاس في آخر غزوة الخندق(11) : إنَّ صاحب دُومة الجندل بعث ببغلةٍ وجبَّة سندسٍ إلى رسول الله صلعم، فتعجَّب الصَّحابة من حسن الجبَّة، فقال النَّبيُّ صلعم القول.
          قال الدَّميريُّ: قال سعد بن معاذ: ثلاثة أشياء قَوَيتُ عليها: ما مشيت في جنازة قطُّ إلَّا كنت مفكِّراً فيما يقال لها، وما به تحبس، ولا صلَّيت صلاة فحدَّثت بها نفسي، ولا بلغني سنَّة عن النَّبيِّ صلعم إلَّا عملت بها]
.
          عن أنس لمَّا حُملت جنازة سعد بن معاذ، قال المنافقون: ما أخفَّ جنازته، وذلك لحكمه في بني قريظة. فبلغ ذلك النَّبيَّ صلعم فقال: «إنَّ الملائكة كانت تحمله»(12) .
          وعن سعد بن أبي وقَّاص أنَّه صلعم قال: «لقد شيَّع من الملائكة في جنازة سعد بن معاذ سبعون ألفاً ما وطئوا الأرض قبل». وبحقٍّ أعطاه الله تعالى، ومقاماته في الإسلام مشهودة مشهورة كثيرة، ولو لم يكن إلَّا يوم بدر _قاله ابن الأثير(13)_ لكان(14) فيه كفاية فضلاً عن الباقين، فإنَّ النَّبيَّ صلعم لمَّا سار إلى بدر، وأتاه خبر نفير قريش وكثرتهم، استشار النَّاس، فقام(15) له المقداد، فأحسن القول(16) ، وكذلك أبو بكر وعمر، وكان صلعم يريد الأنصار؛ لأنَّهم عدد النَّاس، فقال سعد بن معاذ: والله لكأنَّك تريدنا يا رسول الله؟ قال: «أجل». قال سعد: فقد آمنَّا بك وصدَّقناك، وشهدنا أنَّ ما جئت به الحقُّ، وأعطيناك مواثيقنا على الإسلام، والسَّمع والطَّاعة، فامض يا رسول الله لما أردت، فنحن معك، فوالذي بعثك بالحقِّ، لو استعرضت بنا هذا البحر، ما تخلَّف منَّا عنك رجل واحد، وما نكره أن تلقى بنا عدوَّنا غداً، إنَّا لصُبُرٌ عند الحرب، صُدُقٌ عند اللِّقاء، ولعلَّ الله يريك منَّا ما تَقَرُّ به عينُك، فسر بنا على بركة الله. فسُرَّ رسول الله صلعم بقوله، ونشَّطه ذلك للقاء الكفَّار. قال ابن الأثير(17) : وكفى بسعد ذلك فخراً، دع ما سواه.
          قال أبو نصر(18) : روى عنه عبد الله بن مسعود. نقل عنه البخاريُّ بالواسطة، في باب ذكر النَّبيِّ [خ¦3950] صلعم من يقتل ببدر، مات بعد قريظة، وكانت قريظة في ذي القعدة سنة خمس.


[1] في غير (ن): (في أكحله).
[2] في غير (ن): (ليعوده من قرب).
[3] في غير (ن): (لسيدكم).
[4] البخاري (3043) ومسلم (1768).
[5] في غير (ن): (انفجرت).
[6] المصنف لابن أبي شيبة (36809).
[7] أخرجه أبو الشيخ الأصفهاني في طبقات المحدثين بأصفهان:4/78.
[8] البخاري (3803) ومسلم (2466).
[9] البخاري (3802) ومسلم (2468).
[10] في غير (ن): (وبعث).
[11] عيون الأثر:2/109.
[12] منسد البزار:2/344.
[13] أسد الغابة:2/461، وما بعدها، وترجمته فيه.
[14] في غير (ن): (كان).
[15] في غير (ن): (فقال).
[16] في غير (ن): (المقال).
[17] أسد الغابة:2/464.
[18] رجال البخاري:1/301.